logo
نفخ فلسطيني في قربة عربية مثقوبة!!

بقلم : بقلم نقولا ناصر* ... 06.03.2010

سيكون من باب التمني، أو كما يقول المثل الشعبي العربي "كالنفخ في قربة مقطوعة"، أن يتراجع القادة العرب في مؤتمر قمتهم بليبيا أواخر الشهر الجاري عن قرار وزراء خارجيتهم يوم الأربعاء الماضي بتوفير غطاء عربي لتراجع المفاوض الفلسطيني عن شروطه المعلنة لاستئناف المفاوضات العقيمة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ليس لأن هؤلاء الوزراء هم ألسنة قادتهم فحسب، بل لأن المفاوض الفلسطيني و"شماعته" العربية ليس في جعبتهم أي خيار آخر غير الرضوخ للضغوط الأميركية التي ما زالوا بدورهم ينفخون في قربتها المثقوبة ويرهنون قرارهم العربي ومعه القرار الفلسطيني للسراب الخادع بأن واشنطن قد تتمكن في يوم ما من امتلاك الإرادة السياسية لممارسة ضغط على عصاها الإسرائيلية الإقليمية التي تستخدمها ضدهم جميعا لكي "تتنازل" أو تذعن لجعل المصالح الحيوية الأميركية، لا المصالح "الأمنية" الإسرائيلية، هي عماد السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، لكن كل الدلائل تؤكد المرة تلو الأخرى بأنه لا الإدارات الأميركية المتعاقبة ولا الحكومات العربية معنية حقا بمساهمة جادة في تحول كهذا.
واللافت للنظر في قرار وزراء خارجية الدول الأعضاء في لجنة متابعة مبادرة السلام العربية ليس فقط ما اعترضت سوريا عليه بأنه ليس من صلاحية اللجنة اتخاذ قرار كهذا، ولا ما اعترضت علية "المعارضة" الفلسطينية بأنه يفوض قيادة فلسطينية منتهية شرعيتها بالتفاوض، ولا ما اعترضت عليه فصائل فلسطينية أعضاء في منظمة التحرير التي تقودها رئاسة محمود عباس بأنه قرار مخالف لقرار سابق اتخذته اللجنة التنفيذية للمنظمة حول استئناف المفاوضات.
بل إن الأكثر لفتا للنظر أن قرار لجنة المتابعة يعبر لأول مرة عن موقف عربي سقفه أدنى من السقف السياسي المعلن للمفاوض الفلسطيني الذي كان دائما يستقوي بالسقف التفاوضي الأعلى للموقف العربي. ويلفت النظر أكثر أيضا أن لجنة المتابعة العربية قد أجازت الانفراد الفلسطيني بالتفاوض في تناقض صارخ مع مبادرة السلام العربية التي "تتابعها" والتي "أجمع" القادة العرب عليها تحديدا من أجل وضع حد لمزيد من الانفراد العربي في الصلح مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ومن أجل أن يسالموا جماعة إن عجزوا عن الحرب جماعة.
أما التناقض الأكبر في قرار لجنة المتابعة فيكمن في موافقة عربية على الإيحاء الخادع ب"تعريب" القرار التفاوضي الفلسطيني بينما يعرف وزراء الخارجية المعنيين وقادتهم أكثر من غيرهم بأن القيادة الفلسطينية المفاوضة إنما كانت تبحث عن مجرد غطاء عربي يمنحها شرعية عربية تمكنها من مواجهة شبه إجماع وطني فلسطيني رافض لاستئناف المفاوضات – في الأقل في إطار المعطيات السياسية والميدانية الراهنة – من أجل مواصلة مسار كان منذ البداية مسارا تفاوضيا منفردا وثنائيا غير عابئ بأي موافقة أو أي رفض عربي له ولتكتيكاته ومرجعياته، مسارا تجهد الدول العربية لمعرفة حيثياته وتفاصيله خشية أن يتمخض عن نتائج قد تكون سلبية على أمنها الوطني (الأردن مثالا) أو تكون سلبية على مسارات التفاوض الثنائية الأخرى (سوريا ولبنان).
وفي هذا السياق لا بد من تسجيل المفارقة الكامنة في حرص الرئاسة الفلسطينية المفاوضة على منح شرعية عربية لاستئناف المفاوضات بينما كانت هذه الرئاسة نفسها غير معنية حتى بالحصول على شرعية فلسطينية عندما فاوضت سرا ثم وقعت على "إعلان المبادئ" (اتفاق أوسلو) في واشنطن عام 1993، دون استئذان أحد من العرب أو نيل بركتاهم، من وراء ظهر الوفد الفلسطيني "الرسمي" الذي كان حينها يدير مفاوضات علنية شفافة في العاصمة الأميركية طوال اثنين وعشرين شهرا مما قاد رئيس هذا الوفد الراحل د. حيدر محي الدين عبد الشافي إلى الاستقالة في نيسان / أبريل عام 1993 بسبب الخلاف حول المستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية ورفضه أي تسوية بشأنها لا تنص على إزالتها.
وهذه هي نفسها العقدة التي تمنع في الوقت الحاضر حتى إجماع الفصائل المؤتلفة في إطار القيادة المفاوضة لمنظمة التحرير على استئناف المفاوضات دون "تجميدها"، ناهيك عن إزالتها بعد أن تفتقت عبقرية المفاوضين عن فكرة "تبادل الأراضي" لإبقائها تمهيدا لضمها إلى دولة الاحتلال، وهذه هي نفسها المستوطنات التي ألزمت الرئاسة المفاوضة نفسها بعدم استئناف المفاوضات قبل تجميدها كشرط مسبق ولو لفترة مؤقتة قبل أن تقرر تحت الضغط الأميركي التراجع عن شرطها بالبحث عن شماعة عربية تعلق عليها تراجعها، وقد وفرت لها لجنة المتابعة العربية يوم الأربعاء الماضي هذه الشماعة.
والمفارقة الثانية الجديرة بالتسجيل هنا أن لجنة المتابعة العربية قد اجتمعت وعلى جدول أعمالها الفلسطيني بند واحد فقط هو المقترح الأميركي باستئناف مفاوضات غير مباشرة، وأن الرئاسة الفلسطينية قد "طلبت" -- طبقا لكبير المفاوضين صائب عريقات في التاسع عشر من الشهر الماضي -- اجتماع وزراء الخارجية العرب الثلاثة عشر الأعضاء في اللجنة لبحث هذا المقترح الأميركي، دون أن تكلف إحداها أو الجانب الفلسطيني الذي طلب اجتماعها أنفسهم بإضافة أي مقترحات بديلة يبحثونها، ثم يغضبون جميعهم أو أكثرهم إن قال محلل أو معلق سياسي إن واشنطن هي التي تضع جداول الأعمال لهم، وإنهم جميعا أو أكثرهم يفتقدون الإرادة السياسية الحرة لكي لا تكون حركتهم السياسية مجرد ردود فعل مستجيبة للضغوط الأميركية.

وإذا كان لا يوجد على جدول أعمال القيادة الفلسطينية المفاوضة سوى بند واحد فقط هو التفاوض الذي بدونه لا يعود هناك أي مسوغ لوجودها، لأن "الحياة مفاوضات" كما كتب عريقات، بحيث أصبح التفاوض هدفا في حد ذاته، فإن الإجماع العربي قد أجمع على الهدف ذاته كما يبدو، لأن هناك "قناعة كاملة" لدى الحكومات العربية ومن تراهن عليهم في البيت الأبيض الأميركي وكثير من الدول الغربية بضرورة الحفاظ على مسار المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية دون ربط هذه المفاوضات بفترة حكومة رئيس وزراء دولة الاحتلال الحالي بنيامين نتنياهو، كما قال وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي على هامش اجتماع لجنة المتابعة العربية في القاهرة، بالرغم من اعتراف محمود نفسه بأن "هناك تراجعاً خطيراً في الموقف الأميركي عن الموقف الذي أعلنه الرئيس باراك أوباما في بداية ولايته".
فعندما يصبح "الموقف الفلسطيني هو (نفسه) الموقف العربي"، كما قال نبيل أبو ردينة، المتحدث باسم عباس، يكون هناك تضامن رسمي عربي – فلسطيني حقيقي مصر على أن يلدغوا جميعا من الجحر الأميركي مرات، لا مرتين، وفي هذه الحالة لا يعود "الترحيب" الإسرائيلي بقرار لجنة المتابعة العربية مستغربا.
لكن في هذه الحالة ربما يكون من الأجدى لعرب فلسطين أن يعودوا إلى الاستراتيجية الأولى للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة بتعريب قضيتهم عبر القفز عن الحكومات العربية لمخاطبة أشقائهم من شعوبها مباشرة، فالطاقات الكامنة في استعداد الأمة وشعوبها للتضحية من أجل قضية ما زالت الأمة وشعوبها يعتبرونها قضيتهم المركزية كفيلة بتغيير معادلة الصراع وموازين القوى فيها تغييرا يغني عرب فلسطين عن الاستمرار في النفخ في القربة المثقوبة للحكومات العربية.

*كاتب عربي من فلسطين

www.deyaralnagab.com