المرأة بين السيكولوجيا والمجتمع!!
بقلم : أ. د. سامر جميل رضوان ... 16.01.2010
سادت لقرون عديدة فكرة أن المرأة أضعف من الناحية الجسمية والنفسية من الرجل. وأنها سرعان ما تتأثر بشدة بالانفعالات المعذِّبة، التي يطلق عليها تسمية النويراستانيا، نتيجة عدم وجود مفهوم أفضل للتعبير عن ذلك "وكان هذا الاستعداد للمرأة للإصابة بالاضطرابات النفسية يفسر من خلال تركيبتها الداخلية وبيولوجيا الإنجاب، والتي كان تفكير العصور القديمة يعدها مسؤولة عن المعاناة العصبية وسمات الشخصية الضعيفة".
ولم يقف مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد من المرأة موقفاً أفضل من سابقيه. فقد انطلق من سمات الشخصية الذكورية كمعيار. ورأى أن المرأة تتقوقع داخل صفات شخصيتها الأنثوية عندما تلاحظ في سنوات يفوعها الأولى بأنها لا تستطيع أن تكون كالرجال. وقد قامت رؤيته للنفسية النسائية على نظريته حول "حسد القضيب". وكانت فرضيته تقول بأنه مجرد أن تدرك البنات الصغيرات أنه ليس لهن عضو ذكوري كالذكور، وأنهن لا يستطعن أن يأملن الحصول على واحد على الإطلاق فإنهن يشعرن بالصدمة وأنهن مسلوبات ومحرومات ويشعرن بالنقص ويستجبن بغضب. ومن أجل حل هذا الصراع يبدأن بالانسحاب إلى سمات شخصية خضوعية وسلبية ومازوخية وطفولية. ولاحقاً يدخلن في علاقة تعلقية بالرجال ومن ثم يحققن نوعاً من التعويض عن عدم امتلاكهن القضيب.
وقد اعتقد فرويد أن هذا النمط من الشخصية يعد عادياً بالنسبة لكل النساء، ولا يمكن تجنبه أو تغييره. ويعد نموذجاً أولياً للمرأة ومقبول ومرغوب منها. وكاستثناء لهذه القاعدة سمح فرويد لتلميذاته من الإناث اللواتي اعتقد أنهن يعانين من "مركب ذكوري غير محلول" بأن يتميزن في ميدان التحليل النفسي.
بعد ذلك بوقت طويل جداً أدرك المحللون النفسيون ومنظرين آخرين بأن مقولات فرويد حول النفسية الأنثوية كانت نابعة من الأحكام الثقافية المسبقة تجاه المرأة في القرن التاسع عشر. ففي العصر الفيكتوري الذي اتصف بالسيادة الثقافية المطلقة للذكور لم تكن للمرأة أية سلطة أو استقلالية اجتماعية واقتصادية. فسعادتها وأمنها كان متعلقاً بمهاراتها الزوجية واستعدادها لتقبل سلطة الرجال والخضوع لهم. والمرأة التي كانت متعلقة نفسياً بالرجل، والتي لا تؤكد نفسها بل وتخاف من التعبير عن رغباتها إذا ما كانت تتعارض مع اهتمامات ورغبات ومطالب زوجها وكانت متلائمة بطريقة ما مع واقع حياتها التي كان يجدها الرجال جذابة جداً. ونظراً لقلة إمكاناتها في تحقيق ذاتها "عدا عن تربية الأطفال والمطبخ" وفقدان حريتها في القرار حول مجرى حياتها والتحذيرات الاجتماعية بصيانة عفتها الجنسية، فإن كثير من النساء قد عانت بالسر من الأزمات النفسية، الأمر الذي قاد إلى "الانهيارات العصبية" التي كانت كثيرة الشيوع في ذلك العصر.
فهل تبدلت اليوم صورة علاقة السيطرة هذه أم أنها ما تزال هي النمط السائد في كثير من المجتمعات وبالتحديد في مجتمعات الوطن العربي؟ سؤال يطرح نفسه. ولا شك فأن الإجابة عنه ستواجه مجموعة من العقبات لأن المسألة في النهاية مسألة تفسير. ومن المؤكد أن سياق التفسير هذا سيرتبط بالأطر الثقافية المرجعية التي يمكن النظر من خلالها لهذا الأمر.
مما لاشك فيه فإن علاقات السيطرة والواقع الاقتصادي قد اختلف بالنسبة لكثير من النساء وبشكل خاص بالنسبة لطبقات الفئات المسحوقة اقتصادياً واللواتي لم يحظين بفرصة للتعليم، وكثير من النساء العربيات يعشن في عالم شديد التغير، عالم يمكن أن تعيش فيه بصورة أكثر حرية وتحقق فيه ذاتها وتختار فيه طريق حياتها، ولكنها في عالم ما زال الآخر يسيطر عليه ويتحكم فيه أيضاً.
أصبحت المرأة العربية في عالم المهنة حقيقة واقعة، لأسباب كثيرة، منها الدخل، ومنها تغير القيم والمعايير، ومنها الهروب والحصول على مساحة من الحرية كانت ستفقدها لولاه. وهناك من النساء ممن تطمح في هذه الأثناء نحو تحقيق الذات وإيجاد المعنى في مجالات أخرى غير البيت. فهناك حراك اجتماعي شديد مختلف المستويات، وهناك انبثاق لوعي مختلف في كثير من المجتمعات لم تتبلور كل ملامحه بشكل كاف بعد وهناك فرص كثيرة للنساء لتحقيق الذات في المهنة. بالمقابل مازال المجتمع يتوقع من المرأة العاملة أن تتحمل إلى جانب عملها مسؤولية التربية.
ولكن ومع اختلاف علاقات السيطرة هذه نشهد انزياح لعلاقات السيطرة والقهر ضد المرأة لتأخذ أشكالاً جديدة وأكثر خبثاً، مغطاة، وغير مباشرة، تبدو للخارج عادية أو أكثر أحياناً. وتلك الأشكال من القهر تطال المرأة المسحوقة اقتصادياً أكثر من غيرها، التي تعامل كسلعة رخيصة سهلة المنال، لا قيمة لها إلا بمقدار ما تستطيع تقديمه بجسدها. مما يجعلها أكثر معاناة من الضغوط وأكثر تشويهاً من الناحية النفسية.
تتفوق النساء على الذكور في نسبة المعاناة النفسية والجسدية، ويشكلن الجزء الأكبر من مراجعي العيادات النفسية ومراكز المساعدة أكثر من الرجال. فهل يعني هذا أن النساء تعاني بالفعل من المشكلات النفسية أكثر من الرجال أم أن المرأة ربما تكون أكثر استعداداً للاعتراف بمشكلاتها ومعاناتها وأكثر استعداداً لتقبل المساعدة؟ الإجابة عن هذا السؤال ما زالت حتى الآن مفتوحة. إلا أنه من المؤكد أن كثير من النساء ما زلن كما في السابق متعلقات بالرجال ويتراتبن في مرتبة أدنى من الرجل. كثير منهن يعانين من مشكلات من بينها السلبية ومشكلات التعبير عن العدوانية. والتفسير لهذا الضعف النسائي والصعوبات يقوم اليوم على تصور مختلف عما كان عليه الأمر في زمن فرويد.
فالعلماء يبحثون اليوم في القابلية للإرهاق الناجمة عن التفاعل بين النمو والاستعداد النفسي والثقافة والعوامل الاجتماعية الاقتصادية، ومن جهة أخرى ما تمنحه مهارات التكيف الأنثوية من طاقة ومرونة. حتى تلك الأوجاع والأمراض المرتبطة مع دورة الخصوبة– على نحو الاكتئابات قبل الطمثية وبعد الولادة- يبدو أنها متعلقة بالعوامل النفسية والاجتماعية.
**التنشئة الاجتماعية والأدوار الجنسية
بالنسبة لكل إنسان تصبح هويته كامرأة أم رجل الدعامة التي تتطور حولها شخصيته ويأخذ سلوكه شكلها. فالبنات والصبيان الصغار يمضون في طرق حياتية منفصلة من الناحية النفسية، كما تظهر الدراسات الراهنة، حتى قبل أن يدركوا أنهم يمتلكون أعضاء جنسية مختلفة. ففي وقت معين من الحياة الجنينية يبدأ الدماغ الذكوري والأنثوي بالتطور بطريقة مختلفة، الأمر الذي يقود إلى اختلاف في السلوك على ما يبدو على نحو العدوانية الذكورية الشديدة. إلا أن غالبية أنماط السلوك التي يعتبرها المجتمع على أنها أنماط ذكورية أو أنثوية ليست فطرية. مثال ذلك: يولد في بعض الأحيان أطفال بأعضاء جنسية مشوهة أو مزدوجة، ولا يكون واضحاً إلى أي من الجنسين ينتمون. إلا أن هؤلاء الأطفال يمتلكون جنساً موروثاً واضحاً يمكن اكتشافه من خلال فحص فيما إذا كانوا يمتلكون كروموزومات ذكورية أم أنثوية. وتشير الدراسات إلى أنه عندما يكبر هؤلاء الأطفال تتشكل لديهم خصائص وصفات الجنس الذي تربوا عليه حتى وإن كانوا من الناحية الجينية ينتمون إلى الجنس الآخر.
فموقف واتجاه الأسرة والمجتمع فيما يتعلق بنشوء الهوية الأنثوية عند البنات الصغار أهم من الوراثة أو الهرمونات، إذ أن عملية نمو الهوية الأنثوية تبدأ في العلاقات الأولى المبكرة بأسرتها. فالوالدين والمحيط الثقافي يعلمون بصورة مباشرة وغير مباشرة نوع الانفعالات وأنماط السلوك وردود الأفعال التي تعد مثالية بالنسبة للبنت وما هي النشاطات والقيم المتاحة للمرأة في الحياة. وفي هذه الأثناء تبدأ البنات الصغار التماهي كبنت وتقليد الأم. وفي مجرى الوقت تسهم علاقتهن بآبائهن وأخوتهن وعلاقتهن بالسلطة الذكورية بصياغة وعيهن الأنثوي.
وعندما تصبح البنت أكبر تتعلم بدرجة كبيرة من محيطها الثقافي ككل بما في ذلك مجموعة أترابها كل ذلك الذي يتضمن أنماط السلوك والأدوار العادية والمقبولة والمسموحة والمرغوبة والتي تلقى الدعم والثواب بالنسبة للفتاة وللمرأة. وعندما تصبح راشدة تكون قد شكلت مثالاً أنثوياًـ تحاول أن تتلاءم معه وتقيس نفسها عليه.
وفي عصور التحولات الاجتماعية الكبيرة كعصرنا الراهن يمكن أن يحصل أن تتغير القيم الثقافية، عندما تصبح الفتاة كبيرة. وهذا الصراع بين الماضي والحاضر تحمله كثير من النساء في داخلهن، فهن يرغبن أن يمتلكن أنوثة "جديدة" إلا أنهن من الداخل ما زلن متأثرات بشدة بمثال الأنوثة، الذي ربين عليه.
**المرأة والعلاقات
منذ أن يعي الأطفال هذا العالم يتم دفعهم إلى أن يتبنوا اهتمامات وميول مختلفة. يبدأ فصل الرجولة عن الأنوثة بالمعنى النفسي والعملي. وتتم تنمية روح المنافسة والإنجاز عند الذكور، وأما الإناث فيتعلمن الرضا والانسحاب من المنافسات. وعلى الرغم من أن هذا الشكل من التنشئة الاجتماعية لا يوجد دائماً بشكل صاف 100% فإن لكل جنس رسالته النفسية التي قد لا يشعر بالرضا إن لم يحققها. ويمكننا أن نلاحظ ذلك أن المرأة التي لم تتزوج وتنجب بعد قد لا تشعر بالرضا على الرغم من نجاحاتها المهنية.
وتعد القدرة على الحب والرغبة فيه، والتبادل مع الآخرين والاهتمام بهم نفسياً وجسمياً من ضمن نوعية وقوة كثير من النساء عبر الحياة كلها. إنهن قادرات على عقد صداقات دائمة وقوية، والتي تعد مهمة بالنسبة للصحة النفسية والجسدية, وتبرهن الدراسات على سبيل المثال على أن النساء يستطعن تحمل موت الزوج بصورة عامة أفضل من الرجال. وعلى عكس الأرامل من الرجال فإن الأرامل من النساء أكثر بناء علاقات وروابط تسهل عليهم فقدان الشريك وتخفف عنهن. ويمكن للبحث عن الحب ورعاية العلاقات المشحونة بالحب أن تصبح مؤكدة للذات ومتسامية– وهي خبرة يمكنها أن تثري الحياة، بشكل لا تثريها أية خبرة أخرى.
إن الأهمية الكبيرة التي تعطى لدور المرأة كزوجة/أو كحبيبة وكأم تجعل من كثير من النساء معرضات لظروف نفسية اجتماعية معينة.
**المرأة الوحيدة "الأرملة والمطلقة والتي لم تتزوج"
يمثل الواقع الاجتماعي الراهن في المجتمعات العربية تحدياً لاحترام الذات وثباتها بالنسبة لكل امرأة منفردة.
*فمما لاشك فيه فإن للعلاقات المتبادلة بين الرجال والنساء أهمية مركزية في الحياة. ولكن مجتمعاتنا العربية محكومة بأطر ثقافية وتقاليد طبقية وعرقية وقبائلية وعشائرية ومذهبية كثيرة يمكن أن تقود بقاء الفتاة عازبة من دون زواج. بالإضافة إلى قلة عدد الذكور عن عدد الإناث، وخصوصاً في فئات عمرية مختلفة، وتفضيل الفتاة الصغير في السن في مجتمعات معينة، ناهيك عن الحروب كما هو الحال في العراق التي تلتهم عدداً كبيراً من الذكور، والتوقعات الحياتية المنخفضة للرجال مقارنة بالرجال. وهناك أمر آخر يسمى بالمعيار المزدوج. فالرجل الكهل أو الكبير في السن يعد في مجتمعاتنا العربية جذاباَ ومرغوباً، ويمكنه بناء علاقات بسهولة، وخصوصاً مع الفتيات الأصغر سنا منه بكثير، في حين لا ينظر للمرأة في الكهولة بالمنظار نفسه، ومن ثم فإن فرصتها أقل.
*تحاول بعض المجتمعات العربية مواجهة ظاهرة عدم تزوج الفتيات من خلال تشجيع تعدد الزوجات وخصوصاً اللواتي تأخرن في الزواج. وهنا يمكن للفتيات اللواتي يعتقدن أنهن قد تأخرن في الزواج أن يعانين من مشاعر انخفاض في قيمة الذات، وأن الآخر يريدهن شفقة ومن أجل عمل الخير وليس لذواتهن. ناهيك عن أن تقبل تعدد الزوجات من الناحية الدينية لا يترافق مع تقبل نفسي للمرأة التي عليها أن ترضى بتقاسم زوجها مع امرأة أخرى.
*وهناك مأزق اجتماعي آخر: فالمرأة التي قضت جزءاً من العقد الثاني والعقد الثالث من الحياة في التأهيل وتحقيق المستقبل المهني قد تجد صعوبة في الحصول على الشريك المناسب.
*والمرأة المطلقة تعامل في بعض المجتمعات العربية بشكل سلبي، تلاحقها الأحكام المسبقة التي تثير فيها باستمرار فكرة أنها فشلت كامرأة. وسوف تظل أسيرة الأفكار السلبية المسيطرة في المجتمع (والتي تكون هي نفسها قد تمثلتها أيضاً) وينظر إليها على أنها عليها أن تلغي إلى حد كبير مظهر الجنوسة من حياتها. أو تكون معرضة لتصور شائع مفاده: إنها لقمة سائغة مستعدة لعمل علاقات جانبية كثيرة، وأن تكون عشيقة بالخفاء، أو مضطرة أن تتقبل في بعض الحالات بعض الشروط المهينة لها، لتبرهن لنفسها أو لآخرين أحياناً أنها لم تفشل، أو أحياناً هروباً من تسلط أهلها الذين عادت إليهم، والذين يضعون عشرات القيود والعراقيل أمامها، ظاهرها الخوف عليها، وباطنها التسلط الذكوري. وتصبح كل خطوة من الخطوات تحسب عليها، ويتم تفسيرها بصور سلبية على الأغلب. يتوقع المجتمع أن ترضى المرأة المطلقة بما يعرض عليها، لأن خياراتها محدودة، وحتى فرصتها في أن تكون زوجة ثانية محدودة جداً. ناهيك عن أنها مثار للشك والريبة من النساء الأخريات. وتعاني من عزلة أشد من تلك التي لم تتزوج أصلاً.
*وتصبح حياة المرأة الوحيدة حياة خاوية في كثير من الوجوه. إذ يتم التخلي عنها من قبل صديقاتها المتزوجات أو معارفها وقلما يتم دعوتها إلى حفلة أو مناسبة ما، لأسباب كثيرة منها اعتقاد المرأة المتزوجة أن صديقتها غير المتزوجة ستخطف لها زوجها، أو يمكن أن تشكل بالنسبة لزوجها مشروع علاقة غرامية.
ناهيك عن العنف الذي يمارس بالفعل ضد المرأة الذي قد يقيد من حرية حركتها.
*تقوم القولبة الاجتماعية في المجتمعات العربية على غرس مفهوم الجاذبية منذ وقت مبكر في حياة الفتاة، فتتمثل منذ نعومة أظفارها أن جاذبيتها بالنسبة للرجال تتعلق بسنها ومظهرها الخارجي. وتخشى كثير من النساء أنها في حال فقدت زوجها، قد لا تستطيع أن تحصل على بديل له. أما النتيجة فهي تمحور تفكير النساء حول البحث عن علاقات الحب والحفاظ عليها. وغالباً ما تبالغ المرأة في تحمل الجزء الأكبر من "عمل العلاقة" وبعض النسوة يعملن على الأغلب بصورة قاسية من أجل الحفاظ على العلاقة ليس لأنهن يحببن شريكهن أو يقدرنه، وإنما لأنهن بفقدانه سوف يفقدن الكثير. إنهن يخفن من فقدان الحب، ومن الممكن أن يكن معرضات للاكتئاب ويعانين من صعوبات على الأغلب في التعبير عن غضبهن. إن الخوف من فقدان الحب ومن الوحدة يمكن أن تدفع النساء غير المستقرات نفسياً أن يأخذن بعين الاعتبار الرفض والهجر، حتى وإن لم يكن هناك خطراً واقعياً قائماً. وبعضهن يكون مستعداً بسرعة للتخلي عن هويتهن المستقلة واعتبار علاقتهن المصدر الوحيد لمعنى الحياة إنهن يهبن من أن يتصرفن في علاقاتهم بدرجة مساوية للشريك أو في تنمية أنفسهن بصورة مساوية له. وبعضهن تسخر كل طاقتها على البقاء شابة وجذابة بدلاً من أن تحقق هويتها الناضجة والمستقلة وأن تعيشها. ومن خلال هذه القولبة التي تقولب المرأة نفسها فيها فإنها تكون عرضة لمخاطر كثيرة. ففي غالبية الحالات يغامرن بفقدان احترامهن لذاتهن، وذلك عندما يخضعن لابتزاز الرجل. كما يمكن لفقدانها هويتها المستقلة أن يجعلها فارغة وغير مهمة بالنسبة للشريك الذي تحاول بكافة السبل الحفاظ عليه. ومن ناحية أخرى فإن تخليها المطلق عن فرصها الخاصة يمكن أن يعرضها لخطر عدم القدرة على البقاء نفسياً ومادياً، في حال قرر الشريك الانفصال عنها. فتبقى مرتبطة به ليس حباً ورغبة بل نتيجة الحاجة وخوفها من فقدان المأوى. وبعضهن يخفن من فقدان أولادهن بسبب الانفصال فتفضل البقاء مع أولادها مهانة على أن تبتعد عنهم. ومن خلال الاستسلام لرجل جبار ترتفع بالنسبة لهذه النساء وأطفالهن خطر أن يصبحن ضحايا للاستغلال والعنف والغبن الجنسي.
*إلا أنه حتى النساء اللواتي يستطعن التلاؤم مع الوضع بصورة أفضل ويستطعن بناء أهداف جديدة قد يشعرن بأنفسهن قاصرات كنساء. فالنجاح كزوجة/كمحبوبة يحتل بالنسبة لتقدير الذات عند كثير من النساء مركزاً أساسياً إلى درجة أن اللواتي يبقين عازبات أو يصبحن مطلقات يستجبن لهذا المأزق باتهامات للذات. إنهن قد لا يشعرن بأنفسهن بأنهن غير محبوبات أو مرغوبات فحسب، بل وقاصرات وغير جديرات بالحصول على الحب.
*والوحدة مرهقة لكثير من الناس، وبشكل خاص بالنسبة لكل أولئك الذين يرون في العلاقات جزءاً مهماً محتوى حياتهم. ولحسن الحظ تمكن الكفاءة المتمثلة في قدرتهن على إيجاد صداقات حميمة والحفاظ عليها عبر الحياة كثير من النساء العازبات والمطلقات والأرامل من إيجاد روابط اجتماعية والحفاظ عليها.
**الأمومة
تقوم التنشئة الاجتماعية بغرس تصور لاشعوري يقدس الأمومة ويعتبر أن المرأة المتزوجة ناقصة ما لم تحمل بأسرع وقت ممكن بعد الزواج. وما أن يحدث الحمل حتى يحدث نوع من الانهواس euphoria الجماعي، وتنتشر الأخبار، ويتحول الحمل إلى صك ضمني لتثبيت الزوج وضمان بقاءه وشهادة أنوثة للمرأة. وتسعى كثير من الأمهات إلى أن يكن أمهات مثاليات ولكن هذا المطلب يصعب تحقيقه في كثير من الحالات. فبعض المشكلات النفسية كالإرهاق ومشاعر الذنب والقلق والاكتئاب يمكن أن ترجع للصراعات والحمل الزائد اللذين يرتبطان مع دور الأم اليوم وبصورة خاصة للأم العاملة.
و يحمل المجتمع العربي الأم المسؤولية الكاملة عن سلوك الأطفال وتطورهم. وكثير من الأمهات يتأثرن بهذا الضغط النفسي ويعتقدن أن النجاح أو حتى الصعوبات أو قصور أطفالهن ناجم عن عدم كفايتهن أو قدراتهن على الوفاء بمطالب هذا الدور. وعلى الرغم من أن عدد متزايد باطراد من النساء يدخلن عالم العمل إلا أن المجتمع ما زال يحملهن الذنب بالقصور الناجم عن غيابهن عن المنزل ويتهمن بالقصور في تربية أولادها(أولاد بلا تربية).
وحتى عندما يشترك الآباء بواجبات التربية ومهماتها تظل الأم في مجتمعنا هي "الأسرة النفسية"، أي تلك التي تهتم بالأطفال من الناحية الداخلية بشكل أكبر وتشعر بالمسؤولية في تنظيم مجرى اليوم لأبنائها وتأمين مستلزماتهم وتهمل عملها إذا ما مرض الطفل أو عندما يظهر أنه يصعب تنفيذ الاتفاقات المبرمة.
الأم العاملة وصراعاتها
كثير من النساء العربيات يمارسن عملاً في عصرنا الراهن، وكثير منهن مجبرات على العمل لأسباب اقتصادية، لمشاركة زوجها، أو لإعالة أسرتها التي فقدت معيلها، أولمساعدة أهلها في سد تكاليف المعيشة، وأخريات لأنهن يبحثن عن تحقيق الذات وتنميتها، وبعضهن يعملن للأسباب السابقة. ويمثل العمل بالنسبة للأمهات اللواتي يمتلكن أطفالاً صغاراً كسراً لتقاليد ترى أن مكانها هو البيت. ولعل المشكلة الراهنة الأكبر لكثير من النساء تتمثل في كيفية التوفيق بين العمل والحياة الأسرية.
وعلى الرغم من أنه من الناحية العملية كل النساء يرغبن بأن يفعلن الأفضل لأطفالهن، إلا أنهن اليوم غير واثقات بما هو صحيح بالنسبة لأطفالهن ولأنفسهن.
**مشاعر الذنب وإرهاقات الدور
تعاني الأمهات العاملات من معانتين رئيسيتين, مشاعر الذنب وصراع الدور. فالنساء المضطرات للعمل يشعرن في الوقت نفسه بالذنب، بأنهن مقصرات في حق أطفالهن أو لا يمتلكن الوقت الكافي لأولادهن، ويقلقن بأن وسائلهن في رعاية أولادهن غير كافية ويواسين أنفسهن بأنهن إنما يعملن من أجل أولادهن لتحقيق مستوى معقول من الحياة الكريمة. وفي حال إجبار النساء اللواتي يخترن العمل من أجل تطوير مهاراتهن والتخلص من الملل أو لتجنب الاكتئاب، الذي يمكن أن يظهر، على البقاء في البيت فإنهن يشعرن بالذنب لأنهن "تخلين عن أطفالهن"، كما أن النساء اللواتي يحملن مؤهلات عالية يشعرن بالذنب لأنهن لا يستطعن الاهتمام بالتنمية المهنية لأنفسهن بدرجة كافية كما ينبغي، بحيث يحققن النجاح. وقد تكافح تلك النسوة مع مشاعر العدوانية تجاه الأولاد، لأنهم يستهلكون منها وقتاً إضافياً. ومهما يكن السبب الذي تعمل المرأة من أجله فإن عدداً قليلاً من النساء العاملات لا يعاني من مشاعر الذنب حول عواقب الغياب عن المنزل والأولاد. وتكثر هذه المشاعر لدى النساء اللواتي يمتلكن أطفالاً في طور الرضاعة وفي سن ما قبل المدرسة.
*صراع الأدوار: وهو عبارة عن تسمية تطلق على أحاسيس التعب والخوف، وإلى حد ما الهلع والشعور بأن المرء مقصر دائماً. وتشكو من هذه الأعراض النساء العاملات عند محاولتهن التوفيق بين أدوارهن المنفصلة والمتناقضة على الأغلب. فأطفال الأمهات العاملات والذين يرهقون أمهاتهم في الليل يعانين على الأغلب من نقص النوم، مع عواقب أنهن سوف لا يكن حاضرات في المهنة ذهنياً وأقل إنتاجية وأحياناً سريعات الاستثارة. وحتى تلك القلة من النسوة اللواتي يستطعن التوفيق بين المهنة والأمومة دون إرهاق يعانين بالإضافة إلى ذلك من الإرهاق الدوري وقلة الوقت لأنفسهن وإهمال اللياقة الجسمية ومظهرهن الخارجي.
*استراتيجيات المواجهة الغالبة: تحتفظ غالبية الأمهات العاملات بمشاعر الذنب وعواقب صراع الدور ضمن الحدود المقبولة، على الرغم من أنهن قد يحتجن إلى مساعدة متخصصة من أجل التخلص من مشاعر الذنب والإرهاقات. وغالبيتهن يبذلن جهداً كبيراً خلال الوقت الذي يقضينه مع أطفالهن موازنة الكمية الناقصة من خلال النوعية. وتحاول كثير منهن تعويض القصور من خلا ل المشاريع والمكافآت المادية. ويغلب أن يتغلبن على صراع الأدوار من خلال تخفيضهن لطموحاتهن المهنية على الأغلب أو تأجيلها حتى يكبر الأطفال على الأقل بحيث لا يعودوا بحاجة للأم ومن خلال تربية أولادها مبكراً على الاستقلالية.
*تسود في بعض المجتمعات ظاهرة المربيات المستوردات. إذ تتخلى فيها الأم عن مسؤوليتها في التربية لمربية مما يتيح لها التفرغ لملاحقة طموحاتها المهنية. وهو شكل من أشكال مواجهة ضغوط الواقع يحتاج إلى دراسة وتبصر عميقين.
و مع الأطفال أو بدونهم تواجه المرأة في عالم العمل مشكلات وصراعات أخرى. ومع وجود استثناءات قليلة فإن قلة من النساء يصلن إلى مراكز متقدمة. فالموانع الجنسانية قد تمنعها من تحقيق المركز نفسه الذي قد يحققه الرجال. وهنا فإن كثير من النساء الطموحات والمستعدات للمنافسة وتوكيد الذات يتم تمييزهن من قبل زملائهن الذكور أو مدرائهن وإطلاق صفات عليهن على نحو "امرأة مسترجلة"، أو يتم السخرية منها.
إن جزءاً كبيراً من المشكلات التي تعاني منها المرأة في العمل, على نحو النقص في الأهداف الملموسة، والكبح الداخلي من المنافسة والخوف من النجاح ومن الفشل والشعور بأنها تدور مكانها يمكن أن يرجع لسمات في الشخصية، التي تطورت نتيجة توقعات الأدوار التقليدية من المرأة. لقد تعلمت المرأة بأن تكون مع الرجال جذابة وراعية وحامية وداعمة ومشاركة. وإلى حين دخولها عالم العمل وعلى عكس زملائها الرجال قد لا تكون شجعت على الإطلاق على وضع أهداف للارتقاء المهني. وهن لا يعرفن كيف يصل المرء إلى مركز القرار وكيف يتعامل معها. إنهن لم يتعلمن تتويج إنجازهن بالنجاح الكبير. وهن عندما يصلن إلى مراكز متقدمة فإنهن يصلنها على الأغلب ليس نتيجة منافسة، إذا يتم النظر إليها في عالم المجتمع الذكوري بالأصل على أنها خارج المنافسة، وإنما نتيجة اعتبارات سياسية أو اجتماعية، كأن يكون هذا المكان مخصصاً للجنس الأنثوي حفاظاً على المظاهر الخارجية وإيهاماً ظاهرياً بأن المرأة قد حصلت على حقوقها، فيتم استغلالها هنا ليس ككفاءة وإنما كجنس أنثوي لتلميع مظهر شكلي، أو يتم إعطائها المنصب لأنها زوجة لمسؤول سياسي أو ديني أو اجتماعي...الخ، وعندما تمارس سلطتها هنا لا تمارسها من منبع كفاءتها وإنما من منبع تماهياتها السياسة أو الاجتماعية العشائرية أو العائلية. وهذه إشكالية أخرى تسعى إلى تمويه صورة المرأة الحقيقة في المجتمع وتزييف الواقع وتهميش الدور الحقيق للمرأة.
ويغلب أن تميل بعض النساء إلى اتخاذ وضعية تلعب فيها دور المساعد للآخرين. وعندما يترقى مديرها على سبيل المثال يمكن أن تتحسن وضعية هذه النساء، أي أنهن يربطن أهدافهن بأهداف آخرين، أو أنهن يبقين كما هن. عندئذ تشعر كثير منهن بأنها في مأزق مهني ويكن غاضبات حول ذلك دون يكون واضحاً لها إلى أي مدى هي مترددة من المنافسة ومن استلام زمام المبادرة بيدها.
ويمثل النقص في تقدير الذات ومشاعر القيمة الذاتية بالنسبة لكثير من النساء في عالم العمل مشكلة. وعلى الرغم من أنهن قد يتقن إلى أن يبدأن بحياتهن شيئاً "جوهرياً"، فإنهن يعتقدن داخلياً بأنها كامرأة لن تحقق أي أمر ذو أهمية على الإطلاق. وبعض النساء تعاني من خوف شديد من الفشل إلى درجة قد يخفن فيها من خطر "المحاولة والخطأ"، التي يكتسب من خلالها المرء المهارات والثقة بالنفس. وسرعان ما تشعر تلك النسوة بالملل في العمل وتصبح قلقة. وبعضهن اللواتي يغامرن مغامرات كبيرة يقللن من أهمية نجاحهن من خلال عزوهن الحظ والدعم للآخرين. وحتى النسوة الكفوءات جداً غالباً ما يشعرن بأنهن لا يستحقّن نجاحهن.
وربما تكون أسوأ المشكلات, لأنها تمس جوهر الهوية الأنثوية للنساء الطموحات والناجحات, تتمثل في الخوف بأن يكن أي شيء آخر عدا عن أن يكن مرغوبات بالصورة التي ينبغي لهن فيها أن يكن. وإحدى المشكلات الأساسية للنساء اللواتي يحملن تأهيلاً عالياً تتمثل في الصراع بين إنجازها وما يرتبط مع ذلك من نجاح مهني، على نحو الترقي المهني والاجتماعي، والخوف من فقدان الحب. إنها تقلق أنه يمكن للرجال أن يشعروا بالصد منها نتيجة اجتهادها، إنهن يقلقن بأن ينقلن صراعاتهن في الترقي المهني إلى زواجهن، والأمر الذي قد يكون صحيحاً. إنهن يخشين أنهن عندما يسخرن طاقتهن لمهنتهن أن ينبغي عليهن التخلي عن بناء علاقة حب مع رجل. وتلك النسوة يكن في مأزق مرعب. فمن الخوف من فقدان الحب لا يتشجعن على التقدم المهني، إلا أنهن لا يستطعن كذلك التراجع، إنها تقع في مصيدة.
وبالنسبة لكثير من النساء لا يوجد وضوح بأن جذور هذه الصراعات قد تكمن في مخاوفها وخيباتها وشعورها باللامعنى والنقص في الطموح والإحباط والملل في عملها. ومن المهم أن تدرك المرأة العاملة الكوابح الداخلية التي تحملها معها إلى هذا الموقف. عندئذ فسوف يسهل عليها إدراك ومواجهة الحواجز الخارجية التي يضعها المجتمع في طريق المرأة.
**الإعلام الفضائي وتغريب الأنثى عن واقعها
المجتمع العربي مجتمع هش في كثير من مظاهره، وعواقب هذه الهشاشة تطال الجزء "الأضعف" في تراتبية السلطة والتسلط من المجتمع، أكثر من بقية الأجزاء. والقيود الاجتماعية التي يعاني منها جزء كبير من النساء والحصار النفسي، أو الاستلاب لا يطالها عبر المؤسسة الأسرية فحسب وإنما عبر المؤسسات الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية، التي تتوجه في غالبيتها للمرأة مستغلة تلك الثغرات في بنية الشخصية التي تمثلتها المرأة من خلال تنشئتها الاجتماعية. تواجه كثير من النساء العربيات حصاراً نفسياً أو اجتماعياً مفروضاً بتعلقها بالآخر الذكر الذي يحدد لها حدود ومساحات حريتها الظاهرية. وتتساوى المرأة العاملة في هذا مع المرأة غير العاملة مع اختلاف نسبي في الأشكال والمساحات الممنوحة.
إلا أن نزعة الداخل والخارج، المغطى والمكشوف، الممنوع والمسموح هذه لا تنعكس بصورة واقعية في وسائل الإعلام، بل يتجه الإعلام في غالبيته على إبقاء المستور مستوراً، لاعباً على السطح، موهماً بوجود صورة للواقع ليست من الواقع. ومثل هذا النوع من التغريب الممارس يعد من مصادر الضغوط النفسية الشديدة للمرأة، وسبب أساسي من أسباب شعورها بالاكتئاب ومشاعر الذنب. ولنا أن نشير هنا إلى مثالين متناقضين: الأول هو ذلك التصوير الممسوخ للمرأة في الأغاني الذي يعطي صورة للمرأة كوسيلة وأداة للمتعة، ومحركاً للهوامات اللاشعورية للمراهقين بشكل خاص، والذكور عموماً، المصابين بعقدة الفحولة الموهومة. والثاني ظاهرة الاستلاب والضغط التي تتعرض لها المرأة عندما تتم المبالغة والمتاجرة بتحجب بعض الفنانات، حاشراً المرأة في صراع بين متناقضات تمتلك هي بالأصل التربة الخصبة لها.
**الانترنت والهاتف الجوال والمرأة العربية
فتح دخول الانترنت إلى كثير من البيوت، على الأقل في الطبقات الميسورة القادرة على دفع تكاليف هذه التقنية، الباب واسعاً أمام المرأة العربية لاختراق الحاجز المادي المحاصرة فيه، في كثير من المجتمعات العربية، وأصبح مجالاً للحصول على المعرفة والتواصل، مع أفراد أشخاص خارج حدود المجتمع الضيق. والمرأة التي كانت تشعر بالضيق والملل نتيجة الحصار أصبحت تجد وسيلة جديدة في إطلاق مساحات كبيرة من حريتها الداخلية، وتحريرها من حواجز المكان والزمان. ومن خلال توفر الهاتف الجوال أصبحت المرأة قادرة على أن تكون في أكثر من مكان في الوقت نفسه، وأصبح لها مجال تشعر فيه بخصوصيتها بعيداً عن رقابة الآخر.
ويمكن لهذه الوسائل أن تكون شكلاً جديداً من أشكال التخفيف من الضغوط والمعاناة. فمن خلال التواصل مع الآخرين عبر المكان والزمان يمكن للمرأة هنا أن تشارك الآخرين مشكلاتها وضغوطها وهمومها بما يشبه عمل مجموعات المساعدة الذاتية أحياناً. وعلى الرغم من أن غالبية الأصوات لا تتحدث إلا عن سلبيات مثل هذه الأنواع من التقنية (دون برهان علمي) فإننا مدعوون كباحثين لإنارة ذلك الجانب الآخر الذي يساعد الفرد على الانفتاح والتنمية الذاتية الكامنة في مثل هذه التقنية. ويحتاج الأمر إلى دراسات متعمقة في هذا المجال.
**وجه آخر للمرأة العربية
لم تهتم الدراسات النفسية العربية بعد بجانب مهم من شخصية المرأة العربية، التي تعيش تحت ظروف الاحتلال، والعدوان. كما برز في السنوات الأخيرة جانب تمثل في الأم التي ترسل أبنائها للموت "استشهاداً" أو للمرأة "الانتحارية" كذلك. بالنسبة لهذا الجانب الأخير ينبغي دراسته في ظل علاقات السلطة والقهر الوجودي وتحديد السياقات السيكولوجية والباثولوجية الفاعلة في هذا. جانب يستحق الدراسة مازال غامضاً على المستوى البحثي- الإمبيريقي السيكولوجي، الذي ينبغي له أن يهتم بتوضيح مدى ارتباط هذا بوضعية المرأة التي تريد أن تعطي لوجودها معنى.
**الاضطرابات النفسية لدى المرأة
على الرغم من أن الاضطرابات النفسية يمكن أن تظهر لدى الجنسين، إلا أنه يبدو أن بعض هذه الاضطرابات قد يظهر لدى أحد الجنسين أكثر من الآخر. فمن الاضطرابات التي تظهر لدى النساء أكثر من الرجال يمكن تعداد الدافع القسري للسرقة (هوس السرقة) Kleptomania والاكتئاب واضطرابات الطعام. ولن نتعرض هنا لهذه الاضطرابات وسنكتفي بالإشارة إلى أنه بالنسبة لاضطرابات الطعام على سبيل المثال فإنه من الممكن أنه بناء على الضغط الاجتماعي- الإعلامي وموجة الهوس الرائجة بالنحافة، وعشرات الإعلانات والمستحضرات التي تعد بتحقيق الحلم الوهمي بجسد مثالي، وهذيان عمليات التجميل التي تتسابق إليها المذيعات ومقدمات البرامج التلفزيونية ونجوم التلفزيون والسينما تحت تأثير ما يطلق عليه تسمية New Lock ومن أجل التطابق مع المثال الأنثوي للجمال في ثقافتنا، تكون المرأة أكثر استعداداً للإصابة باضطرابات الطعام بشكليها فقدان الشهية والشره للطعام. كما يمكن لنشوء هذا الاضطراب أن يتعلق بالتوتر في علاقة الأم- البنت. فبالمعنى الرمزي يمكن لهذه الاضطرابات أن تمثل محاولة حائرة وخاطئة للمرأة من أجل برهان الأنوثة "الكاملة" أو الرفض لهذه الأنوثة، ففي فقدان الشهية العصبي Anorexia يختفي الطمث وينخفض وزن المعنيات إلى الدرجة التي تختفي منهن كل علائم الأنوثة. بالإضافة إلى أنه أحياناً تمثل اضطرابات الطعام محاولة فاشلة لممارسة السيطرة على الحياة. وعلى الرغم من أنه قد يكون لدى بعض النساء استعداد بيولوجي للإصابة باضطرابات الطعام إلا أنه يمكن أن يكمن خلف هذا الاضطراب تنافس كامن بين الأم والبنت.
تطال ازدواجية المعايير هذا الجانب أيضاً، فجسم الرجل الممتلئ دليل على الصحة والراحة النفسية وسعادته مع زوجته، وجسم المرأة الممتلئة دليل على إهمالها لنفسها، ولزوجها، وستكون موضوعاً دائماً للمقارنة بين أجساد فاتنات الشاشة وبين جسدها. ومن ثم فهي معرضة لضغط فقدان تقديرها لذاتها ولزوجها. ومطلوب منها أن تحافظ على مظهرها ووزنها وتطهو طعاماً شهياً. وتحت هذه الضغوطات يحتل الطعام وأنواعه وأشكاله وسعراته الحرارية مركز تفكير المرأة واهتمامها، ومحور حياتها اليومية في صراع خاسر بين الجوع والتجويع ومشاعر الأمان الخادعة وبين الشبع ومشاعر الذنب والقلق.
**خلاصة
تتضمن كل المسائل المتعلقة بسيكولوجية المرأة عموماً والمرأة العربية بشكل خاص مركبات اجتماعية ونفسية، حيث تتباين المركبات الاجتماعية وتختلف من مجتمع لآخر. وهنا لابد من العمل على توضيح المدى الذي يسهم فيه الوضع الحياتي للمرأة العربية والتصورات الثقافية للقيم في مشكلاتها، وإلى أي مدى تسبب شخصيتها هي وبنيتها النفسية الأساسية ردود أفعالها المؤلمة على هذا القهر مركبات من الإرهاقات الواقعية أو تلحق الضرر في قدرتها على التعامل مع هذا القهر والإرهاقات التي تتعرض لها.
مثال ذلك: على الرغم من أن كل النساء اللواتي يستطعن التوفيق بين أدوارهن كأمهات، وكعاملات يتعرضن لإرهاقات كبيرة، إلا أن بعضهن معرضات في أدوارهن المزدوجة للقلق والاكتئابات الشديدة لأنهن يرغبن أن يكون كاملات في كل شيء. بكلمات أخرى إنهن يعانين من مشكلة اجتماعية تمس جميع النساء، إلا أنهن يعتبرن أن هذه المشكلة مشكلتهن الشخصية وحدهن، أو أن الفشل هو فشلهن هن ويعاقبن أنفسهن على هذا. ويمكن للبحث عن إمكانات أفضل لرعاية الأطفال ومشاركة الشريك أن تخفف العبء ومن ثم تخفف من حدة المشكلات. غير أن هذا يحتاج إلى نوعية مختلفة من الوعي الاجتماعي والنفسي مازالت غير متوفرة في كثير من المجتمعات.
والمرأة التي تخشى من أن يتركها زوجها أو يتزوج عليها، قد تستجيب في الواقع على فقدان اهتمامه الفعلي بها وعلى إدراكها أن حظها في الحب والحياة سيكون تعيساً في حال فشل زواجها. فإذا ما طلقت فعلاً أو تزوج زوجها عليها، قد تلقى الدعم الاجتماعي من محيطها في وضعها، في حين أن امرأة أخرى التي تشك في إخلاص زوجها قد تكون حساسة جداً للرفض الممكن، لأنها قد فقدت في طفولتها شخصاً مهماً أو عانت من فقدان للقرب الانفعالي في سنوات طفولتها الأولى. أو أنها ترى تهديداً لعلاقتها، لا يكون موجوداً بالفعل، لأنها تخاف من عدوانيتها الداخلية اللاشعورية. إن خوف هذه المرأة على زوجها وطاعتها المتطرفة والشك الدائم به يمكن أن يدفعه للهروب من المنزل.
وهنا فإن خدمات العلاج النفسي تسهم في تقديم المساعدة في توضيح الجوانب اللاشعورية ومدى إسهامها في الحالة الراهنة.
مثال ثالث: تستمر المرأة بالزواج على الرغم من أن زوجها يسيء معاملتها جسدياً ونفسياً، لأنها إما أن تكون فقيرة لا حول لها ولا قوة، أو ليس لها أقارب أو أنهم لا يدعمونها، أو أنها لاتريد أن تعود إليهم لأنهم سيمارسون عليها تسلطاً أشد، وتخشى، لأسباب وجيهة من ردة فعل زوجها العنيفة لمحاولتها التحرر منه.
وفي حالة أخرى قد تخضع المرأة بسبب مشاعر فقدان القيمة الذاتية الداخلية التي تعاني منها لزوج عدواني أو متطرف في سيطرته. ففي الحالة الأولى يمكن لهذه المرأة أن تستفيد من دعم مجموعات النساء أو مجموعات المساعدة الذاتية، أما الحالة الثانية فلن تستفيد من هذه المجموعات قبل أن تلجأ للعلاج النفسي أو الإرشاد من أجل رفع وعيها الذاتي، والإحساس بكيانها.
إن بعض النسوة اللواتي حققن إنجازات عظيمة في المهنة، إلا أنهن لم يتزوجن وينجبن أولاد يعانين في سنوات العمر المتوسط من الاكتئاب، يهدد بتهديم كل ما أنجزنه ودفن كفاءتهن المهنية. وقد يشعرن بأن عزوبتهن تشكل نقصاً في أنوثتهن، هذا ما يرينه هن، وكذلك فإن ما يراه المجتمع ليس أفضل من ذلك، حيث يرى أنها ليست سيدة "حقيقية" أو طبيعية". ويمكن مساعدة مثل هذه النسوة من خلال تدعيم مشاعر القيمة الذاتية وتحقيق التوازن، عندما تدرك بأنها تعاني من صراع داخلي بين صورة المرأة التقليدية التي تمثلتها في ذاتها وبين مفاهيمها الحديثة عن الأنوثة وقدراتها وتقرير المصير. هذه المرأة عليها أن تشق طريقها بنفسها، إذ ينقصها المثل الأعلى الذي يمكن أن تمشي على هداه، في حين أن امرأة أخرى قد تدرك بأنها قد حاولت في نجاحها المهني تحقيق تعويض بديل لعلاقاتها الحميمية. وربما تكون مستعدة الآن لمواجهة خوفها من الحميمية من أجل التعامل مع اكتئابها والتخلص منه، وتحقيق علاقة باعثة على الرضا.
المصدر : موقع نساء سوريه
www.deyaralnagab.com
|