نحو آليات لحظر التحريض الفلسطيني الداخلي!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 23.06.2010
في مؤتمر عن دور الإعلام في الانقسام الفلسطيني نظمته مؤسسة مواطن في رام الله مؤخرا قُدمت أوراق عمل ودراسات أكدت الإنطباعات العامة عن الدور السلبي الذي لعبه الإعلام الفلسطيني في ذلك الإنقسام. اصطفت وسائل الإعلام الحزبية فور الانقسام بحسب ولاءاتها, ثم سرعان ما أطلقت حملات تشويه وتشهير باتجاه الطرف الآخر تجاوزت كل الحدود الحمراء. في جلسات المؤتمر التي ناقشت الإعلام الفتحاوي والحمساوي و"المستقل" بأشكاله المتنوعة, التلفزيونية, والإذاعية, والصحافية, والإلكترونية كانت النتيجة واحدة ... وكارثية. انحدرت وسائل الإعلام تلك إلى الدرك الأسفل وأخرجت خصمها الفتحاوي أو الحمساوي, بحسب وسيلة الإعلام, من كل دوائر الوطنية. أهم وسائل التأثير الإعلامي كما نعلم جميعا هي التلفزيون, وفي حالتي تلفزيون فلسطين وتلفزيون الأقصى أثبتت الأمثلة والشواهد الإحصائية التي قدمت إلى المؤتمر (ومن المؤمل ان تصدر في كتاب) أن هذه الوسائل الإعلامية تخلت عن وظيفتها الإساسية المتمثلة في إيصال المعلومة ومناقشة الآراء المختلفة, والأسوأ من ذلك انها جندت نفسها لتلعب دور شاعر القبيلة الهجاء الذي يرى الملائكة في قبيلته والشياطين في قبيلة الآخر.
ربما يرى البعض أن مؤتمرا حول هذا الموضوع لن يأتي بجديد في هذا الشأن ذلك أن سوء أداء الإعلام الفلسطيني خلال الانقسام, وحتى الآن في بعض جوانبه, كان مُشاهدا من قبل الجميع ولا يحتاج لإثبات. وقد يكون في تلك الملاحظة صحة ما, لكن المداخلات التي قدمها أكاديميون وصحفيون فلسطينيون والنقاشات التي تلتها أفرزت ثلاثة أمور مهمة. الأول هو إعادة النظر في مسألة دور الإعلام الفلسطيني الانقسامي عن طريق تقديم دراسات إحصائية قائمة على متابعة ورصد لفترات زمنية مختلفة, وليس انطباعات وأمثلة متفرقة. أي أن جوانب كثيرة مما هو معروف ومترسخ في الأذهان تم فحصه وإثباته بتحليل عملي ومنهجيات غير إنتقائية. الأمر الثاني فتح النقاش في هذا الموضوع المفصلي بشكل مكثف ومن زاوية استخلاص النتائج والدروس, وعبر مشاركة من قبل إعلاميين هم في قلب الميدان. وقد أشار أكثر من مُشارك إلى أن هذا النقاش يكاد يكون الأول لناحية التكثيف والتركيز على دور الإعلام في الانقسام, وهو أمر مثير للدهشة حقا إن كان دقيقا ذلك أنه من المشروع توقع خضوع هذا الأمر لنقاشات كثيرة ومسبقة بسبب أهميته وبروزه في وجه الجميع خلال السنوات الثلاث الماضية.
لكن الأمر الثالث, والأهم, هو ما تم طرحه من أفكار ومقترحات لترشيد الإعلام الفلسطيني (خاصة الفتحاوي والحمساوي) وعقلنة التعبير عن الخلاف السياسي والبحث في آليات ممكنة التطبيق لتحقيق ذلك. في هذا السياق يتوجب الانطلاق من نقطة واقعية أساسية هي الإقرار الأولي بالخلاف والتعددية السياسية كأحد جوانب الحياة التي لا فكاك منها. ليس هناك اجتماع سياسي بشري يريد تبني الحد الأدنى من الصيغ الديموقراطية لإدارة شؤونه العامة إلا ويتصدره الخلاف والتنافس السياسي. لا يغيب هذا التنافس إلا في حالات الاستبداد والكبت وسيطرة طرف ما على مفاصل القوة والسلطة والثروة وقهر كل الآخرين وإزاحتهم عن الساحة باستخدام آليات دكتاتورية. معنى ذلك أن الخلاف السياسي ومهما بلغت حدته هو ظاهرة بشرية طبيعية يجب أن لا تخيف الناس ولا أن تصيبهم بالإحباط واليأس. لكن المهم هو كيفية إدارة الخلاف السياسي والسيطرة على آليات الخلاف لتظل سلمية بالدرجة الأولى وتقوم على الاعتراف بحق الآخر في الوجود السياسي وليس نفيه أو إقصاءه.
أهم إقتراح تناوله المؤتمر كان الدعوة لتشكيل مرصد أو هيئة وطنية عليا وغير رسمية لمراقبة التحريض الداخلي, وظيفتها متابعة وسائل الإعلام وإصدار تقارير وبيانات دورية تكشف المواد التحريضية وتدينها وتخلق رأيا عاما واسعا ضدها. ويشرف على مثل هذه الهيئة مجموعة من منظمات المجتمع المدني والشخصيات الاعتبارية المستقلة التي تحظى باحترام وقبول من كافة الأطراف ومعروفة بنزاهتها وحرصها على المصلحة الوطنية. ويتأسس عمل مثل هذه الهيئة على صوغ مجموعة من الأخلاقيات الإعلامية والمصطلحات المتوافق عليها وتهدف إلى إزاحة كل مخلفات اللغة الإقصائية والتخوينية والتكفيرية التي أنتجها إعلام الانقسام.
إعلام الانقسام بكل أشكاله وألوانه خلق جراحا عميقة في الوجدان الوطني الفلسطيني العام وفي الوجدان العربي والإسلامي المؤيد لقضية فلسطين في كل مكان. وقد آن الآوان للعقلاء في تياري فتح وحماس أن يتدخلوا لوقف التفاهات والدمار الإعلامي والأخلاقي والوطني الذي يشرف على إنتاجه أكثر الأصوات تطرفا وأقلها نضجا وأبعدها عن المصلحة الوطنية. ففي عصر الإعلام المعولم والأنترنتي يصل ما ينتجه هؤلاء إلى حدود جغرافية وفضائية لا يتصورونها هم, ويتعدى الدمار الذي يصدرونه كل مدى متخيل.
لا يعني ما سبق تقديم أي تنازل على مستوى الحريات الإعلامية والسياسية التي يجب أن يتواصل دفع سقوفها للأعلى. فكل ما يحدث سواء من تجاوزات أو من محاولة لكبح تلك التجاوزات يجب أن يتم في إطار المحافظة على سقف حرياتي وديموقراطي عال. ولهذا السبب يجب أن لا تكون الهيئة المُقترحة رسمية تملك أي سلطة أو مقربة من أي سلطة. فكل ما تملكه هو سلطتها الأخلاقية والمعنوية القائمة على نزاهة من يشرفون عليها, والتي تكون معنية في نفس الوقت بالدفاع عن الحريات الإعلامية والسياسية ورفضها التورط في أي عملية لمحاصرة تلك الحريات بشكل مباشر أو غير مباشر.
كما أن التجاوزات المفرطة التي رأيناها خلال مرحلة الانقسام, ولا نزال نراها, يجب أن لا تزعزع ثقتنا بالحل الديموقراطي, والعودة التدريجية للإحادية السياسية بتسويغ الفوضى السياسية وشيوع الأخلاقيات الإعلامية المنحطة بسبب انفتاح المجال الإعلامي لكل من هب ودب. فالحالة الفلسطينية وكما هي بقية الحالات العربية لا تزال في مرحلة جنينية طفلية لجهة كيفية التعامل مع واقع عالم الإعلام المعولم والمفتوح بكل ما يأتي به. وهناك إرث وتقاليد إستبدادية وخوف من الانفتاح وتردد عميق في الاعتراف بالآخر, ونكوص سريع إلى عقلية وآليات الإقصاء, وزعم وقناعة حقيقية ذاتية في كثير من الأحيان عند الطرف المُستبد بأنه لو أرخى قبضته قليلا لتفكك الوطن برمته وهكذا. معنى ذلك أن ما نراه من ارتباك وفوضى وسوء استخدام للحرية يجب أن لا يقود للنكوص عنها, بل للتريث واعتبار ذلك جزءا من التحول الذي لابد عنه, والوجهة المستقبلية التي تتجه لها مجتمعاتنا, وتفترض علينا أيجاد المعادلات الاجتماعية المرنة والتي تعدل وتصوب الإختلالات وتبحث عن تعظيم المكاسب وتقلل من الانتكاسات ودمارها.
www.deyaralnagab.com
|