logo
كلمات في المنفى والصمود والعودة!!

بقلم : د. صلاح عودة الله  ... 24.06.2010

"للمنفى أسماء كثيرة، ومصائرُ مُدمّرة قد لا ينجو منها إلا بعض الأفراد الذين لا يُشكّلون القاعدة، أما أنا، فقد احتلّني الوطن في المنفى، واحتلّني المنفى في الوطن.. ولم يعودا واضحين في ضباب المعنى، لكني أعرف أني لن أكون فرداً حراً إلا إذا تحرَّرَت بلادي، وعندما تتحرَّر بلادي، لن أخجل من تقديم بعض كلمات الشكر للمنفى"..الشاعر العربي الفلسطيني الراحل محمود درويش.
انه لأمر صعب أن يعيش الانسان مغتربا فالغربة مرض عضال، والأصعب هو أن تكون الغربة أمرا لم يختاره الانسان، بل فرض عليه، تماما كما هو حال اللاجئين الفلسطينيين الذين شردوا من قراهم ومدنهم ووطنهم بعد النكبة والنكسة..انهم ملايين يعيشون في كافة بقاع الأرض، ذاقوا كافة أنواع العذاب والمعاناة ولكنهم لم ولن يفقدوا الأمل في العودة ومهما طال الغياب..نعم، لكل انسان وطن يعيش فيه، الا الفلسطيني فان وطنه يعيش فيه.
الفلسطينيون يعيشون في منفى داخلي بعد أن تم تدمير بيوتهم ومدنهم وقراهم، ولكنهم يعيشون في وطنهم، ومنفى خارج الوطن وما العنه من منفى..يا وطني، كل العصافير لها منازل الا العصافير التي احترفت الحرية، فانها تموت خارج اوطانها.
يقول الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" في قصيدته المشهورة "سنعــــود"، والتي لعلها القصيدة الأشهر في الشعر الفلسطيني الذي ارتبطت ذاكرته بضياع فلسطين، فاسم القصيدة الذي يوحي بحتمية الانتصار بعودة الغريب إلى أرضه ووطنه، هذا التصميم لا يوحي به للوهلة الأولى ذلك التوجع اللامحدود للفراق، بل ذلك الخيال الساكن في فضاء فلسطين، يحلق عند زيتونها ويجلس عند سهولها، أسئلة الرفاق والاصحاب واحتراق الأيام في الشتات لا يثني من عزيمته بل يظل مبشرا بالعودة، عودة كريمة تٌفتح فيها الأبواب،وتٌذاب فيها القيود..يقول في مطلع قصيدته:خَلعتُ على ملاعبها شـــــَبابي وأحلامي على خُضــرِ الرَّوابي..ولي فــي كُلِّ مُنعَطَفٍ لـــقاءُ مُوَشّي بالســَّلام وبالعِتــاب..وينهيها مؤكدا وجازما بأن العودة آتية لا ريب فيها:أجل، ستعود الاف ضحايا الظلم تفتح كل باب..نعم يا أبا سلمى، سنعود رغم الداء والأعداء..سنعود رغم الأصوات الفلسطينية الشاذة والخارجة عن منطقنا، منطق الحق والتصميم، ففلسطين تقول لن أرضى بغير أبنائي وحان الأوان لنقول لها ونحن بدورنا لن نرض الا بك، فأنت الأم التي في رحمها خلقنا ومنه خرجنا، وهل يخذل الولد أمه؟.
وفي روح هذه العقيدة الراسخة يكتب شاعر القضية الفلسطينية ومقاومتها الراحل محمود درويش والذي حمل هم قضية بلاده فلسطين داخل قلبه فكانت صاحبة حضور قوي بمعظم قصائده، واليوم ونحن نسكب من أعيننا دماً لا دموعاً على يوم نكبتنا ونكستنا وضياع الوطن، نأتي لنذكر واحدة من قصائد هذا الشاعر الفلسطيني، الذي كان شعره لسان حال الفلسطينيين والعرب..فيقول في قصيدته"أيها المارون بين الكلمات العابرة"مخاطبا الصهاينة المحتلين..أيها المارون بين الكلمات العابرة..احملوا أسماءكم، وانصرفوا، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا،واسرقوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة..وخذوا ما شئتم من صورٍ، كي تعرفوا، أنكم لن تعرفوا:كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقف السماء؟..ثم يمضي قائلا بكلمات نابعة من القلب، هذا القلب الذي توقف عن الخفقان لأنه لم يعد يتحمل عذاب وقهر أبناء شعبه وقضيتهم:أيها المارون بين الكلمات العابرة، آن أن تنصرفوا..وتقيموا أينما شئتم، ولكن لا تقيموا بيننا..آن أن تنصرفوا..ولتموتوا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا، فلنا في أرضنا ما نعملُ، ولنا الماضي هنا، ولنا صوت الحياة الأول، ولنا الحاضرُ،والحاضر، والمستقبل..ولنا الدنيا هنا، والآخرة..فاخرجوا من أرضنا..من برنا..من حرنا..من قمحنا..من ملحنا..من جرحنا، من كلّ شيء، واخرجوا..من ذكريات الذاكرة..أيها المارون بين الكلمات العابرة.
نعم، إنهم مارون بين الكلمات العابرة، وأما نحن فنقول:هذه أرض أبائنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا، فنحن هنا باقون، على صدوركم باقون كالجدار و في حلوقكم..كقطعة الزجاج كالصبار، وفى عيونكم زوبعة من نار..كأننا عشرون مستحيل في اللد و الرملة و الجليل..إنا هنا باقون، فلتشربوا البحرا..نحرس ظل التين و الزيتون، ونزرع الأفكار كالخمير في العجين..برودة الجليد في أعصابنا، و في قلوبنا جهنم حمرا..إذا عطشنا نعصر الصخرا، و نأكل التراب إن جعنا ولا نرحل، و بالدم الزكي لا نبخل لا نبخل لا نبخل..هنا لنا ماض وحاضر و مستقبل..ويا جذرنا الحي تشبث، واضربي في القاع يا أصول..نعم، يا أيها المناضل الراحل العنيد..نعم، يا شاعرنا "أبا الأمين"..أيها"التوفيق زياد" نعاهدك بأن أصولنا ستضرب دوما في أعماق القاع وسنبقى هنا، فعلى هذه الأرض..سيدة الأرض ما يستحق الحياة.
وأنهي بأبيات من قصيدة الراحل محمود درويش"كان ما سوف يكون" والتي كتبها في تأبين الشاعر الفلسطيني العملاق راشد حسين:"والتقينا بعد عام في مطار القاهرة،قال لي بعد ثلاثين دقيقة:ليتني كنت طليقا في سجون الناصرة"..راشد حسين الذي قال:ولو قضيتم على الثوار كلهم**تمرد الشيخ والعكاز والحجر..نعم، يا راشد،سيتمرد الطفل الفلسطيني ومعه العكاز والشيخ والحجر حتى تحرير كل ذرة من تراب فلسطين، وما بعد الليل الا بزوغ الفجر.

القدس المحتله

www.deyaralnagab.com