logo
إعادة نظر بقصة قابيل وهابيل... !!

بقلم : سهيل كيوان ... 06.05.2010

اختفى المفتش فجأة، لم يظهر في عدة مناسبات متتالية وهذا ليس من عادته، فهو لا يفوّت مجلساً إلا ويحضره، سواء كان مجلس فرح أو عزاء أو مجلساً تشاورياً بعد طوشة ووقوع إصابات. يتظاهر بالتواضع ويُبدي رغبة بالجلوس بعيدا عن المركز بحركة مسرحية شفافة، ولكنه لا يلبث أن يخضع لرغبة المضيفين ويتمركز في الصدر، يتنحنح وكما يتوقع الجميع يحكي قصة قابيل الشرير الذي قتل شقيقه الطيب هابيل.
اتضح بسرعة سبب غيابه، سافر الى تلك البلاد التي كانت قد وعدت البشر بإحضار الجنة لهم من السماء إلى الأرض بدلا من انتظار الصعود إليها من الأرض إلى السماء، ولكن بعد طول انتظار فقد الناس الأمل، وانهار ما كان يبدو راسخاً كجليد القطب، وعُرض كل شيء للبيع بما في ذلك الألقاب العلمية، رحلة لبضعة أسابيع وإقامة في فندق خمس نجوم، يشمل الفطور والغداء ولقب 'دكتوراه' في العلوم الاجتماعية.
عاد المفتش محققاً رقماً قياسياً في سرعة التحصيل وبثمن معقول جدا أثار حسد من كلفهم لقبٌ كهذا بضع سنوات من التصاق مؤخراتهم بمقاعد الدراسة وأضعافاً مضاعفة من جيوبهم! هذا الحدث الجميل حصل معه خلال شهرين من إجازته السنوية! ونشرت في الصحف المحلية أجمل التهاني وباقات الورود للأب والعم والخال الصديق والأخ والأستاذ والزميل الدكتور، ودمتم ذخراً للوطن وللشعب.
ورغم أنه ذخر للوطن وللشعب فقد تعرض لاتهامات قاسية متعددة الرؤوس، أولها عدم أهليته للوظيفة الكبيرة وهناك من هم أحق منه بكثير لولا خدماته المظلمة للجهاز الأكثر ظلاماً، وثانياً انفتاح شدقيه الدائم لتلقي الرشوات بمختلف تجلياتها، وأخطرها اللغط الذي يدور حول ابتزازه الجنسي لكثيرات ممن جئن طالبات للعمل! كان دفاعه جاهزاً بالقول 'إنه الحسد..إنه الحسد'، مثل أي حاكم أو متحكم برقاب العباد يستل تهمة الحسد بوجه معارضيه ومنتقديه حتى طالبي رغيف الخبز النظيف! وأن تضبط في حالة عشق مع أتان تحملها على كتفيك يوم القيامة أهون عند الناس من ثبوت تهمة الحسد عليك. وهناك قصص لا تحصى عن نظرات الحسد التي كسّرت وفجّرت وحطمت وأتلفت وأحرقت وكادت تقتل وقتلت بالفعل،ولهذا أبدع الناس لمقاومة الحسد العين الزجاجية أو المعدنية الزرقاء التي تعلّق فوق مدخل البيت أو مقدمة السيارة، فوق جبين الرضيع أو على صدره، والكف، وكلمات مقدسة. ولسنا الوحيدين في هذا المجال فقد ابتكر الطليان الجنوبيون مضاداً حيوياً للحسد هو الدق على الخشب فأخذتها عنهم الأمم بمن في ذلك بعض العرب الذين ألحقوها بالصلاة على النبي احتياطاً.
أما الدكتور المفتش فقد اختار له أبناؤه فردة حذاء علقوها على مؤخرة سيارته درءاً لشر الحسد والحاسدين....
كان سبب ظهوره الأول منذ عودته طوشة اندلعت بعد كسر مرآة سيارة متوقفة على الرصيف من قبل سيارة أخرى يستقلها شبان ثملون، (لم يكن الأمر على رمانة بل على قلوب مليانة)، لسوء الحظ أن للسائق انتماء انتخابيا معلناً مضاداً لصاحب السيارة على الرصيف، ورأى صاحب المرآة المكسورة وأخوانه محاكمته ميدانياً حسب شريعة حمورابي مُعصرنة، السن بالسن ومرآة السيارة بذراع السائق وأنف الجالس الى جانبه، وهذا سبب توتراً كبيرا بدأ بعدد من الأفراد ليشمل العشرات من حلفين عريقين في الصراع على السلطة المحلية.
بدأ (الدكتور) كعادته بقصة أول حادثة عنف في التاريخ البشري، والقضاء على ربع أو سدس أو ثمن أو عُشر أو نصف عشر أو ربع عشر البشرية في ضربة حجر واحدة.
وفجأة ومن غير انتظار تنطّح له شاب معروف بالمشاكسة وكثرة الغلبة قائلا بلهجة غاضبة 'أعتقد أن قابيل ليس شريراً كما تصفونه بل العكس هو الصحيح وهابيل هو الشرير'.
التفتت عيون الحاضرين كلها إلى الشاب منتظرة توضيحاً، وقال المفتش 'قابيل عليه السلام كان عنيفاً وحسوداً هذا معروف..'
فرد الشاب- أي حسد وأي بطيخ...أعتقد أن تصرف هابيل ليس أخوياً بل أنه كان خائناً لقيمة الأخوة.
- كان خائناً.. ما هذا الكلام....هابيل عليه السلام كان من الصالحين.
- بل كان طماعاً لم يترك شيئاً لأخيه المسكين، أخذ بركة والديه ودعاءهما حتى قبل الله قربانه، وبعد هذا طمع بالشقيقة الأجمل...وعندما غضب قابيل من تصرفه وحاول ثنيه عن أنانيته اتهمه هابيل بالكفر وقال 'اقتلني كي تتحمل إثمي وإثم نفسك لتدخل النار'...أي شقيق هذا الذي يغري شقيقه بقتله كي يدخله النار... أعتقد أن هذه القصة تحتاج إلى إعادة تفكير ومحاكمة أبطالها من جديد.
تمتمت شفاه كثيرة..'ما هذا الكلام'. وقال الدكتور الطازج ' يبدو أن هناك خطأ في تربيتك. الجميع يعرف أن قابيل حسد أخاه هابيل على رضى الله والوالدين والزوجة الجميلة فقتله، هذه قصتهما عليهما السلام..وهي تحذير لمن يحسدون الناس على مال أو امرأة أو وظيفة..أو..'
فرد الشاب- ألم يكن بإمكان هابيل أن يتملص من وجه أخيه وأن يمنع الشرّ؟علماً أن الأرض كلها كانت ملكاً للعائلة الكريمة، هل كان عليه أن يقف أمام قابيل بكل صفاقة ويقول له...أقتلني كي تدخل النار بإثمي وإثمك.
- لا حول ولا قوة إلا بالله....من أين تأتي بهذه الأفكار السوداء...
سوداء.. فليكن....هل تخبرني لماذا عرفنا اسمي الرجلين هابيل وقابيل...ولم يخبرونا باسمي الشقيقتين أو على الأقل باسم الأنثى التي كانت سبباً بمقتل هابيل...أم أننا يجب أن نسلّم بالتمييز ضد النساء حتى في مرحلة المشاع...
- من قال إنهما لم تذكرا..توأم قابيل كانت تدعى (إقليما) وكانت آية في الجمال والأخلاق وهي التي اتخذها هابيل زوجة له، أما توأم هابيل فتدعى ليودا وكانت بشعة سيئة الخلق....
- هل تخبرنا يا دكتور كيف يمكن أن تكون توأم قابيل على هذا القدر من الجمال والأخلاق الحميدة بينما توأمها حسود وحاقد وبشع....وكيف تكون توأم هابيل الجميل الطيب التقي بشعة وسيئة الخلق...أين المنطق بهذا! فالتوائم عادة متقاربون جداً بالشكل والتصرفات والصفات.
- أف..كفى...أنصحك بأن لا تخض مع الخائضين...
- وتسميه خوضاً...قل لي كيف يعقل أن يحمل قابيل جثة شقيقه هابيل على كتفه مائة عام حتى رأى الغراب وتعلم منه الدفن....
- هذه رواية مجاهد رضي الله عنه....
- لا تقل لي مجاهد وغير مجاهد..أعتقد أنه بعد بضعة أيام من مصرع هابيل طلعت رائحته والحديث عن مائة عام وحتى مائة يوم هو خرافات...وأنت تعززها...قل لي يا دكتور ما هي مصلحتنا بتعزيز الخرافات...
- هناك مسلمات متفق عليها....هابيل كان شهيدا لأنه قتل مظلوماً والشهيد لا يبلى وتكون رائحته مسكاً...
- أنا أقدس الشهداء وليكن حذاء أي منهم على قرعة رأسي ...ولكن لو كانت رائحة الشهداء مسكاً وأجسادهم لا تبلى لما استعجلنا بدفنهم....
انتهز الدكتور الفرصة ووقف غاضباً- إسمعوا يا ناس...إنه ينكر مسلّمات ويجادل بالمستحيل. وتعالت أصوات عدة وتدافع البعض باتجاه الشاب- أخرج من هنا....عليه أن يخرج من هنا الآن....أخرجوه...كفى فلسفة...أسكتوه...من أين يأتي لنا بهذه الأفكار الوقحة... فليذهب إلى الجحيم هو وفلسفته...دعونا نحل مشكلتنا الآن..عود ثقاب واحد سيشعل البلدة بسبب مرآة سيارة بينما هذا متفرغ للفلسفة...!بعد أن دفعوا الشاب الى خارج الديوان عاد كل الى مكانه وبعد لحظات هدوء قال عمّ الشاب الذي كسر أنفه...تفضل دكتور..أكمل حديثك من حيث وصلت...


www.deyaralnagab.com