logo
سيجارةٌ وقهوةٌ وقمر!!

بقلم : إيناس الطويل* ... 20.05.2010

جلست قُربَ شرفتِها في قمقم أسرارِ وحدتِها الأرجواني وكعادتها تبدأُ طقوس الاحتفال بنسيمِ ليلٍ تمتلكُه وحدَها بامتياز....
ليلٌ يتيحُ لها امتشاقَ صهوةِ الذكريات لتستمتعَ من جديدٍ بلحظةٍ بثت في روحها الأمل حينما كانت زهرةً تبدأ ُ بالتفتح قبل أن تهب تلك العاصفة التي قذفتها من البؤس إلى الشقاء.....
أشعلت سيجارتها متأملة وجه القمر الصبوح الذي ترجل على الأرض فجأة وبلا أدنى مقدمات ليطلق سهام كيوبيد في روح كينونتها فيحيطها ببوتقة تحميها من الموت المطبق على جوانحها ...
فأتت في مخيلتها من ماض سحيق زهرة مراهقتها التي بدأت تدركُ أنثوية َجمالها متباهية ًبخُصلاتِ شعرها السوداوي حدَّ البريق ....تقفُ مذهولةً بينَ جدرانِ الكنيسةِ التي تعج بآلاف البشر ينتظرون متهللين نورَه السماويَّ المهيب تحت قمعٍ صيهوني مستهزئ بكل دين رباني....وهي لم تكن تدري حينئذ أن ذلك النور سيحمل معه أولى دقات قلب طاهر ينبض حبا يُكتب له الاستشهاد غدرا بحقد فاشي ليٌصلب الحبيب بأيدي قتلة الأنبياء على وقع بريق النور السماوي .... فيبدأ رحيق تلك الزهرة بالتقهقر منذ ذلك اليوم الأسود من الماضي العتيق....
ترتشف نقطة من قهوة باردة الملمس كبرود ليل الصحراء فتحمل قطتها ذات العينين البارقتين فتلمع في ذاكرتها براءة أيام ليلى الحمراء الخجول التي كانت تٌطل من شرفتها مع كل إعلان منع تجوال بقرار عقاب جماعي لمغتصب قاهر..فتسترق نظرة وله وعشق من سواد عيون مقاوم لتزداد ثقة بجمال قد سُرَّ كلُّ من رآه إلى حد الخوف من الحسد والتمسك بالبسملة.....وتبقى الخجول داعية ربَّ الأرباب أن يحمي عيون فارسها من كل سوء..... تفخر هي بحمله روحه على كفه فداءً لكل ذرة تراب من أرض تنبع طهارةً وتقطرُ عشقا......
ويتوارد تسلسل نهر الذكريات مع إشعال الغاز مجددا لارتشاف كأسٍ من الشاي الساخن فيومض في مخيلتها لهيب تلك الجموع مستعدة للخروج من قلب جبل النار للهتاف للصراخ لإعلان كل سخط على محتل اغتصب أرضا و شرد وأسر شعبا ....فتمضي بكل حماس ليلى بنت المارد الأحمر....هاتفة صارخة حاقدة غير آبهة بما هو آت....فما يطرأ في قلوبهم وعقولهم في تلك اللحظات إلا التكتل والتكاتف والقفز فوق كل الأشواك .....فيهللون قاذفين شرارةَ الحجارة المباركة فتسيطرُ عليهم نشوةٌ الانتصار فيستمتعون بالكر والفر ولا يأبهون لطلقاتٍ هنا بل..ويطربون لاستنشاقِ غازٍ سامٍ هناك ...فيتقهقرُ الجبناءُ خوفا ....معتقلين من استطاعوا من الشرفاء ....
وفي جنين الصمود تتألقُ التضحية من قلبِ التشبث بالأرض ....فتتسلل من بيتها خلسةً من خوف عليها من خطر محدق بالجميع فكيف بها تلك ليلى السمراء الجميلة المتدينة إلى حد الالتزام ...لكنت تُصرُّ لتأدية واجب ملائكة الرحمة لأخوة ورفاق شدوا الرحال لنضالات يعجز عنها الأبطال فيسطرون ملحمةً تُعَبِقُ تاريخَ البشرية ببتوليتها ونقائها إلى حد التفرد ......
وهناك تعود ليلى الخمرية إلى قلب مخيم العزة على شاطئ بحرغزة تصحو كعادتها لتُلبِسَ أطفالها وتلقنهم النصيحةَ المعتادة أن تسلحوا بالعلم لتعودَ الأرضُ التي أجبر عنوةً البسطاء على الرحيل منها تحت وقع أنين من ذ ُبح وقُتل على مسرح الحياة من قبل صهيوني متوحش في زمن بشرية الجبن والتخاذل ....ومع سماع وقع آذان الظهر تأتي البشرى التي تغرس خنجرا في قلبها وقد استُشهِدَ بكرُها وتوأمُ روحِها وسطر ملحمةً من البطولةِ والفداء وقد فجَّر جسدا في حفنةٍ من الجنود البلهاء ليلقنَ درساً لحكام العرب الجبناء ولجيوشهم منتفخي الأحشاء......
أما جارتها على طرف المدينة فتمعن في نشرة الأخبار لتتوالى على مسامعها أسر أب بناتها ذلك المقاوم العاشق يوما قد قنص الآن مغتصبا حيث حان وقت القصاص لتعديه على أرضِ الآباء والأجداد .....فيصبح وما بين ليلةٍ وضحاها مجرما بأشرفِ جريمةٍ يتنماها إنسٌ أو جان ....وتُسحَقُ سنون عمرِه ما بينَ جدرانِ عزلٍ صماء ....لتبقَ أم بناته على العهدِ تربي جيلا تعلمُه كيف يكونُ حبُ الأوطان .....
وبجواره في العزلِ تقبعُ مريم محتميةً بطهارةِ ثوبِها الذي تحميه ملائكة الرحمن ....فتتشبث بكل فخر في أقبية التحقيق الصادمة فتمعنُ بالتمترس بمبدأ من قَتل يُقتل ولو بعد حين ...وقد شَرٌفت هي وكان ذلك الحين حينما غرست تلك السكين في نفسٍ شريرة مطرودة من حارات ونواصي الماو ماو لتحتلَ بيت َعزِها وتقتلَ أبيها وتهدم شرفة أختها ليلى الحمراء الخجول وتحرقَ زرعَ حديقتِها....فتسارعُ مريم لتواجهه فتطعنه بسكينتها المباركة إلى جهنم ليُحرقَ فيها الآن وإلى آخر الزمان ....
ويبزغ الفجر مع آخر قطرة شاي محترقة بلهيب ذكريات ليلى الصامدة فتلف كوفية بكرها الشهيد لتنهض في يوم جديد فتيقظ أطفالها لتبث في عروقهم درسا جديدا في الحب والعلم والتشبث بالأرض إلى حد نكران الذات .....

*كاتبة فلسطينية

www.deyaralnagab.com