ربيع مقاوم! !
بقلم : رشاد أبوشاور ... 28.3.07
نحن الآن في أوج فصل الربيع
ولكن آذار (مارس) هذا العام لا هو ربيع، ولا هو شتاء، ولا هو صيف، فهو في اليوم الواحد عدّة فصول بتقلبّات مباغتة من النقيض إلي النقيض، من درجة حرارة صيفيّة إلي انخفاض سيبيري...
ورغم هذا الطقس المتقلّب تفتّحت الأزهار...
انبثقت بسلاسة من أغصان يابسة، بعد ما سرت الطراوة في الأعواد، فتلوّنت بالبنّي المبشّر...
بشائر الربيع وريقات خضراء صغيرة كألسنة العصافير، تلتصق بها أكؤس بخمس وريقات ملوّنة بالأبيض، والزهر، تأخذ شكل الكأس في منتصفها ما يشبه الإبر الدقيقة المستديرة الرؤوس بلطف...
نوّر اللوز بزهوره البيضاء، والأجاص بلونه الأبيّض المعشّق، والدرّاق بالزهري الغامق الذي يشّف بعد أيام بامتزاجه ببياض ناعم يمنحه شاعريّةً تريح النفس وتبهجها.
أنا أحب أزهار الدرّاق هذه منذ عشت في غوطة دمشق الشرقية، في بيت ريفي بين المشمش، والدرّاق، والأجاص، والخوخ، والتوت، وأشجار الجوز العملاقة الوارفة.
كل عام أنتظر آذار، لتتفتّح روحي مع زهوره وشمسه الناعمة، وتغريد عصافيره، وغيومه البيضاء الرشيقة اللطيفة، وسمائه الفسيحة...
ولكن آذار (مارس) هذا العام حضر مرتبكا، بلا شخصيّة، في ختام فصل شتاء بخيل، قليل المطر، بارد ببياخة وسخف، وكأنما الطقس في بلاد العرب بات مطابقاً لأحوالهم السياسيّة والمعيشيّة.
تابعت درجات الحرارة هذا العام، في عواصم أوربيّة: باريس، لندن، روما، مدريد، ويا للعجب، كانت درجات الحرارة هناك أدفأ منها في بلاد الشام!.
شتاء أوربة هذا العام قليل الثلج، وهم هناك حزنوا لأن هذا سيحرمهم من التزلّج علي الجليد.
نحن في بلاد الرمال المتحرّكة لا نتزلّج سوي علي الوعود الخلّب. نغوص في وحل فصل شتاء بلا مطر.
بسبب ارتفاع درجات الحرارة في أوربة، وانخفاضها عندنا، وجدتني أتساءل : هل ستتحول تضاريس البلاد والقارات مناخياً، فيتساقط الثلج عندنا وتتصحّر أوربة؟!
ليست نبوءة شؤم، ولكن خطر ببالي هذا التساؤل وأنا أتابع مشاهد ذوبان جليد القطب، وهو ما ينذر بعواقب علي البشريّة، بل علي الحياة علي الأرض نتيجة عبث البشر وبخّاصة الدول الصناعيّة التي تنبعث منها الغازات التي ترفع درجة حرارة الأرض، وأولها أمريكا بوش التي ترفض الالتزام بخفض كميّة الغازات من مصانعها وسيّاراتها، وهي الأكبر بين دول العالم.
نحن في بلاد لا يذوب فيها شيء !
حتي إننا لا نذوب خجلاً ونحن نتابع العالم يتظاهر مطالباً برحيل الاحتلال من العراق، بعد أربعة أعوام من القتل، والنهب، والغطرسة، والكذب...
نحن جامدون تماماً، تذوب المحيطات ولا نذوب !
ولا مظاهرة في بلد عربي واحد ترفع الصوت ضد المجرمين بوش وبلير المفضوحين الكاذبين المدلسين!
الذين رحّبوا بالديمقراطيّة الأمريكيّة شعراً ونثراً، وتنظيراً فكريّاً بائساً..يلوذون بالصمت، بينما (وطنهم) يغرق في الهلاك، وذووهم ـ إن كانوا يتذكّرون صلة القربي معهم ـ أشلاء، ورؤوس مقطّعة، وخوف، وجوع ، وتفشي أميّة في العراق الذي بلغ ذري تعليميّة، وصحيّة، لم يبلغها وطن في الشرق الأوسط كلّه ! تحترق الكتب في شارع المتنبي، في زمن الشرق الاوسط الجديد...
يغرق دجلة بالطين...
لا ألواح طين في بابل، ولا كتابة في متحف بغداد، سرقت وصايا حمورابي التي نظّمت الحياة قبل ألوف السنين..بفضل اكتساح ديمقراطيّة بوش وبلير لعراق الحضارات .
بلاد العرب مقفرة، متصحّرة، شوارعها يزحمها مشاة لا يذهبون إلي هدف بعينه سوي أنهم يمشون بحكم العادة والغريزة، والحياة الأميبيّة...
شوارع لضجيج السيّارات...
لا هتافات تعلو، ولا صيحات : الله اكبر علي من يفعلون هذا بأهلنا، علي من أدخلوا الغزاة إلي بغداد !
وأنا أتأمل زحوف المتظاهرين في المدن الأمريكيّة ، في الباكستان، في لندن، في أندونيسا، في تركيا، في الفلبين..نعم في الفلبين..في...
ناحت روحي :هذا العالم كله يتحرّك تضامناً مع العراق، والعرب فقط هم الذين لا يتحرّكون، لا أقصد الحكّام، ولكن الشعوب..أو الشارع !
كيف تمكّن حكّام الدول العربيّة من تبليد الإنسان العربي، من سحب الحساسيّة والشعور بالانتماء من شرايينه وأوردته ودمه ؟!
ما الوسائل التي استعملت لتعطيل عضو الانتماء، وتبديله، سرقته..كيف تمّ تخدير الإنسان العربي وتنويمه، وتحويله إلي مخلوق يمشي ويأكل ويعيش سرنمةً ؟!
وأية كائنات هي هذه التي تتحكّم في مصيره ؟ في حاضره ومستقبله!
محاضر محمّد !
ما اسمه الحقيقي؟ محاضر أم مخاتير ؟!
بعض الفضائيّات العربيّة تلفظه : مخاتير...
لو كان من مخاتير العرب لما تحرّك في عروقه الدم، ولما بني بلاداً صناعيّة متطورة في بلده ماليزيا المتكوّن من ثلاث قوميّات، وللبد مثلهم منتظراً أوامر السفير الأمريكي أو من هو أدني مرتبة من السفير.
محاضر، وهو بعد اعتزاله بات محاضراً عالميّاً تتسابق كبريات جامعات ومعاهد العالم علي اجتذابه، لثقافته ، وعظمة تجربته في قيادة بلاده، ومحاضراته يدفع له مقابلها ألوف الدولارات، والتي لا ينفقها علي الخيل..الخيل والليل!..يرحم الله جدّنا المتنبي: الخيل والليل والبيداء تعرفني..فأحفاده يعرفهم الليل، ليل السهاري لا علي مصلحة الوطن، السهاري لا تهجدّاً وعبادةً، ولكن...
محاضر خاطب المقاومة العراقيّة المظفّرة بكّل شجاعة: واصلوا مقاومتكم فالنصر لكم، وبوش وبلير مجرما حرب ولا بدّ أن يحاكما...
بمحاضر نفتخر لا بالحكّام الكوابيس الذين ينّغصون حياتنا، يحرموننا حتي من الفرح بزهرة نتأملها، تبتهج بها نفوسنا، نتابع ولادتها، انبثاقها من عود يابس يعود للحياة، يستأنف الحياة، يعطي الحياة ثماراً تغذّي البطون بعد أن أفرحت العيون والنفوس...
هم لنا بالمرصاد، هم كالريح المدمّرة التي تهّب علي آذارنا فتهّز الأشجار بلؤم لتسقط أزهارها، وتكسر جذوعها، فهم ضد دورة الحياة، هم الموت والقحط والرمال المخاتلة...
ومع ذلك، ها أنا ذا أتأمّل الغرسات الصغيرة العنيدة، أنحني أمام أزهارها البيضاء، والزهريّة الناعمة ، وخضرة الأوراق الصغيرة..وأعرف أن كل هذا لم يكن قبل أيّام سوي أغصان ناشفة مجدبة ميتةً..ولكنها الحياة تتفجّر ، تعود لتحيا من جديد...
لا، لا يأس رغم بؤس حالنا العربي...
فلولا المقاومة العراقيّة ما تفجّرت التظاهرات في مدن العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، ولما آل بليرخزيانا، ووجه بوش وخطاباته عنوان هزيمة وانكسار..
الأشجار تقاوم اليباس بالأزهار والأوراق والثمار، وهي تعود كما (تمّوز) العراق، كما بغداد العروبة...
المناخ الأمريكي الطارئ الهاجم علي بغداد ها هو بعد أربعة أعوام ينحسر، ويندحر تحت ضربات المقاومة مهرولاً في رحلة أفوله وانهزامه، وهو ما بشّرنا به نحن المؤمنين منذ لحظة اقتحام ساحة الفردوس في قلب بغداد ، فلم نيأس لأننا قرأنا جيّداً كتاب العراق منذ كان عراق سومر وأكّاد وآشور، عراق الفتوحات، والحضارة، والثقافة، والنخيل والشعر والخصب، العراق العربي ـ رغم أنف الشعوبيين ـ الذي سيصعد من جديد حرّاً وسيّداً، وسيكتب نهاية إمبراطورية الشّر البوشيّة ...
رغم تساقط كثير من الأزهار لضعف مقاومتها الرياح الهوجاء، فثمّة أزهار تتشبّث بالأغصان وتتحوّل ثماراً وخصباً...
إنها قوّة الحياة، مقاومتها للجدب نراها ثاويةً في العروق اليابسة، ومنها
www.deyaralnagab.com
|