دعوة شاذة لزيارة القدس!!
بقلم : نقولا ناصر* ... 19.07.2010
**كيف يدعو وزير أوقاف فلسطيني الآخرين لزيارة الأقصى والصلاة فيه بتأشيرة إسرائيلية بينما الرئيس محمود عباس نفسه لا يستطيع زيارته ويصلي في مسجد التشريفات برام الله !
يتساءل المراقب باستهجان عن الصلاحيات الخفية التي قد يملكها وزير الأوقاف في حكومة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني برام الله، محمود الهباش، فتؤهله لكي يكرر أوائل الشهر الجاري دعوة لنظيره المصري، محمود حمدي زقزوق، لزيارة القدس كان قد سبقه إلى دعوة مثلها في أيار / مايو الماضي قاضي قضاة فلسطين السابق الشيخ تيسير التميمي، بقدر ما يثير الاستهجان تبني الأخير لهذه الدعوة وإصراره عليها وكأنما هي مبادرة منه لا استجابة، بينما يعجز الرئيس الفلسطيني نفسه عن دخول القدس لأي غرض كان حتى لو كان للصلاة في المسجد الأقصى إلا بتصريح من دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهي صلاة ما زال يمتنع عن القيام بها في الأقصى حتى الآن، أو بدعوة من قادتها مثل الدعوة التي وجهها له رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نهاية الشهر الماضي، فكيف يدعو وزير أوقاف فلسطيني الآخرين لزيارة الأقصى والصلاة فيه بتأشيرة إسرائيلية بينما الرئيس محمود عباس نفسه لا يستطيع زيارته ويصلي في مسجد التشريفات برام الله !
وسوغ الهباش، في خطبة صلاة يوم الجمعة الماضي برام الله بحضور الرئيس عباس، دعوته العرب والمسلمين إلى "شد الرحال إلى القدس" باعتبار زيارتها "واجبة على كل مسلم ومسلمة .. امتثالا لأمر" النبي محمد (صلعم)، و"تأكيدا لهوية المدينة العربية والإسلامية" ونفى أن تكون زيارتها "تطبيعا" مع دولة الاحتلال مقتبسا من عباس قوله إن "زيارة السجين ليست تطبيعا مع السجان ولكنها تواصل مع السجين ورفع من معنوياته". وكان التميمي في دعوة مماثلة إلى شيخ الأزهر الشريف د. أحمد الطيب قد حث "شيخ الأزهر والبابا شنودة الثالث أن يوجها أتباع الديانتين في مختلف أنحاء العالم لزيارة المسجد الأقصى والقدس لمواجهة مخططات التهويد" مضيفا أن "الفتاوى" التي ترفض ذلك قد "ساهمت في عزلها عن الوجود الإسلامي والنصراني"، بينما انتقد زميل الهباش وزير العدل علي خشان هذه الفتاوى بأنها "ضرب لصمود الشعب الفلسطيني". أما نظيره المصري زقزوق، الذي رحبت دولة الاحتلال بدعوته وزيارته أن تمت فعلا، فقد سوغ الدعوة إلى زيارتها "بتأشيرات إسرائيلية لإجبار العالم على الاعتراف بها عاصمة لدولة فلسطين" بأنها "تمثل أكبر دعم للقضية الفلسطينية والفلسطينيين" ليتساءل: "ألم يستأذن الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ مشركي مكة حينما أراد أن يعتمر في العام الثالث للهجرة، بل ألم تكن الأصنام وقتها تحيط بالكعبة من كل جانب؟ هل كان الرسول عندما قرر ذلك يريد أن يطبع العلاقات مع المشركين ويريد أن يعترف بأصنامهم؟"
غير أن كل هذه المسوغات وغيرها لم تقنع، مثلا، الداعية العربي السعودي محمد العريفي لكي يتراجع عن عدوله عن زيارة كان قد أعلن أنه سيقوم بها للقدس في نيسان / أبريل الماضي، التي حذرته حركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتان من القيام بها خشية "التطبيع"، ولم تقنع المديرية العامة للجوازات في دولة خادم الحرمين الشريفين العربية السعودية لكي لا تحذر العريفي بان زيارته للقدس لو تمت ستضعه "تحت طائلة المسؤولية القانونية".
وكان عدول العريفي وتحذير دولته منسجمين مع إجماع عربي وإسلامي لا تشذ عنه سوى دعوة وزيري الأوقاف الهباش وزقزوق، وكلاهما يعرف بأن دعوتهما ربما كان سيتوفر لها حد أدنى من "الواقعية" في الأقل لو كانت دولة الاحتلال قد سمحت بإعادة فتح المؤسسات الفلسطينية المغلقة في القدس أو لو كانت دولة الاحتلال تسمح لل"سفارة" المصرية لدى سلطة الحكم الذاتي بممارسة مهامها من القدس لا من رام الله.
إن أي زيارة يقوم بها أي مسؤول عربي أو إسلامي للقدس وهي ترزح تحت الاحتلال لن تكون بالتأكيد أهم أو أكثر أثرا في حماية الوجود العربي والإسلامي والمسيحي في المدينة المقدسة من الزيارة التاريخية التي قام بها لها الرئيس المصري الراحل أنور السادات في 19/11/1979 أو من زيارات بابوات الفاتيكان لها، وهي زيارات ثبت الآن أن نتائجها كانت عكسية تماما وأن دولة الاحتلال قد استثمرتها كغطاء "سلمي" خادع للتهويد المتسارع المتفشي كالسرطان فيها حاليا.
ويظهر شذوذ الدعوتين جليا في ضوء امتناع القيادات السياسية للأطراف العربية الثلاث الموقعة عل معاهدات واتفاقيات سلام مع دولة الاحتلال عن زيارتها، ناهيك عن زيارة القدس، فالرئيس عباس الذي يرفض الآن الاستجابة لدعوة نتنياهو للاجتماع به لا يصلي في الأقصى بل في مسجد التشريفات التابع للرئاسة بمقره في مقاطعة رام الله، والرئيس المصري حسني مبارك يرفض الزيارة بالرغم من الإلحاح الإسرائيلي طوال سنوات. أما موقف الملك عبد الله الثاني فجدير بالتوقف عنده. فالدعوتان تصدران على خلفية تحذيرات الملك المتكررة مؤخرا بخاصة من أن القدس "خط أحمر" ومن أن دولة الاحتلال "تلعب بالنار" فيها، مما جعل الملك يربأ بنفسه حتى عن التلميح إلى احتمال زيارتها في أي وقت منظور، بينما يملك من الأسباب السياسية والدينية والعائلية والشخصية ما يجعله المرشح الأول لزيارتها، بالرغم من التزامه بالسلام وعمليته ومن التزام المملكة الصارم بمعاهدة السلام مع دولة الاحتلال.
فالأزهر "السني" وحوزة قم "الشيعية" وبابا الأقباط، أكبر تجمع مسيحي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين د. يوسف القرضاوي وأهم الرموز الدينية والسياسية للحركة الإسلامية في فلسطين ومنهم خطيب المسجد الأقصى جميعهم يعارضون زيارة القدس في ظل الاحتلال وبتأشيرة من دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ولم يكتف شيخ الأزهر د. الطيب برفض "زيارة القدس والمسجد الأقصى في الوقت الراهن، إلا بعد تحريرها تماما من الاحتلال الإسرائيلي" بل دعا "المسلمين لعدم زيارتها من خلال التاشيرات الإسرائيلية لأن ذلك يعني تكريس الاحتلال الإسرائيلي والاعتراف بمشروعيته" وحثهم على عدم "الانسياق وراء الدعوات التي تدفع إلى ذلك". وكان سلفه الراحل شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي قد رفض بإصرار مماثل زيارة القدس "وهي مكبلة بسلاسل قوات الاحتلال" دون أن يتاثر موقفه الحاسم هذا بمصافحته الشهيرة لرئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس على هامش مؤتمر للأمم المتحدة لحوار الأديان. وقد كان رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين د. يوسف القرضاوي حازما في اعتباره أي زيارات كهذه "عارا وحراما" شرعا.
ومثلت الرسالة التي بعث بها آية الله مرتضى مقتدائي مدير الحوزة العلمية في قم إلى شيخ الأزهر أواسط الشهر الجاري إجماع القيادات الدينية الإسلامية عندما أشادت رسالته برفض د. أحمد الطيب ل"زيارة القدس الشريف بتأشيرة إسرائيلية" لأنه رفض قاد إلى "إحياء الأزهر في مواجهة الأعداء".
وفي مصر، يحاصر دعوة زقزوق وداعيه الهباش إجماع وطني كذلك، فموقف البابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية لا يقل ثباتا وحزما ووضوحا عن موقف الأزهر، ف"حج" بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر إلى القدس بحماية قوات الاحتلال وبتصريح منه وبرعاية وزارات "السياحة" الأردنية والإسرائيلية والفلسطينية في أيار / مايو العام الماضي لم تستطع التغطية على الضمير الوطني والديني للمسيحين العرب الرافض لهذا "الحج" كما يعبر عنه البابا شنودة تكرارا منذ زار السادات القدس: "أؤكد بأنني لن أذهب إلى القدس إلا وهي محررة، ولن أعطي جواز سفري للسفارة الإسرائيلية كي أحصل على تأشيرة دخول لفلسطين" وسوف يظل صدى رده على حث السادت له لكي يشجع الأقباط المصريين على زيارة القدس يتردد عبر التاريخ: "لن يذهب المسيحيون المصريون إلى القدس إلا أيديهم بأيدي إخوانهم المسلمين"، وربما هنا يكمن السبب في ارتفاع صوت"المعارضة القبطية" في المهجر الأميركي لقيادته للكنيسة العريقة الذي لا يتناسب أبدا مع حجم هذه "المعارضة".
والإجماع الوطني الفلسطيني الذي يحاصر دعوة الهباش بين ظهرانيه لا يقل وضوحا، وإذا كان الانقسام السياسي يمكنه أن يلقي ظلالا من الشك لدى البعض في دوافع معارضة "حماس" والجهاد الإسلامي لدعوته، فالشك لا يمكن أن يساور أحدا في معارضة فصائل أعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية، ناهيك عن معارضة رئيس الهيئة الإسلامية العليا الشيخ عكرمة صبري، و"حزب التحرير"، ورئيس رابطة علماء فلسطين وخطيب المسجد الأقصى الشيخ حامد البيتاوي الذي انتقد قياس وزير الأوقاف المصري لزيارة الأقصى تحت الاحتلال بزيارة النبي محمد (صلعم) لمكة وهي في يد المشركين لأن "مشركي مكة كانوا هم أهل مكة لكن إسرائيل مغتصبة لفلسطين"، كما قال.
وإن المراقب ليتساءل حقا عن تسويغ زيارة القدس تحت الاحتلال بدعم الصمود الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، أليست غزة هي عنوان هذا الصمود في الوقت الحاضر، أوليست هي أيضا من أكناف بيت المقدس، فلماذا لا يدعم الوزير زقزوق صمودها بزيارة لا يحتاج للقيام بها إلى تأشيرة من دولة الاحتلال، وإذا لم تكن التأشيرة مشكلة في رأيه، فلماذا لا يستخدمها من أجل تعزيز صمود زعيم الحركة الإسلامية في "إسرائيل" نفسها الشيخ رائد صلاح الذي يدفع الآن ثمن موقفه الشرعي والوطني في الدفاع عن بيت المقدس والأقصى بحكم عليه بالسجن وبمنعه من دخول القدس لكي يشترط في الأقل أن يصحبه الشيخ صلاح في زيارته بعد إلغاء الحكم عليه، أو إذا كان لديه تحفظات سياسية على الحركة الإسلامية التي يقودها صلاح أن يشترط لزيارته أن يصحبه فيها مطران القدس الكاثوليكي السابق المسن هيلاريون كبوتشي الذي أبعده الاحتلال والذي كان على متن أسطول الحرية لغزة يكرر أمنيته في أن يلقي وجه ربه وهو في أكناف القبر المقدس فيها ؟!
ويتجلى شذوذ الدعوة لزيارة القدس إذا وضع في إطار العلاقات التركية – الإسرائيلية المتدهورة بسبب القدس أو إذا لوحظ تزامن الدعوة مع إقرار "لجنة الدستور" بكنيست دولة الاحتلال بالقراءة النهائية ل"قانون القدس والجولان" الذي ستناقشه الكنيست بالقراءة الأولى هذا الأسبوع ويشترط إقرار أي اتفاق سلام مع عرب فلسطين وسوريا بموافقة ثمانين عضوا عليه او إحالته إلى استفتاء عام، أو تزامنها مع قرار إبعاد أربعة أعضاء منتخبين في المجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني عن موطنهم في القدس، إلخ. !
www.deyaralnagab.com
|