logo
المفقود في المشهد العربي!!

بقلم :  نقولا ناصر* ... 02.08.2010

(العلاقة الجدلية بين "السلام" وبين الوضع العربي المتردي لم تعد خافية، فالقلب العربي للإقليم يفقد دوره لصالح دول الأطراف غير العربية، والوجود العسكري الأميركي يسد الفراغ الذي تركه غياب الدفاع العربي المشترك، ودولة الاحتلال الإسرائيلي تحولت إلى قوة إقليمية لا منازع لها عربيا)
خلاصة الرسالة – الإنذار أو التحذير التي بعثها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس في السادس عشر من الشهر الماضي، والتي قالت د. حنان عشرواي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إنها ترقى إلى "حد الابتزاز"، هي تهديد سافر بإطلاق يد دولة الاحتلال الإسرائيلي العسكرية والاستيطانية، أو يرضخ عباس للإملاءات الأميركية.
والتهديد لم يكن موجها إلى قيادة التفاوض الفلسطيني فحسب، بل من خلالها أيضا إلى الدول العربية التي تشد أزر هذه القيادة. والتهديد الأميركي عبر الإدارات المتعاقبة بسحب "الحاجز الأميركي" الذي "يحمي" العرب من العدوانية التوسعية لدولة الاحتلال أو يرضخوا لإملاءات واشنطن هو السيناريو الأميركي نفسه الذي يهدد بسحب "الحاجز الأميركي" الذي "يحمي" العرب من إيران، أو يرضخوا للإملاءات الأميركية.
والمفقود الذي يبحث عنه المواطن العربي، ويأمل فيه، هو وحدة الموقف والصف العربي في مواجهة الهيمنة الأميركية على المشهد العربي بعامة، وهي وحدة مفقودة جعلت القرار العربي، حتى وإن صدر بلغة عربية فصيحة تعلنه ألسنة عربية لا اعوجاج فيها ولا لحن، هو قرار "صنع في واشنطن"، وبالتالي، وبحكم الأمر الواقع، هو قرار "صنع في تل أبيب".
وقد يجد من يجدون في هذا القول تجنيا على الحقيقة أن فيه كذلك إجحافا بالواقع: إذ توجد "جامعة" للدول العربية، ومؤسسة مؤتمر قمة لقادتها، وبرلمان عربي، ومجلس للوحدة الاقتصادية العربية، وصندوق عربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي، ومنظمة عربية للتنمية الصناعية، ومنظمة عربية للتصنيع، وصندوق للنقد العربي، ومنظمة عربية للنقل الجوي، ومجلس للطيران المدني للدول العربية، واتحاد عربي عام للتأمين، واتحاد عام لغرف التجارة والصناعة والزراعة العربية، واتحاد وكونفدرالية للنقابات والعمال العرب، ومنظمة للدول العربية المصدرة للبترول، واتحاد عربي للمواصلات السلكية واللاسلكية، ومكتب عربي لمقاطعة إسرائيل، ورابطة للجان الأولمبية العربية، واتحاد عربي للألعاب الرياضية، ويوجد حتى ميثاق عربي لحقوق الإنسان، ناهيك طبعا عن الاجتماعات المنتظمة لوزراء الداخلية العرب، إلخ، ويوجد كذلك "المجلس الأعلى للدفاع عن الدول العربية" ...
لقد كان مثار دهشة واستغراب واستهجان ما قاله عباس في لقائه مع رؤساء تحرير الصحف المصرية أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة. فقد نسبت "المصري اليوم" في الثلاثين من الشهر الماضي، ونقل عنها موقع "فلسطيننا" في اليوم نفسه، إلى عباس قوله إن العرب "فى القمة الأخيرة بـ«سرت»، قالوا «نحارب» وأحصوا دباباتهم فوجدوها أكثر مما بحوزة إسرائيل، وكذلك فعلوا بالطيارات، وقالوا لدينا ٢٠٠٠ طائرة وإسرائيل لديها ١٥٠٠ فنستطيع أن نهزمها، من يقول ذلك نسى أن إسرائيل لديها ٢٥٠ مصنع سلاح، فما هى الدولة العربية غير مصر، التى تستطيع إنتاج طلقة؟" ومثار الدهشة والاستغراب والاستهجان هو أنه ما زال بين القادة العرب من يسمح لنفسه بأن يفكر بصوت مرتفع في مناسبة رسمية ب"خيار عسكري" بعد أن أجمعوا كافة على "السلام بالتفاوض" ك"خيار استراتيجي".
إذ باستثناءات أقل من أصابع اليد الواحدة، لم يعد لدى الدول العربية حتى "خيار دفاعي ذاتي"، ناهيك عن الخيار العسكري "الهجومي"، وحتى دون موقف عربي دفاعي موحد، بل في نطاق قطري للدولة الوطنية فحسب، فدولة التجزئة العربية تدافع عن نفسها اليوم بالاتفاقيات الدفاعية والأمنية "الثنائية" مع الدول نفسها التي تمثل تهديدا لها، أو تحتمي من الخطرين الإسرائيلي والإيراني على أمنها الوطني - - كالمستجير من الرمضاء بالنار - - ب"الحاجز الأميركي" بينها وبين الخطرين، وكفى المؤمنين شر القتال، بينما هذا الحاجز نفسه هو في حد ذاته الخطر الاستراتيجي الأكبر على أمنها الوطني وعلى الأمن القومي لأمتها،خصوصا بعد أن تحول إلى قوة احتلال مباشر في العراق وافغانستان، وغير مباشر بالوكالة في غيرهما كما هو الحال في فلسطين.
عشية وأثناء وغداة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الفلسطيني عام 2008/2009 أثار الاستغراب كذلك أن يدعو كثير من القادة العرب، وليس المواطنون العرب، إلى تفعيل "الدفاع العربي المشترك". ويظل السؤال الاستنكاري الذي تساءله الزعيم الليبي معمر القذافي في لقاء مع وزراء خارجية الاتحاد المغاربي سؤالا شعبيا عربيا معلقا دون جواب منذ مدة طويلة: " لماذا لم تُفعل إلى اليوم اتفاقية الدفاع العربي المشترك؟"
أما دعوة وزير خارجية العربية السعودية الأمير سعود الفيصل آنذاك إلى "ضرورة اجتماع المجلس الأعلى للدفاع عن الدول العربية للعمل على حماية المصالح العربية وبناء دفاع عربي حقيقي متكامل في جميع القطاعات الجوية والبحرية" فإنها تظل دعوة لا مجيب لها حتى الآن. وإذا كانت مناسبة العدوان العسكري الشامل على قطاع غزة قد أصبحت تاريخا الآن فإن المشهد العربي الراهن لا تنقصه مناسبات مماثلة لا تكاد إحداها تنقضي حتى تطل المناسبة التالية برأسها فورا، لتظل دعوة الأمير السعودي قائمة.
ومع ذلك ما زالت "دورة عدم انعقاد" المجلس الأعلى للدفاع عن الدول العربية الذي لم ينعقد منذ سنين دورة مفتوحة إلى أجل غير مسمى.

صحيح أن معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي قد أنتجت هزيمتين سميت إحداهما "النكبة" عام 1948 وسميت الثانية "النكسة" عام 1967، لكن صحيحا أيضا أن الانهزام جماعة أفضل من الانهزام فرادى، لأن وحدة الجماعة تملك دائما مفتاح تحويل الهزيمة إلى انتصار، أما التفرق فرادى فإنه حكم على أصحابه بالهزيمة الدائمة.
لذلك يظل المشروع الذي تقدم به إلى القمة العربية في الكويت الرئيس اليمني علي عبد الله صالح "لإنشاء اتحاد الدول العربية لتحقيق التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنموي والثقافي والأمني والدفاعي" مشروعا جديرا بأن تتعامل معه القمة العربية الاستثنائية في ليبيا في شهر أيلول / سبتمبر المقبل بجدية تمليها المخاطر التي تحيط بالأمة من الغرب ومن الشرق ومن البر والبحر والجو، بالرغم من أن كل المؤشرات العربية محبطة وتجعل الأمل في الاتفاق على أي مشروع كهذا ضربا من التمني لا أكثر، إلا إذا اختار القادة العرب أن يسجلوا موقفا تاريخيا بأنهم قريبون من نبض شعوبهم وطموحاتها، ولو في الأقل على الورق، فمصير أي مشروع يتفقون عليه لن يكون، بحكم التجربة، أقل "ورقية" من الورق الذي كتب عليه إنشاء "المجلس الأعلى للدفاع".
وقد لخص أستاذ القانون بجامعة عين شمس في القاهرة الدكتور حسام عيسى رأيا عاما عربيا عندما قال إن اتفاقية كامب ديفيد المصرية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي قد وجهت "ضربة قاضية" لأي دفاع عربي مشترك لأن التزاماتها تغطي على أي التزامات دفاعية مصرية أخرى مما أخرج أكبر دولة عربية من دائرة الصراع معها، وعطل تماما ما سمته القيادة العربية العسكرية الموحدة التي تألفت بعد قمة الخرطوم العربية في أعقاب هزيمة عام 1967 "القيادة الغربية".
وما قاله د. عيسى عن المعاهدة المصرية – الإسرائيلية ينطبق طبعا على المعاهدة الأردنية – الإسرائلية التي أخرجت من الصراع ليس فقط الدولة التي لها أطول حدود عربية مع دولة الاحتلال بل أخرجت عمليا معها "القيادة الشرقية" وجبهتها التي تحطمت تماما بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
ولم تبق عمليا في الميدان اليوم إلا "القيادة الشمالية" التي تجد نفسها محاصرة باستراتيجية "السلام" العربية أكثر من محاصرتها بالاحتلالين الأميركي والإسرائيلي من الشرق ومن الغرب على التوالي، لذا ليس مستغربا أن تظل خاصرتها اللبنانية الغربية متفجرة وأن لا تعرف الاستقرار قبل أن يكتمل "طوق السلام" العربي حول دولة الاحتلال الإسرائيلي في حلقته الشمالية. ولم تكن الزيارة المشتركة نهاية الأسبوع الماضي التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد وخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للبنان إلا محاولة لمنع انفجار لبناني جديد يستهدف "الجبهة الشمالية" أكثر مما يستهدف لبنان نفسه.
إن العلاقة الجدلية بين "السلام" وبين الوضع العربي المتردي الذي يفتقد الحد الأدنى من التضامن لم يعد خافيا على أحد، فالقلب العربي للإقليم يفقد دوره لصالح دول الأطراف غير العربية، وبعد إخراج مصر من دائرة الصراع واحتلال العراق لم تعد هناك أي "كفة عربية" لتعديل أي ميزان إقليمي للقوى لصالح الأمن القومي، وحل الوجود العسكري الأميركي المتنامي ليسد الفراغ الذي تركه غياب الدفاع العربي المشترك، ويحرص هذا الوجود على منع تطور أي نظام دفاعي أو أمني عربي أو عربي – إقليمي، وتحولت دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى قوة إقليمية لا منازع لها عربيا.
لذلك كان من الطبيعي أن يكون آخر جهد عسكري عربي مشترك هو الحشد العربي تحت القيادة الأميركية في الحرب على العراق عام 1991، وأن يكون أحدث جهد كهذا يجري الإعداد له حاليا تحت المظلة الأميركية ضد إيران.
وإذا استمر الاتجاه الحالي للوضع العربي لا يعود مستغربا أن تنضم إسرائيل، كمرحلة أولى في الأقل، إلى أريتريا والهند والبرازيل وفنزويلا كعضو مراقب في جامعة الدول العربية تمهيدا لمنظمة إقليمية "شرق أوسطية" تحل محل الجامعة العربية تسعى الولايات المتحدة علنا إليها، أو كما اقترح عضو مجلس الأمة الكويتي وليد الطبطبائي أن ينقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى عاصمة فنزويلا كاراكاس، أو كما اقترح غيره إلى العاصمة التركية أنقرة، بعد أن تجاوز تضامن البلدين مع عرب فلسطين تضامن اشقائهم العرب معهم.
ولا تعود مستغربة كذلك ظاهرة أن الجهد العسكري للدول العربية إما ينكفئ داخليا لاحتواء الرفض الشعبي لهذا الوضع العربي الراهن أو تتوجه فوهات مدافعه في كل الاتجاهات إلا في الاتجاه الوحيد الذي يجب أن توجه إليه، حيث يوجد الخطر الإقليمي الأكبر .. غربا.
واللافت للنظر أن "معاهدات السلام" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تحقق لا سلاما ولا تنمية، بينما كان السلام والتنمية هما الذريعتان لإبرامها، فالميزانيات العسكرية العربية تتضخم ملتهمة ما يتبقى للعرب من التدوير الأميركي لعائدات النفط العربي.
وإذا كانت المشتريات العسكرية العربية بعشرات مليارات الدولارات لا تستخدم في الدفاع عن الأمة،وطالما تركت مهمة الدفاع عن الأمة لحركات المقاومة الشعبية بعد أن تخلت الدولة العربية القطرية عن هذه المهمة لهذه الحركات،وطالما أن الجيوش النظامية الأميركية والغربية في مواجهتها لهذه الحركات قد وصلت إلى ما قال محلل (أندرو جيه. باسيفيتش، "آشيا تايمز"، 31/7/2010) إنه "نهاية التاريخ العسكري" للجيوش النظامية كما يثبت العجز الأميركي عن إعلان الانتصار بعد سبع سنوات من الحرب على العراق وبعد تسع سنوات من الحرب على أفغانستان، أو كما قال رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت: "سوف تدخل حرب لبنان (2006) التاريخ باعتبارها الحرب الأولى التي فهمت فيها القيادة العسكرية بأن الحرب التقليدية (الكلاسيكية) قد عفا عليها الزمن"،فإن من حق المواطن أن يتساءل عن السبب الذي يحول دون استثمار قيمة مشتريات السلاح العربي في التنمية الوطنية أو العربية بدلا من إنفاقها لتشغيل مصانع السلاح الأميركية والأوروبية.


www.deyaralnagab.com