محنة الرأي الآخر في بلاد العم سام!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 18.07.2010
صحيح أن هناك في أميركا أكثر من عشرة آلاف صحيفة ومجلة ومئات الإذاعات والتلفزيونات، إلا أنها تبدو للخبراء الإعلاميين كما لو أن لها رئيس تحرير واحداً لا شريك له. بعبارة أخرى، علينا أن لا نـُخدع أبداً بهذا الكم الهائل من وسائل الإعلام الأميركية، وألا نعتبرها بأي حال من الأحوال نوعاً من الديموقراطية والتعددية الإعلامية. فالعبرة ليست أبداً في العدد، بل في المحتوى. فلو استمعت ذات مساء لنشرات الأخبار في عشرات القنوات الأميركية المحلية لأخذت فعلاً انطباعاً بأنها خارجة من مطبخ تحرير واحد. صحيح أن بعض القنوات قد تبدأ نشراتها بأخبار مختلفة، لكن ذلك ليس مؤشراً على تنوع الرؤى والتوجهات الإعلامية، بل مجرد تلاعب مفضوح في ترتيب الأخبار لا أكثر ولا أقل. بعبارة أخرى، فإن الاختلاف في العناوين الرئيسية هو لذر الرماد في العيون، لأن الأخبار في كل القنوات تقريباً هي نفسها مع وجود بعض التعديلات في الأولويات. أما المحتوى فهو ذاته تقريباً، لأن الذين يمسكون بخناق هذا الكم الرهيب من وسائل الإعلام يعدون على الأصابع، إلى حد أن بعض خبراء الإعلام يجزم بأن عدد العائلات المتحكمة بالإعلام الأميركي لا يتجاوز أربع عائلات، وبالتالي، فلا عجب أبداً أن يكون هناك ضبط محكم للمواد الإخبارية والإعلامية بشكل عام. وبالتالي فإن ما يسمى بالديموقراطية الإعلامية في بلاد العم سام مجرد ضحك على الذقون، وأن الرأي الآخر يكاد يكون شبه غائب في الإعلام الأميركي. ولو أحصينا عدد الأصوات الإعلامية المعارضة في الولايات المتحدة لما وجدنا أكثر بضعة أصوات، لا بل إن أحدها وهو ديفيد ديوك لم يستطع العيش داخل بلاده بسبب الضغوط والتهديدات فاضطر للهرب إلى خارج أميركا. هل يعقل أن السواد الأعظم من الصحفيين والإعلاميين الأميركيين ينتمون إلى ما يسمى بإعلام الـ Main Stream؟ فلا تغرنكم الشعارات الأميركية البراقة، فهي مجرد خدع ينبهر بها فقط الشعب الأميركي الذي يعتبر من أكثر شعوب العالم جهلاً بالسياسة والقضايا العالمية. وبالتالي يجب ألا نتعجب عندما نستمع إلى رجل أعمال أميركي وهو يجزم بأن صحراء نيفادا موجودة في الباكستان، مع العلم طبعاً أنها صحراء أميركية تجري فيها التجارب النووية. ولو تابع المرء وسأل ذلك الرجل الأميركي أين تقع الباكستان لربما قال في أستراليا. باختصار فإن غالبية الأميركيين لا يميزون "كوعهم من بوعهم" عندما يتعلق الأمر بالإعلام والسياسة والمعلومات العامة، فهم شبه معزولين عن العالم، وغالبيتهم لا يمتلكون جوازات سفر لأنهم يقضون معظم حياتهم داخل الولايات الأميركية. مع ذلك فلو سألت أحدهم عما إذا كانت وسائل إعلامهم ديموقراطية وتعددية لأجابوا بالإيجاب، لأن معرفتهم باللعبة الإعلامية الأميركية ضحلة جداً.
هل سمع الأميركيون بخبرين مهمين للغاية دحضا تماماً خرافة الديموقراطية الإعلامية الأميركية التي يتشدقون بها؟ بالطبع لا، وحتى لو سمعوا لربما وصلتهم المعلومة مجتزأة أو محوّرة أو مغلوطة عمداً، فالإعلام الأميركي، كما أسلفت، محكوم بضوابط سياسية صارمة للغاية والويل كل الويل لمن يحاول تجاوزها. قبل أسابيع فقط تعرضت أشهر صحفية أميركية للطرد من منصبها كأقدم مراسلة تغطي أخبار البيت الأبيض لأنها عبرت عن رأي خاص أظهرت فيه تعاطفها مع الشعب الفلسطيني، وطالبت بأن يعود اليهود إلى أوروبا موطنهم الأصلي. فثارت ثائرة البيت الأبيض ومعظم المؤسسات الإعلامية الأميركية، فاضطرت السيدة توماس ذات الأصل العربي السوري (هيلين طنوس) إلى الاستقالة تحت وابل الانتقادات والتهديدات. ولم يشفع لها عملها في الميدان الإعلامي لأكثر من أربعين عاماً، ولا خبرتها الإعلامية ولا مواكبتها لعشرة رؤساء في البيت الأبيض من الانقلاب عليها فجأة بعد إدانتها للاحتلال الإسرائيلي والتسارع إلى الإعلان عن التخلي عنها رغم وصفها بسيدة البيت الأبيض الأولى. لماذا؟ لأنها حادت عن الخط السياسي المرسوم للإعلام والإعلاميين الأميركيين.
وها هي شبكة "سي إن إن" تطرد الإعلامية أوكتافيا نصر لنشرها رسالة تعرب فيها عن إعجابها بشخصية العلامة الراحل حسين فضل الله، فقد قررت الشبكة الإخبارية الأمريكية طرد الإعلامية الأمريكية من أصل لبناني رئيسة قسم الشرق الأوسط في الشبكة بسبب رسالة إلكترونية نشرتها وضمنتها رأياً إيجابياً بالعلامة الراحل محمد حسين فضل الله، مما يفضح حرية التعبير المزعومة التي تتغنى بها مواقع القرار السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة الأمريكية.
قرار الطرد الذي أصدرته الشبكة بحق نصر استند إلى رسالة إلكترونية بسيطة كتبتها على موقع تويتر أشادت فيها بالعلامة الراحل فضل الله وعبرت عن حزنها العميق لتبلغها نبأ وفاته واحترامها الجم لشخصيته.
ورغم أن نصر أوضحت أن إعجابها بالعلامة فضل الله نابع عن مواقفه وتصريحاته الداعمة لحقوق المرأة ودعواته المستمرة لعدم التمييز ضدها إلا أن باريسة خوسرآفي نائبة رئيس القسم الدولي في الشبكة قالت إنها بحثت الأمر مع نصر وقررت أن عليها أن تغادر المحطة معتبرة أن تعليقها خلق ردود فعل كثيرة وأن مصداقيتها كصحفية متخصصة بشؤون الشرق الأوسط قد اهتزت.
كيف نلوم الحكومات العربية عندما تطرد إعلامياً أو صحفياً من عمله عندما يحيد عن الخط السياسي العام بعد أن رأينا بأم أعيننا طرد صحفيتين أميركيتين من عملهما لمجرد أنهما عبرتا عن رأي مختلف للرأي السياسي السائد في الأوساط الإعلامية الأميركية؟ أليس حرياً بنا أن نتوقف عن تعيير حكوماتنا بديموقراطية العم سام؟
هل كانت شبكة "سي إن إن" ستطرد أوكتافيا نصر لو أنها عبرت عن إعجابها بنتنياهو؟
قال ديموقراطية قال!
www.deyaralnagab.com
|