logo
الحروب على الشعب الفلسطيني..!!

بقلم : د.عبد الستار قاسم  ... 19.07.2010

يظن المرء أحيانا أن شعب فلسطين يواجه حربا واحدة فقط وهي تتعلق باحتلال الضفة الغربية وحصار قطاع غزة، وربما يحصرها أحيانا بالحصار على قطاع غزة على اعتبار أن الضفة الغربية موضوع مفاوضات، وتقوم فيها سلطة حكم ذاتي تحت العلم الإسرائيلي.
يلعب الإعلام دورا رئيسيا في صناعة هذا الظن بسبب تركيزه على الضفة الغربية والقطاع، وإهمال فئات الشعب الأخرى في كافة أماكن تواجدها. ويلعب الفلسطينيون أنفسهم، أو بعضهم، دورا بارزا في هذا المجال في أن قبلوا حصر الجدل الدولي والإعلامي حول القضية الفلسطينية بمسألة الاحتلال لعام 1967، وأصبحوا يرددون عبارة الأراضي الفلسطينية لتعني الضفة الغربية والقطاع، أو أجزاء منهما، ومتناسين بذلك باقي فلسطين الانتدابية ومختلف فئات الشعب إلا من لغو سياسي أحيانا يتعلق بحق العودة.
الشعب الفلسطيني لا يتعرض لحرب واحدة وإنما لعدة حروب وفي أغلب أماكن تواجده الكثيف، وذلك من أجل توازن الإنهاك. المتكالبون على الشعب والقضية الفلسطينية حريصون على إضعاف الشعب ككل، وليس إضعافه جزئيا لكي لا يبقى هناك من يحمل القضية ويصر على انتزاع الحقوق الفلسطينية.
إنهم يعملون على تذويب القضية الفلسطينية (وليس حلها) من خلال تذويب الشعب الفلسطيني إلى مجرد أفراد يبحثون عن مصالحهم ولقم خبزهم، وهذا لا يتأتى إلا إذا كانت الحرب متشعبة إلى عدة أنواع، وذلك وفق مكان التواجد الفلسطيني. إنهم لا يخططون لإنهاك جزء من الشعب الفلسطيني، ومن ثم الانتقال إلى جزء آخر، وإنما يعملون على إنهاكه كله في آن واحد وبصورة متوازنة حتى لا يشكل جزء عنصر تغذية للبقاء.
وفيما يلي أبرز هذه الأنواع:
حرب الرواتب والمراتب: هذه حرب يتم خوضها في الضفة الغربية من أجل إلهاء الناس بالوظائف المرتبطة رواتبها بالدول المانحة، والتي يتحكم بصرفها في النهاية إسرائيل والولايات المتحدة. إنها حرب إغرائية من أجل أن تتحول فلسطين إلى نعم ومتع ذاتية، ويتحول أصحاب القضية إلى حراس على مملكة إسرائيل. وتتميز هذه الحرب بالملامح الرئيسة التالية:
أ‌- زيادة عدد الموظفين في السلطة الفلسطينية لأن ذلك يعني المزيد من العائلات الفلسطينية المعتمدة في دخلها على الرواتب ما يكبح الرغبة الفلسطينية بالمقاومة والمواجهة. على الفلسطيني الموظف وذلك الذي يعيله موظف أن يفكر مرارا قبل أن يعرب عن موقف لفظي أو أن يتخذ موقفا عمليا لا يعجب إسرائيل ومن والاها لأن في ذلك مجازفة قد تؤدي إلى الطرد من الوظيفة. والدول المانحة واضحة كوضوح إسرائيل وأمريكا، غير مستعدة لصرف رواتب لمن لا يؤيدون الاتفاقيات الفلسطينية مع إسرائيل؛
ب‌- ضرب الإنتاج الفلسطيني حتى لا يقوى الفلسطينيون على الاعتماد على الذات اقتصاديا ولو جزئيا. تعطلت منذ أوسلو مراكز إنتاج فلسطينية كثيرة على رأسها الزراعة. لقد تم ضرب الزراعة الفلسطينية التي تمتزج مع مختلف القيم والمعايير الوطنية بقوة بحيث اضطر الآلاف من الفلسطينيين للبحث عن سبل أخرى لتدبير تكاليف المعيشة المتزايدة وعلى رأسها الانضمام للأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تنسق أمنيا مع إسرائيل. لقد تعطلت معامل الخياطة في طولكرم، ومصانع ومعامل في نابلس والخليل وبالأخص مصانع الأحذية التي كانت تنتج أجود الأنواع على مستوى عالمي. لقد بحثت هذا العام عن مزارع بطيخ في مرج ابن عامر فلم أجد لأن بطيخ اليهود يملأ الأسواق، وبحثت عن معامل الخياطة فوجدت قلة قليلة لأن الاستيراد قد حل محل العمل الداخلي. ونالت هذه المأساة من الحرفيين مثل الحدادين والنجارين؛
ت‌- رشوة كبار رجال السلطة بالكثير من النعم والمتع مثل السيارات الفارهة وتسهيلات السفر والتنقل، والحصول على نفقات يومية مثل البنزين وبطاقات الهاتف الخلوي وبطاقات ال VIP. إنهم يغرقون العديد من رجالات السلطة بخاصة في الأجهزة الأمنية بالكثير من وسائل العيش الرغد لكي يكونوا ساهرين على بقاء الشعب ضمن دائرة الاتفاقيات. لقد تحولت فلسطين ولو جزئيا إلى متع شخصية.
ث‌- نزع الثقة ما بين الناس وذلك من خلال انتشار أجهزة الأمن الفلسطينية ومراقبتها المستمرة للناس، وعقابها لمن يشذ سواء في مواجهة إسرائيل أو في انتقاده للسلطة. والأمر يصل إلى حد الطرد من الوظيفة لمن يُشك في معارضتهم للسلطة أو انتمائهم لفصائل معارضة؛
ج‌- الهجوم على الوعي الفلسطيني من خلال عملية الإلهاء بقضايا ثانوية مثل حفلات العشاء والغداء والغناء، والمهرجانات التسوقية وأرقام غينيس للمسخن والتبولة، ومن خلال الدنو بالعملية التعليمية سواء في المدارس أو الجامعات. هناك عملية تشتيت للوعي الوطني والقومي وذلك لتحويل الناس إلى مستهلكين منشغلين ببطونهم وفروجهم.
حرب الأسرلة: هذه حرب تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في الأرض المحتلة/1948، وبغرض تحويلهم إلى إسرائيليين يخدمون الصهاينة الذين ينكلون بهم ويصادرون أرضيهم ويحرمونهم من حقوقهم الإنسانية والوطنية. يعتبر تعبير "عرب إسرائيل" أحد أبرز التعبيرات المستعملة الآن على نطاق شعبي وعلى مستوى وسائل الإعلام التي تجسد مسألة الأسرلة، إذ ينفي التعبير أصالة الشعب الفلسطيني ويجير وجوده لصالح إسرائيل. ومن الملاحظ أيضا أن العرب لا يستطيعون حصاد مقاعد في الكنيست الصهيونية بقدر وزن أصواتهم الحقيقية ذلك لأن العديد منهم ينتخب أحزابا صهيونية.
على الرغم من نجاح إسرائيل الجزئي في عملية الأسرلة، وخذلان التنظيمات الفلسطينية والسلطة الفلسطينية لإخوتهم في الأرض المحتلة/48 إلا أن الصمود بقي عنوانا بارزا لدى العديد من الناس، وهؤلاء قادرون على المحافظة على الهوية الفلسطينية العربية والإسلامية، ونحن نشاهد المعارك الإعلامية والسياسية والدينية التي يخوضها هؤلاء دفاعا عن الهوية والحقوق والمقدسات.
حرب الحصار: تعرض قطاع غزة لذات الحرب التي تعرضت لها الضفة الغربية لغاية شهر حزيران (يونية)/ 2007 حيث بدأ ضد القطاع أبشع وأوسع وأشد حصار عرفه التاريخ ضد شعب. اجتمعت الأمم من الشرق والغرب، ومن الفرنجة والعرب (ومن فلسطينيين) لحصار قطاع غزة اقتصاديا وماليا وعسكريا في البر والبحر والجو من أجل إعادته إلى السلطة الفلسطينية، وما زال هذا الحصار مضروبا بمشاركة عالمية واسعة.
بدأ الحصار ببعض الثغرات لمرور المواد الغذائية والتزويد بالكهرباء مع هجمات جوية صهيونية متفرقة، لكنه فشل في كسر إرادة الناس؛ ثم ارتفى ليكون حصارا مطبقا، لكن النتيجة كانت أن اجتاح الناس الحدود الفلسطينية المصرية الافتراضية، وصنعوا حدثا عالميا تاريخيا؛ فشن الأعداء حربا على غزة استمرت ثلاثة وعشرين يوما، وفشلوا على الرغم مما أعملوه من قتل وتدمير.
أدى صمود غزة إلى أمرين: ارتفاع مستوى الإبداع لدى الناس في القطاع من أجل تدبير أمورهم اليومية والاستراتيجية، وتصاعد مستوى التضامن الشعبي والرسمي العالمي مع أهل القطاع. استطاعت غزة أن تهرب المواد الغذائية والأموال والسلاح، وأدت حملات التضامن إلى استنفار وسائل الإعلامية العالمية لشرح الوضع في غزة. وصحيح أن غزة تعاني كثيرا من الحصار، لكنها نجحت كثيرا في حصار من يحاصرونها، وصمد الناس وأبقوا على الراية مرفوعة رافضة لكل الإغراءات ومحاولات تذويب القضية الفلسطينية.
حرب الملاحقة والإذلال والتذويب: هذه حرب تشنها الأنظمة العربية ضد الشعب الفلسطيني على اعتبار أن الفلسطيني متهم إلى أن تثبت براءته. إنه متهم بالبحث عن سبل ووسائل تساعده على تحرير وطنه واسترجاع حقوقه، وبما أن مثل هذه التهمة تعني التنظيم وممارسة أعمال مقاومة ضد إسرائيل فإن الأنظمة العربية تقع تحت طائلة المسؤولية أمام إسرائيل وأمريكا. تتفرغ أجهزة الأمن العربية كثيرا لملاحقة الفلسطينيين ومتابعتهم والتحقيق معهم وزجهم بالسجون وإذلالهم من أجل ان يستكينوا ويقبلوا بما يطرح عليهم من حلول. لا يستطيع الفلسطيني المرور عبر المطارات العربية بهدوء واطمئنان، ودائما تعترضه أجهزة المخابرات وتحقق معه وتحتجزه، وتوجه إليه التهم على الرغم من تأكدها من أنه لا يعمل ضد أمنها. وبعد أوسلو، انضم الفلسطينيون أنفسهم إلى قائمة الأنظمة العربية التي تلاحق الفلسطينيين.
أغلب الأنظمة العربية متحالفة مع أمريكا، وهي متحالفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل، وهي تعي تماما عصا إسرائيل الغليظة فيما إذا تهاونت مع الفلسطينيين وتركتهم يبحثون عن تضحيات لتحرير وطنهم. هذا فضلا عن دور إسرائيل المهم في المحافظة على بقاء بعض الأنظمة واستمرارها من خلال كشف محاولات الانقلاب والثورة، أو توظيف القوى الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في مواجهة حركات تمرد عربية، أو تهديد أنظمة عربية غير أمريكية لأنظمة عربية أمريكية.
تختلف الأنظمة فيما بينها في كيفية شن هذه الحرب وذلك وفق المعطيات الموضوعية القائمة، ووفق كيفية صناعة النظام من قبل الأجانب. فمثلا تضغط لبنان كثيرا على الفلسطينيين في حياتهم المعيشية على الرغم من أنهم يكررون ليل نهار بأنهم لا يريدون التوطن في لبنان، ويبدو أن الهدف هو إجبار الفلسطينيين بخاصة من فئة الشباب على البحث عن سبل للهجرة ونسيان القضية الفلسطينية. أما في الأردن، فكان واضحا منذ البدء أن النظام عمل على إقامة الوطن البديل من خلال التجنيس والتمليك الواسع. يتحدث النظام الآن ضد الوطن البديل ويرفضه، لكنه عمل على إقامته من ناحية الأمر الواقع، وهناك فلسطينيون كثر الآن في الأردن قد نزعوا عن أنفسهم فلسطينيتهم ويعرفون أنفسهم بالأردنيين. (هذا علما أن الكاتب لا يميز بين عربي وآخر، لكن التوضيح يدفعه إلى استخدام التعبيرات القطرية).
لدى أغلب الأنظمة العربية، الفلسطيني الجيد هو شبه الميت الذي يكتفي بالأكل والشرب والنوم، ولا يتدخل بفلسطين إلا بغرض الخيانة.
حرب التهجير: يؤدي التضييق الذي يعاني منه الفلسطينيون في فلسطين وفي البلدان العربية إلى التفكير بالرحيل عن الأوطان، وبالعدو للتفكير في سبل تسهيل الرحيل. هناك دول الآن مثل النرويج والسويد وكندا وأستراليا والولايات المتحدة تفتح أبوابها لهجرة فلسطينيين، وتسهل لهم العمليات الإجرائية. كانت هذه تتطلب معايير مهنية واحترافية عالية من أجل المصادقة على الهجرة، أما الآن فأصبحت الأمور سهلة بحيث يستطيع أن يهاجر غير المؤهلين وغير المحترفين، إنما بعد الفحص الأمني للتأكد من أن الشخص عبارة عن مهاجر عن القضية الفلسطينية وليس مجرد مهاجر عن وطن.
حروب فاشلة
هذه الحروب ليست جديدة في أغلبها، وهي قديمة بقدم القضية الفلسطينية، لكن أغلبها فشل في تحقيق الهدف وهو تشتيت الشعب الفلسطيني وتذويبه وتذويب الحقوق معه.
لقد عملت أمريكا على التوطين منذ سنوت طويلة، وتآمرت معها الأمم المتحدة ظنا منها أن الفلسطينيين سينسون وطنهم بعد مرور ثلاثين سنة على تهجيرهم. كما أن الأنظمة العربية لم تكن تتهاون مع الفلسطينيين أبدا، وعملت باستمرار على كبح جماحهم. نجحت هذه الأنظمة في بعض الأمور لكنها فشلت في أمور أخرى.
لم تعد الشعوب العربية دهماء تماما كما كانت في السابق، وأصبح لديها من الوعي ما يكفي إما لتقديم الدعم للفلسطينيين، أو تبرير ما يقومون به في مواجهة إسرائيل. وقد تحسنت الظروف في العديد من البلدان العربية من زاوية الوعي بحيث أصبح للقوى الإسلامية والقومية حضور يساعد الفلسطينيين على تجاوز بعض الأزمات، أو التخفيف من حدتها. فمثلا لم يعد لبنان مسرحا للماسونيين من القوى المسيحية والسنية، بل ظهرت فئات مسيحية وإسلامية متنوعة تؤمن بعروبة لبنان وعروبة القضية الفلسطينية. كما أن القوى الإسلامية والقومية في الأردن آخذة بالنهوض واكتساب القوة، وهي قادرة على تحدي بعض الإجراءات والسياسات الحكومية.
يبدو أن المشكلة الأكبر التي تواجه الفلسطينيين في الحروب التي يواجهونها موجودة في الضفة الغربية التي تشهد نجاحا ملحوظا في تطويع الفلسطينيين وإذلالهم.
تعيش الضفة الغربية وضعا بائسا من الناحية الوطنية إلى درجة أن اناسا كانوا متهمين بالعمل مع إسرائيل قد أصبحوا قادة ويقررون للشعب، وينسقون مع إسرائيل في مجالات عدة. وقد بينت أعلاه الخطوط العريضة التي تأخذها الحرب في الضفة. لكن لا أظن أن هذا الوضع سيستمر، ولن تكون نهايته بعيدة.
الحرب المضادة
يتمتع الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم الآن بوعي عميق بقضيتهم وبقياداتهم وفصائلهم ويعرفون الغث من السمين، ويعون تماما التحركات الدولية والمواقف العربية والمخططات الصهيونية. إنهم يتسلحون بوعي متصاعد، وبإرادة أكثر صلابة على الصمود والتحدي وشن الهجمات الإعلامية والثقافية والاجتماعية المضادة من أجل أن يبقى الشعب موحدا ضمن عمقيه العربي والإسلامي.
صحيح أن فلسطينيين ما زالوا يعانون من مشاكل التمني والظن الحسن ببعض القيادات وبعض السياسات والتصريحات، لكن هؤلاء ليسوا في موقع القيادة، ولا في موقع التصدي، وهم في الغالب يميلون نحو معتقداتهم الوطنية والتي في النهاية لن تكون ضمن الحروب التي يتعرض لها الشعب. وحدة الشعب الفلسطيني الآن على المستويين الإقليمي والعالمي جيدة ومعززة، وهي تنمو باستمرار ويزداد عودها صلابة، ويعود الفضل لعدد من العوامل على رأسها الإصرار الفلسطيني وبعض وسائل الإعلام العربية مثل الجزيرة والمنار والرأي. وإذا كان الشقاق ظاهرا في الضفة الغربية وغزة فذلك لأن الشعب لا يمكن أن يتوحد على أرضية الاعتراف بإسرائيل والتنسيق الأمني معها. وفي النهاية لا يمكن إلا أن تستقيم الأمور وتعود الضفة الغربية جزءا فاعلا في تحقيق الصمود والسير في المشوار حتى التحرير.


www.deyaralnagab.com