logo
من جيش لا يُقهر إلى مقاومة لا تُقهر!!

بقلم : مسلم محاميد ... 28.08.2010

*قراءة عسكرية إستراتيجية لتجربة المقاومة اللبنانية
بعد أن ساد مفهوم الرّدع الإسرائيلي، على مدار عقود، فاعتُقد أنّ الجيش الإسرائيلي لا يُقهر، ظهرت المقاومة اللبنانية لتفنّد هذا المفهوم وتزرع مكانه مفاهيم جديدة لم تكن واردة في الحسبان من قبل. ففي قراءة إستراتيجية عسكريّة، ومن وجهة نظر تاريخية، لاستقراء الموازنة بين الجيوش النظامية والمقاومة بكلّ أشكالها، فإنّ الأمر كان يحسم غالبًا لصالح المقاومة، وهذا الأمر ليس بالجديد. والسّرّ في ذلك يعود إلى عدد من العوامل التي طالما حالت دون استطاعة الجيوش النظامية حسم المعركة لصالحها، لأن المقاومة غالبًا "تضرب وتهرب"، والجيوش النظامية تستطيع الأداء فقط في بيئة المواجهة العسكرية. ومن أهم هذه العوامل هو أن تنتهز المقاومة الفرصة لتضرب عناصر الجيش النظامي ثم تعود إلى أماكن اختبائها، مستعملة أكثر الوسائل والأساليب القتالية بدائية، الأمر الذي لم يَعِبْهُ ماو تسي تونغ المقاوم الصيني، بل، أشاد به ومدحه ولم يرَ أيّ بأس في أن تختبئ المقاومة ثمّ تظهر إذا سنحت الفرصة. ولعلّ من أهم من بحثوا الأمر هو zeev maoz، الذي خلصت سلسلة لا بأس بها من كتبه وأبحاثه إلى أمرين: الأول أن المعركة المعاصرة بين الجيش النظامي والمقاومة هي شكل من أشكال المفارقة العسكرية Paradox، التي تفضي نتائجها إلى غير المتوقع. وقد ذكر هذا وفصّله في كتابه: Zeev Maoz 1990) Paradoxes of War: On the Art of National Self-Entrapment. Boston, MA: Unwin Hymann.). فقد رأى –كما يرى كثيرون غيره- أن الحرب النظامية ضد المقاومة تفضي عمومًا إلى خسارة الجيوش النظامية أمام المقاومة مع الوقت لأن المقاومة أكثر احتمالًا للحرب الطويلة وباستطاعتها استنزاف الجيش النظامي، ولأسباب أخرى كثيرة تحتاج إلى مبحث أطول لتفصيلها. أما الأمر الثاني، فهو أن صورة المقاومة اللبنانية (حزب الله)، هي مقاومة حرب غوار Guerrilla warfare، أو حرب عصابات، وليست صورة مقاومة إرهابية، وفقًا للتعريف الغربي المعاصر للإرهاب. وهذا الأمر من الغريب أن يأتي من باحث صهيوني، يقف في الطرف الآخر ضد المقاومة اللبنانية، وله باع طويل في العسكرية الإسرائيلية، ابتداء من الخدمة العسكرية، ومرورًا بإدارة كلية الأمن القومي، وانتهاء بالتدريس في الجامعة في قسم العلوم العسكرية. لكنّه اعتمد على بيانات وتعريفات موضوعية علمية بحثيّة صرفة، جعلته يصنف هذه المنظمة ضمن منظمات حرب العصابات. والمهم في هذا الطرح، أن الباحثين العسكريين في العالم، خصوصًا في الغرب، ينظرون إلى منظمات حرب العصابات نظرة أقلّ استياء من المنظمات التي يصنفونها على أنها إرهابية، وللتفريق بين النوعين، هنالك العديد من النقاط التي لا مجال إلى ذكرها هنا، لكنّ خلاصة هذا التفريق تفضي إلى النظر إلى منظمات حروب العصابات بشرعيّة أكبر.
وإذا عرّجنا على أساليب حزب الله القتالية انطلاقًا مما ذُكر من تعريفات، فيمكن القول إن ما جاءت به هذه الأبحاث أهملت جانبًا هامًّا جدًا في وصف الإبداع العسكريّ في أداء المقاومة اللبنانية. فبحدّ مفهوم الردع (Deterrence) التقليدي، فإن الرّدع هو مستوى قدرتك على إجبار الطرف الآخر على أن لا يستعمل ضدك القوة. وهذا الرّدع كان دائمًا بحاجة إلى توازن بين الأطراف اللاعبة في ساحة ما، ومن أهمّ أشكاله في العالم مثلًا، هو السلاح النّووي الذي لم يستعمل استراتيجيًّا في العالم حتى اليوم أبدًا (وإن استُعمل تكتيكيًّا في اليابان في الحرب العالمية الثانية مثلًا)، لكنّه شكّل سياسة ردع هامّة في العالم، وكذلك فالحرب الباردة هي شكل من أشكال الردع الصامت بين الأقطاب العظمى في العالم. وهذا المفهوم بين الجيش النظامي والمقاومة، أي بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله نموذجًا، يمكن الانطلاق فيه من ذات فكرة المفارقة العسكرية. فمفهوم الردع بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة اللبنانية، عمل مع الوقت لصالح المقاومة لا لصالح الجيش النظامي، تمامًا على عكس ما هو متوقّع. وهذا الأمر يعود إلى العديد من الأسباب ومن أهمها:
أولا: إن المقاومة كلّما تعرّضت إلى ضربة ما، استفادت منها كتجربة للمرات القادمة، واستطاعت استخلاص العبر منها، في حين أن الجيش الإسرائيلي لم يستخلص العبر –لا هو ولا المستوى السياسي-، وبقي على عادته في اعتماد العنجهية والانطلاق من منطلق القوة التي لا تُقهر.
ثانيًا: المقاومة، التي تعرّضت إلى الكثير من الضربات الموجعة، لم تُقهر. بل على العكس هي في تطوّر دائم سواء على مستوى الأسلحة أو القدرات العلمية والتقنية والقتالية والإدارية والسياسية. فمرة تفاجئنا المقاومة بصواريخ يصل مداها إلى أبعد ممّا يمكن أن تمتلكه بعض الدّول، ومرة تفاجئنا بقدرات تقنية استطاعت حل تشفير الصور التي التقطتها طائرات التجسس الإسرائيلية، وهكذا هي في تصاعد وتطور.
ثالثًا: تغيّر الخطاب العسكري للمقاومة. وهذا حقيقةً هو أهم ما يمكن الحديث عنه في هذا الباب. فدائمًا، وبمراجعة نماذج المقاومة العالمية، كان الخطاب العسكري للمقاومة، خطابًا واضحًا للضعيف ضد القوي، يحمل في طياته مفاهيم التحدي والإرادة وما إلى ذلك. واليوم، تحول خطاب المقاومة اللبنانية العسكري من تلك المفاهيم التقليدية، إلى مفاهيم جديدة، لا تكون إلا على ألسنة كبار رجالات السياسة والدبلوماسية في العالم في أحسن الأحوال. فهذا الخطاب، هو خطاب دولة وربّما أكثر. وظهر هذا عندما صرح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أكثر من مرة، أن المقاومة ستردّ بضرب المنشآت في إسرائيل إذا تعرضت لقصف إسرائيلي، تمامًا بذات الطريقة التي تقف إسرائيل فيها منشآت لبنانية. والمعنى هنا، والجديد في هذا الخطاب، أن درجة التحدّي وصلت إلى أن تتحدّى المقاومة دولةً، مساويةً بين قوّتها كمقاومة وبين قوة هذه الدولة –وإن لم تنكر المقاومة قوة الدولة بفعل ما يأتيها من إمدادات وبفعل الدعم الغربي لها-. فمؤخّرًا، لم نعد نسمع في تصريحات المقاومة، مفردات تتحدّث عن تحدي المقاومة لإسرائيل رغم قوة الأخيرة وضعف الأخيرة، ما عدنا نسمع مفردات تدل على الأمل في انتصار الضعيف على القوي، فكثيرًا ما كنا نسمع في هذه التصريحات الآية الكريمة: ".....كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله...."، بل هنالك نوع من تحدّي متساوين في القوة، واعتماد لمفهوم العين بالعين والسن بالسن. وهذا يشكّل معادلة ردع جديدة، وشكل مقاومة جديد، تتفرّد فيه المقاومة اللبنانية، فهو نموذج لم يسبق لمقاومة في التاريخ -من بين جميع ما دُرس من نماذج المقاومة القديمة والحديثة- أن وصلت إلى هذا الحدّ من القدرة على التحدّي والرّدع.

أم الفحم - فلسطين

www.deyaralnagab.com