logo
ساعي البريد لا يحمل الرسائل لجبرا!!

بقلم : رشاد أبو شاور  ... 23.06.2010

هناك في شارع الأميرات، في حّي المنصور، بنى بيته البغدادي الجميل، بيته المكتّظ باللوحات الفلسطينيّة التي رسمها في فترات مبكرّة من حياته، تتصدرها صورته في عنفوان الشباب، ولوحات كثيرة مهداة له من فنّانين عراقيين لامعين ربطته بهم صداقة وطيدة، هو الذي جعل من العراق وطنا يتداخل بفلسطين لحما ودما وثقافة.
العراق الوطن الأوّل للحبيبة والزوجة لميعة رفيقة الحياة الهانئة ببغداد، لميعة التي تحدّت المعوقات وتزوجت من الفلسطيني المسيحي جبرا.
القدس تحضر في البيت الواقع في شارع طغى عليه اسم شارع الأميرات، وجبرا عنوان في العراق، فلا حاجة ـ وهذا ما ظننته يمزح حين اخبرني به ـ لكتابة العنوان بدقّة على غلاف الرسائل التي تُرسل له من بيروت، أو دمشق، أو تونس، أو أي مكان في العالم.
يكفي أن تكتب: العراق، جبرا إبراهيم جبرا..لتصل الرسالة.
أمّا إن أردت من السائق أن يوصلك إلى العنوان، فما عليك إلاّ أن تطلب منه أن يأخذك إلى حي المنصور، فإن ضلّ السائق، فأي بائع، أو مواطن في الحي، سيدّله على بيت الأستاذ جبرا الذي تقع بجواره السفارة المصريّة.
رحل جبرا عام 1994، قبل أن يحرق الاحتلال الأمريكي قلب بغداد، ويحيل حي المنصور الهادئ الجميل إلى موت يومي، تفجيرات، واغتيالات، ومطاردات، و..عمليّات مقاومة.
غادر إبنا جبرا بغداد بعد رحيل الوالد والوالدة، واستفحال جرائم الاحتلال (الديمقراطي)، وأوكلت العناية بالبيت البغدادي بنكهته التلحميّة ـ نسبة لبيت لحم ـ المقدسيّة، لشقيقة زوجة ياسر، أحد الابنين المهاجرين من بلدهما نجاة بأسرتيهما.
السيدة لميعة وجبرا أقفر منهما البيت، والبوّابة المنخفضة الصغيرة التي لا تسّد في وجه الضيوف، والتي تبدو كراحتين مُرحبتين اختفت، وقد كانت مفتوحة دائما..فمن يتهدد أمن وحياة وطمأنينة جبرا الذي أعطى العراق عمره، وعصارة إبداعه، تماما كما أعطى لفلسطين، وأينع هذا الحب العارم أسرةً، كتابةً، فنّا؟!
آخر زيارة لذلك البيت، وياما زرناه، كانت السيدة لميعة تعاني من كسر ساقها، ولكنها كانت مرحة، مضيافة لطيفة الحضور، يومها سألتها محرّضا بوّد المحّب:
ـ ألا تغارين من نساء (عمنا) جبرا، في رواياته؟
أجابتني بلهجتها العراقيّة المحببة :
ـ عيني ..هذول نساء من ورق..أنا لا أغار من نساء على الورق...
ضحكنا، وغمزت (العم) جبرا؟
ـ اطمئن يا عّم لهذا التسامح، وهذه المغفرة، تنعم عليك بها أم سدير...
تناولنا الغداء، وكنّا حشدا من الزوّار، رغم ظروف الحصار على العراق، بينما (أم سدير) تكلؤنا بالرعاية والعناية.
في بيت جبرا تلتقي بفنانين تشكيليين، بممثلات وممثلين، بروائيين وموسيقيين، بنقاد أدب بارزين كانوا من تلاميذ جبرا قبل سنين، ومترجمين يرعاهم ويشجعهم ويساعدهم على اختيار ما يترجمون.
عندما نلتقيه في بيته، نكون غالبا معا وحدنا، فنحن أبناء (الطائفة) ـ كنت أنا صاحب هذا المصطلح الساخر ـ الفلسطينيّة، نخوض في همومنا، تتداعى الذكريات، ونستحضر سيرة أصدقاء نحبهم ونفتقدهم، و..تكون السيدة لميعة قد استأذنت بلباقة بعد الترحيب: أترك الطائفة الفلسطينيّة لشؤونها..تحدثوا براحتكم عيني.
لم تكن السيدة لميعة زوجة عاديّة، فهي درست الأدب في أمريكا، وهي ابنة عائلة (العسكري) المشهورة ـ أسرة كرديّة عريقة ـ متابعة ذكية واسعة الإطلاّع والثقافة، ولكنها لم تكن تثقل على جبرا وضيوفه.
خبر دمار بيت جبرا بعملية انتحارية يقال انها استهدفت السفارة المصريّة، احتراق البيت، ووفاة سيدة هي شقيقة زوجة ابنه ياسر، وخسارة المكتبة، اللوحات، الأسطوانات النادرة في مكتبته الموسيقيّة..صدم أصدقاء جبرا ومحبيه في العراق، وفلسطين، وكل بلاد العرب.
جبرا الروائي المجدد، المترجم المبدع الذي نقل أعمال شكسبير لنقرأها وكأنها كتبت أصلاً بالعربيّة، الذي عرّف القرّاء العرب برائعة وليم فولكنر (الصخب والعنف)، والذي نبّه شعراء العرب إلى (الغصن الذهبي) لفريزر، شاعر قصيدة النثر، كاتب السيناريوهات، الناقد، المبشر بالحداثة في الفّن والأدب.. دمّر بيته وحرق تراثه في زمن الاحتلال الأمريكي، الزمن الخراب...
رحل جبرا قبل أن تستفحل عمليات مطاردة وقتل الفلسطينيين في زمن الاحتلال، وازدهار أحقاد الطائفيين المرضى، ولكن بيته لم ينج.. فاستهدف، ودمّر بالكامل!.
هنا سيخطر بالبال أن أحدا لا يعنى بالمبدعين الفلسطينيين، وإلاّ لكان أُنقذ مكتبة ولوحات وأسطوانات ورسائل ومقتنيات جبرا التي لا تقدّر بثمن.
شارع الأميرات الذي جعله جبرا عنوانا لواحد من أجمل أعماله الأدبيّة، ليس آمنا، وليس عابقا برائحة الياسمين البغدادي. نخيله الوارف متهدّل أصفر ذابل، أو محروق، يبدو شواهد على زمن الخراب والموت المجّاني في بلاد وعدها الغزاة الأمريكيّون وأتباعهم بالديمقراطيّة، فإذا بالديمقراطيّة تجتث طمأنينة العراقيين، وأساسات بيوتهم، ومجتمعهم الذي يتّم تدميره المنهجي يوما إثر يوم.
لن أكتب لجبرا، فالرسالة لن تصل. العنوان احترق، والمرسل إليه مدفون في مقبرة نائية منسيّة، وساعي البريد لم يعد يركض بالرسائل الكثيرة والمعنونة: العراق، جبرا إبراهيم جبرا.. حيث في فرع من شارع الأميرات يستقبل جبرا الساعي هاشّا باشّا، وهو يتناول منه أكداس رسائل واردة من كل بلاد العرب مشرقا ومغربا.
لأخفف عن نفسي أخذت في التمسيد على رّف الكتب الذي يحمل اسم جبرا تأليفا وترجمةً..أمّا نسخة صورته التي رسمها مبكرا، فإنها تعيدني إلى تلك الأيّام البغداديّة، وأحاديث الذكريات عن بيت لحم، والقدس، و..أحاديث الكتابة روايةً وشعرا وقصةً، ونقدا، وترجمةً..إنه يبتسم كأنه يخرج من واحدة من مسرحيات شكسبير، ساخرا من كل هذا العبث والجنون.
احترق بيت جبرا، والرسائل لن تصل...
البوسطجي لم يعد يركض متلهفا على لقاء الأستاذ الذي يغدق عليه من كرمه ونبله وبشاشته، فلا بريد في بغداد، ولا أخبار يوميّة سوى عن التفجيرات والقتل، والاختطاف، والاغتصاب، وبيع الكتب في شارع المتنبي من أجل لقمة العيش، فهذا زمن للجهل وليس للثقافة، لضيق الأفق، لانعدام الرحمة، لوأد القيم، للمتاجرين المدلسين على الفقراء من شعب قسّم إلى طوائف وحقنت غرائزه بالحقد والكراهية ونزعة الثار.
يكتب جبرا عن علاقته بشارع الأميرات: في ربع القرن الأخير ـ يقصد القرن العشرين ـ بعد أن نشأت بيني وبين عدد من الأمكنة علاقة الحب التي ذكرتها، قامت علاقة حب عميق بيني وبين شارع الأميرات في حي المنصور، ما زلت أتمتع بنبضها وإيحاءاتها.
لم يجعل جبرا لبيته سورا: آثرت أن أجعل رصيف الدار مزروعة بالثيل والأوراد وأشجار الصنوبر، وإذا بالجيران يقتلعون الإسمنت الذي كانوا قد بلّطوا أرصفتهم به، ويزرعونها بالثيل والأوراد، وكانت تلك بداية النهج الذي اتبعه بعد ذلك كل من بنى في حي المنصور في جعل الرصيف متصلاً بالحديقة بأعشابه وأزهاره الموسميّة وجهنمياته.
جبرا الفلسطيني خسر بيته في بيت لحم، بئره الأولى، وها هو يخسر بيته البغدادي..وقد رحل وترك لأمته مكتبةً.. تأليفا وترجمةً، وروحا سرت في الثقافة العربيّة المعاصرة فألهمت عشرات الفنانين، والشعراء، والروائيين، والمثقفين الذين نهلوا معرفةً من ينبوعه الثر الذي لا ينضب.
أجلس ..وأكتب، وأنقّل النظر بين بيت لحم والقدس وبغداد، فألمس رفيف روح جبرا، واسمع همسه العميق: رسائلكم ستصلني، فبريد الروح بيننا لا يمكن أن يعطّله الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والأمريكي للعراق..اكتبوا لي، فشارع الأميرات لا يموت، وبغداد ستنهض من الدمار والخراب في تموّز آت...


www.deyaralnagab.com