المفاوضات الفلسطينية: شاهد من أهلها!!
بقلم : نقولا ناصر* ... 18.09.2010
(السفير صافية: "أي ’حل عادل‘ هو ببساطة ليس على جدول الأعمال"، و"اليوم، لا يوجد أي ’حل عادل‘ لفلسطين أو للفلسطينيين"، و"المرغوب" فلسطينيا "مستحيل" و"الممكن" دوليا "غير مقبول على الإطلاق" فلسطينيا)
منذ تبنى المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية التسوية السياسية بالتفاوض على حل الدولتين ب"إعلان الاستقلال الفلسطيني" عام 1988، عبر الاعتراف المجاني بدولة الاحتلال الإسرائيلي، يكون قد مضى حوالي 22 عاما، وحوالي 19 عاما على مؤتمر مدريد للسلام، و17 عاما تقريبا على اتفاق أوسلو، لكن بدلا من أن يقود هذا الانقلاب على ميثاق منظمة التحرير إلى "سلام دائم"، فإن "عملية السلام هي التي أصبحت دائمة – سلسلة متوالية من اللأحداث الاستعراضية" و "صنع السلام المسرحي"، و"ما شهدناه" خلال هذه السنوات "لم يكن انسحابا إسرائيليا بل بالأحرى توسعا للاحتلال الإسرائيلي".
وهذا ليس تقويم قوى المقاومة الفلسطينية المعارضة للتسوية السياسية والنتائج الكارثية التي تمخضت عنها وحذرت منها قبل أن تتحول إلى "اتفاقيات موقعة" بوقت طويل، بل هو تقويم دبلوماسي عريق مخضرم من أهل التسوية التفاوضية ومفاوض فيها ومنظر لها وناطق مفوه باسمها، هو السفير عفيف صافية، الذي انقشع وهمها عن عينيه أو هكذا يبدو من نشر كتاب له مؤخرا باللغة الآنكليزية في لندن عنوانه غني عن البيان: "عملية السلام: من الاختراق (أي أوسلو) إلى الانهيار".
وتقويم صافية هذا هو خير وصف للساعات الطويلة التي أمضاها محمود عباس، رئيس المنظمة التي يجري التفاوض باسمها، في التفاوض المباشر المستأنف منذ الثاني من الشهر الجاري مع رئيس دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو في وزارة الخارجية الأميركية بواشنطن، ثم في شرم الشيخ المصرية ومقر نتنياهو في القدس المحتلة.
ومع ذلك، ما زال عباس يؤكد على أنه "لا يوجد أي بديل .. غير التفاوض على السلام" كما قال قبيل استقباله وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في رام الله يوم الخميس الماضي، في مكابرة صارخة تتحدى نتائج كل تاريخ المفاوضات بقدر ما تتحدى تقويم صافية وغيره من أركان المفاوضات، مثل وزير الخارجية الأردني الأسبق وأول سفير لبلده في دولة الاحتلال مروان المعشر، أحد مهندسي "خريطة الطريق"، الذي كتب في الخامس من الشهر الجاري (فايننشال تايمز البريطانية) بأن حل الدولتين لم يعد صالحا وبأن خيار إقامة دولة فلسطينية قد "اختفى" وينبغي "التخلي" عن المفاوضات "الثنائية" للحل لأن "الشروط لتسوية ثنائية ليست موجودة في الوقت الحاضر" و"من غير المرجح أن يغير ذلك" استئناف المفاوضات الثنائية "بغض النظر" عن الآمال الكبيرة التي تروجها الإدارة الأميركية، أو مثل مهندس اتفاق أوسلو الاسرائيلي يوسي بيلين الذي عارض استئناف المفاوضات لأسباب مماثلة بصفة عامة لكن بصفة خاصة لأن نتنياهو، كما قال، ليس مؤهلا لا لصنع السلام ولا لكي يكون شريكا فيه.
وربما كان على عباس ومفاوضوه أن يتوقفوا عند تصريح بيلين، شريكهم السابق لفترة طويلة في المفاوضات وشريكهم حتى الآن في "مبادرة جنيف"، لل"يورو نيوز" الأسبوع الماضي بأن المستعمرات الاستيطانية وتوسيعها ليست لها أولية أو أهمية في التفاوض لأنها في رأيه ليست هي العقبة أمام صنع السلام، في تحد صارخ من "الحمامة الإسرائيلية" الأهم بالنسبة لهم للأولوية اللفظية التي يعطونها للاستيطان، لكي يدركوا بانه لا يوجد فعلا في دولة الاحتلال من يسعى إلى أي سلام عادل، بل إنهم جميعا يسعون إلى الاستسلام الفلسطيني فحسب.
ويقول صافية في كتابه إن "أي ’حل عادل‘ هو ببساطة ليس على جدول الأعمال"، و"اليوم، لا يوجد أي ’حل عادل‘ لفلسطين أو للفلسطينيين"، و"المرغوب" فلسطينيا "مستحيل" و"الممكن" دوليا "غير مقبول على الإطلاق" فلسطينيا. فعلام يتفاوضون إذا؟
والإجابة على هذا السؤال تكمن في صلب الانقسام الفلسطيني الراهن بين فصائل المقاومة وبين رئاسة منظمة التحرير، وفي صلب الاختلاف العلني الحالي بين هذه الرئاسة وبين كل الفصائل الرئيسية المؤتلفة مع حركة فتح في إطارها حول استئناف المفاوضات، ناهيك عن اختلافات عميقة معلنة وغير معلنة حول المفاوضات داخل فتح نفسها التي تقودها رئاسة المنظمة، وقد كان صافية أمينا في ذكر التفسير الحقيقي للانقسام قائلا إنه "بسبب أن السياسات الواقعية والمعتدلة التي انتهجتها م.ت.ف. لم تحقق شيئا".
إن الحال الراهن لمنظمة التحرير الناجم عن هذه الانقسامات يكاد يعزل رئاستها عن الاجماع الوطني تماما، مما يطعن في شرعية تمثيلها لشعبها المعترف به عربيا وعالميا ويشكك في قدرتها على الوفاء بأي التزامات توقع أو تتفق عليها في المفاوضات.
وهذا حال يتناقض تماما مع وصف صافية لمنظمة التحرير الذي اقتبسه من هشام شرابي بأنها "دولة بلا أرض"، بقدر ما يتناقض مع وصف صافية للنظام السياسي الفلسطيني الذي تمثله المنظمة، فهل المنظمة حاليا "كنظام سياسي" هي "نظام متعدد الأحزاب، ولكل مكوناته حرية التعبير" و"المعارضة الداخلية ليست فقط محتملة لكنها شرعية" كما كتب صافية ؟ ناهيك طبعا عن كونها إطارا وطنيا جامعا لشعبها وقواه الحية !
وعن دور المقاومة في التاريخ الوطني الفلسطيني قال صافية:
"من عام 1948 حتى عام 1965، لجأ الشعب الفلسطيني إلى ما يمكن تسميته بأسلحة النقد. لكن شكاواهم ... خلقت فقط التعاطف والصدقة. وفقط عندما اختار الفلسطينيون الكفاح المسلح، أي النقد بواسطة السلاح، تم الاعتراف بهويتهم وطموحاتهم الوطنية"، وعندها "أمسك الفلسطينيون ثانية بالمبادرة التاريخية".
لكن صافية استنكف عن تسجيل الاستنتاج المنطقي بأن نكوص رئاسة المنظمة الحالية إلى ما كان عليه الحال الفلسطيني قبل "الكفاح المسلح" قد أفقدها "المبادرة التاريخية" وأعادها وشعبها إلى "الصدقة" السياسية والمالية وحتى الغذائية حتى أصبح وجود المنظمة نفسها يعتمد الآن على صدقات المانحين المشروطة سياسيا.
وعن "المجتمع الدولي" الذي تراهن رئاسة المنظمة عليه، يقول صافية إن اللجنة الرباعية الدولية (أميركا والأمم المتحدة وأوروبا وروسيا) تعاني من "عجز من صنع يدها"، ويخص ب"العجز" من أعضائها الأمم المتحدة، التي "يهدد" المفاوضون بالذهاب إليها في حال فشل المفاوضات الحالية، وإن الولايات المتحدة،الراعي للمفاوضات والوسيط غير النزيه فيها تبدو في مواجهة دولة الاحتلال "كمن يمتلك الوزن السياسي للوكسمبورغ، أو الأسوأ، ليخشنتاين، وإن رئيسها باراك أوباما "قد خسر في صراع الإرادات" مع نتنياهو.
"لكن بالرغم من ذلك فإن سلاما مقبولا هو ممكن دائما"، وتوجد فرصة للحل، وفي رأيه أن "ما توجد حاجة إليه في الواقع هو حل مفروض يقبله الطرفان" لأنه "ينبغي ان تسود الإرادة الدولية على النزوة الوطنية".
ومع أن واشنطن وكل شركائها في "عملية السلام" يعلنون جميعهم رفضهم لفرض أي حل على دولة الاحتلال، فإن صافية ومدرسته السياسية مصرون على عدم الوصول إلى الاستنتاجات المنطقية للمقدمات الصحيحة التي يسوقونها في وصف الوضع الراهن للقضية الوطنية، كما يتضح من الاقتباسات السابقة.
لذلك ما زال عباس يصر على أنه "لا يوجد أي بديل .. غير السلام من خلال التفاوض" والاستمرار فيه، ولا يمكن وصف هذا الإصرار ب"العمى السياسي "، فمثل عباس وصافية بخبرتهم الطويلة لا يمكن أن يوصفوا بالعمى السياسي، لذلك ينطبق عليهم قول الشاعر العربي: "إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم".
ومن الواضح تماما أن مدرستهم السياسية قد استنفذت فرصتها السياسية التي طالت أكثر من اللازم، وقد آن لها إخلاء مكانها لمدرسة وطنية أخرى تصنع القرار الفلسطيني.
* كاتب عرب من Ùلسطين
www.deyaralnagab.com
|