شحنة من الأمل!!
بقلم : ميسون أسدي ... 17.07.2010
يا طيارة في السما، سلمي على عمي صالح وقوليلو مشتاقين نشوفك بيننا.." هكذا كنا نهتف ونحن صغار، كلما حلقت طائرة فوق سماء بلدتنا دير الأسد.. نترك كل ما بأيدينا، نتوقف عن اللعب ونلاحق الطائرة بهتافنا الطفولي..
وعند صبيحة العيد كنا نهرول بملابسنا الجديدة، إلى جدنا محمد طه أبو صالح المقعد في فراشه، فنتسابق فيما بيننا قائلين: سيدي.. كل عام وأنت بخير.. ان شالله السنة الجاية بتشوف عمي صالح..
عندها، كان يعطي كل واحد منا بضعة قروش، نأخذ القروش ونطير غير آبهين لجدي أو لعمي صالح، كنا نعرف بأن هذه الجملة هي كلمة السر لإخراج القروش من جيب جدي..
علمت بأن لديّ عم أسمه صالح، وأنه غائب، وكان أبي عندما يريد أن يؤكد على صدق أقواله يُقسم: وحياة غيبة أخي صالح..
اعتقدت بأن الطائرة توصل النداء لعمي لكنه لا يستجيب لندائنا.. وفي مرّة، سألت والدي: أين يسكن عمي، ولماذا هو غائب، ولما لا يأتي لزيارتنا؟
ضمني والدي إلى حضنه وربّت على كتفي قائلا:
ولد عمك صالح، في قرية دير الأسد، وهو البكر لعائلتنا المكونة من خمسة أخوة وأربع أخوات، قتلت والدتنا وهو يبلغ 13 عاما على أيدي لصوص جاءوا ليسرقوا غلالنا ونحن نفلح الأرض في قرية الكساير، حيث رحل والدي برفقة العائلة إلى الكساير لخلاف مع عائلة أخرى.
اضطر عمك صالح أن يعمل في سن مبكرة ويعيل عائلته، فعمل مع أخواله من بيت الحنفي وبيت الشحبري، وهم يقيمون اليوم في مدينتي نابلس وشفاعمرو، فكان تاجر حبوب وسمانة، يصدر الحبوب ومنتجات الألبان والزبيب والملبس ويبيع من الطعام كل ما هو دهين وطحين وحلو وكان يُعرّف بـ "بائع الملبس".
امتاز أخي بهدوئه واتزانه وحبه للآخرين، ذو عقل واع وفكر مستنير، وكان ذا ملامح تبعث الطمأنينة إلى النفس، استأجر دكانًا صغيرًا في "سوق العتم" في مدينة عكا، راجت تجارته وعشنا في بحبوبحة، وتمتعنا بخيرات الحياة. تزوج جدك من امرأة قاسية القلب، فبات لنا صالح بمثابة الأم الحنون لنا، وخاصة لأخواتي البنات اللواتي ما زلن حتى يومنا هذا يذكرن طيب خلقه.
أراد عمك أن يوسع تجارته، فسافر إلى لبنان ليصدر بضائعه، وفي عام 1948 سقطت فلسطين في أيدي اليهود، وأغلقت الحدود، ومنع من الرجوع إلى الوطن.. واعتقل الجيش اليهودي جميع الشباب الفلسطينيين ومن ضمنهم إخوتي وأنا، وهكذا زجوا بنا في المعتقل، لمدة ستة أشهر، وهربت نساء القرية إلى القرى الدرزية المجاورة، واحتمين في بيوتها، وقسم آخر شرد في الوعور والجبال في انتظار خروج الجيش من قريتنا.
عاش عمك وحيدا لفترة قصيرة في مخيم عين الحلوة، بلا عائلة ولا أقارب، وشعر بالضياع، فتزوج فتاة لاجئة من قرية الجديدة الواقعة في شمال فلسطين، اسمها "هنية" وكانت مخطوبة لابن عمها، وهربت مع والديها وإخوتها إلى لبنان في مخيم عين الحلوة، الذي حضن أهل الجليل الأعلى ومنهم أهل دير الأسد، وأنجبت منه ثمانية أبناء..
***
في أزقة مخيم عين الحلوة، أوقف الأطفال لعبهم وركضوا وراء الطائرة المحلقة وبدأوا يهتفون بأعلى صوتهم: يا طيارة في السما، سلمي على جدي محمد طه وأعمامي وعماتي في دير الأسد وقوليلهم مشتاقين نشوفكم..
من بين هؤلاء الأطفال كانت طفلة، تعرف جيدا، أن لها جدًا وأعمامًا في دير الأسد، وقد عرفت ذلك من والدها صالح، الذي كانت ترافقه في زيارته المتكررة لأهل المخيم وخاصة أهل بلدته، وكان يصر على توثيق صلته مع أهله في فلسطين وتوثيق علاقته بأهل المخيم فيهنئهم في الأعياد، ويزور المرضى ويساعد المحتاجين.
وذات مرة أخبرها والدها، بأنهم سيسافرون إلى قبرص ليلتقوا مع أعمامهم وأولادهم هناك.. كادت الطفلة تطير فرحًا..
كان اللقاء حميمًا وقاسيًا ومؤثرًا.. عندها تساءلت الفتاة: لماذا لا نستطيع زيارتهم في بلدنا دير الأسد؟
فأجابها أحد الأعمام والدمعة تكاد تقفز من عينه: منذ عام النكبة أو بالأحرى عام المذابح ونحن نحاول ذلك.. وأملنا بالله كبير..
أقترب العم صالح من أخيه وهمس في أذنه: سأزوج ابنتي لأبنك..
ورغم معارضة زوجته وبعض أبنائه على هذا الزواج، خوفا من تشتيت العائلة مرّة أخرى، إلا أن العم صالح أصر أن يزوج صغرى بناته لابن أخيه حتى يحافظ على صلة قوية بين أبنائه وفلسطين..
وهذا ما حصل، حيث تزوجت صغرى بناته ابن عمها وسكنت في مسقط رأسه، قرية دير الأسد في الجليل الأعلى.
***
في أحد الأيام، نظر العم صالح إلى زوجته، وهو يلف سيجارته، أشعلها وأخذ منها نفسًا، ثم قال لها وكأنه يستشيرها في الأمر: يجب أن نرحل من لبنان..
زاغت عن الجواب، لم تدر "هنية" ما تجيبه، وتدحرجت دمعة سخية من عينيها.. كان صمتها علامة الموافقة المرغمة، ففي حرب لبنان عام 1982، عندما غزت إسرائيل لبنان، وعصفت به وحولت أراضيه إلى ساحة قتال، وحاصرت منظمة التحرير في بيروت الغربية، وبعد المجازر التي ارتكبت بحق اللاجئين الفلسطينيين، آثر العديد من اللاجئين الهجرة مرّة أخرى إلى بقاع الأرض في شتات آخر، فمنهم من اختار تونس وبعضهم رحل إلى الأردن، أوغيرها من البلدان العربية والأجنبية.. لكن العم صالح، قرر الرحيل مع زوجته وأربعة من أبنائه إلى القاهرة للعمل مع تجار من غزة هناك..
كانت لحظة الفراق مؤلمة جدا.. فحتى العم صالح، بكى ألمًا، معصور القلب، وهو يعانق من بقي في لبنان.. وازداد إحساسه بوحشة الوحدة والغربة، ولم يكف أبناؤه الشباب عن النظر إلى الخلف، حتى وهم يصعدون إلى الطائرة ويجلسون على مقاعدها.. وكان هذا هو الرحيل الثاني للعائلة.
قضت العائلة تسعة أعوام في القاهرة، وتمنى العم صالح الموت عشرات المرات لتعثر حظه والحياة المرة التي قضاها هناك، بعد العز الذي عاشه بعرق جبينه في لبنان..
خلال ذلك، قرر تسفير ولديه لطلب العلم في بلاد العم سام.. وفيما هو يرافق احد أبنائه إلى المطار، أصيب بحادث طرق أودى بحياته، وابنه ملقى بجانبه يصارع لحظاته الأخيرة.. وبعد مرور سبع ساعات على الحادث جاءتهم سيارة الإسعاف، وتم إنقاذ الابن بعد أن سُرق كل ما بحوزتهما!!
دفن العم في القاهرة وعادت زوجته وابنها البكر إلى بيروت وكان هذا هو الرحيل الثالث للعائلة..
***
لم تصدق هنية ما سمعته من ابنتها عبر الهاتف، خاصة أن العائلة ما زالت تبحث عن الاستقرار وكيفية التأقلم في بيروت من جديد..
- أمي.. لقد تم طردنا من الكويت.. سأذهب إلى إخوتي في أمريكا..
- كيف حصل ذلك يا بنتي، صدام احتل الكويت وما دخلنا نحن؟!
- لقد تم طرد العديد من الفلسطينيين المقيمين في الكويت بشكل مباشر.. مستخدمين ضدهم حملة تطهير عرقية عنيفة ومنظمة، وذريعتهم في ذلك أن القيادة الفلسطينية قدمت المساعدات للعراق وساندته..
سكتت هنية عن الكلام، خاصة وان ابنتها الأخرى عاشت مع زوجها وأبنائها حياة كريمة في الرياض، لكن قانون منع الأجانب من التعليم في الأكاديميات السعودية، اضطر العائلة للهجرة إلى كندا طلبا للعلم، وبدأت تكوين حياتها من جديد في بقعة أخرى من هذا العالم..
قالت الأم وهي تتنهد: واحدة في كندا والأخرى في أمريكا مع أخويها.. كيف سنلتقي ومتى؟
أنهى الأولاد تعليمهم في أمريكا، وحصلوا على الجنسية هناك، وفي إحدى الزيارات لوالدتهم في بيروت، قالت الأم: أنتم تعرفون بأن والدكم، كان يزور جميع أهل بلدتنا المهجرين في لبنان، وهناك عائلات جديدة من بلدتنا رحلت من الكويت، وسكنت هنا في بيروت، وعليكم زيارتها والتعرف عليهم..
لكن الذي حصل هو أن الأولاد أثناء زيارتهم لهذه العائلات، تعرفوا على فتيات من دير الأسد وتزوجوا منهن، ورحلوا مع زوجاتهم إلى أمريكا طلبا للرحمة والاستقرار.
***
كان الغبار والدخان يملأ السماء في ساعات الغروب، وكانت هنية لوحدها عندما دوى صوت القنابل التي سقطت بالقرب من سكناها.. صرخت هنية من الفزع، ضاقت أنفاسها، فكت ازرار معطفها وخلعت المنديل عن رأسها وظلت تشعر بالاختناق وضيق الأنفاس ولم تجد من يسعفها.. فالقصف الإسرائيلي الشديد في الحرب الأخيرة عام 2006، أصابها بنوبة قلبية حادة أودت بحياتها، فدفنها ابنها بهدوء تام تحت جنح الظلام، ولم يكن بجانبه أخ أو قريب، والهواجس تمزقه، وزاد شعوره بمدى عجزه في مواجهة الويلات المحتملة والوقوع في أي مكروه على وجه العموم.. ثم بكى بمرارة، عندما تذكر أن والده دفن في القاهرة وأمه في بيروت.. ولا يعرف أين سيكون مصير باقي أفراد العائلة..
حين وصل نبأ وفاة هنية إلى أهلها في قرية جديدة وفي دير الأسد، تجمع الأهل في دير الأسد وأقاموا جنازة رمزية للأم الفلسطينية التي وُريت في ثرى بيروت..
***
فتاة مخيم "عين الحلوة" التي كانت تركض وراء الطائرات، تقطن اليوم في دير الأسد بعد أن تزوجت ابن عمها، ولديها خمسة أولاد واسم بكرها صالح على اسم والدها، وأصبحت دير الأسد مزار لإخوتها المقيمين في أمريكا وكندا وأوربا..
في أحدى الجلسات العائلية، التقت ببنت عمها الأخرى التي كانت تركض وراء الطائرات هي أيضا في دير الأسد.. وعلى حين غرة، مرّت طائرة حربية بصوت مدوي من فوقهما، فنظرتا إلى الأعلى وبدأتا الهتاف بصوت مسموع: يا طيارة في السما، سلمي على....
وفجأة تنبهتا لبعضهما.. وسألت بنت "عين الحلوة": من علـّمك هذا الهتاف؟
فقالت بنت دير الأسد: هذا هتافنا ونحن أطفال!
- وهذا هتافنا أيضا ونحن أطفال!!!
***
سمعت والدي يقول، أن حصة عمي صالح من الأرض الموروثة من جدي محفوظة لأبنائه، فسألته: لكن أولاده وبناته مشردون فمن سيعتني بأرضهم..
نظر إليّ والدي تلك النظرة القديمة، التي ما زلت أذكرها وأنا طفلة، وتدل على الأبوة المتسامحة، وقال: ومن قال أنهم سيبقون مشردين إلى الأبد.. سيعودون ويفلحون الأرض، مثلنا جميعا..
تمنيت لو أنه ضمني إلى صدره وهو يقول هذه الكلمات، فقد كنت بحاجة إلى شحنة من التفاؤل الذي يمتلكه، بعد أن كنت قد فقدت الأمل من عودة أي لاجئ......
** الصوره المرفقه للقصه : ام محمود طه من مخيم عين الحلوه, خلال زيارتها لقريتها دير الاسد ,1983 : هاي بوسه من ابن عمك, حلف اوصلك اياها, لانه بيقدرش ييجي وشوفك
www.deyaralnagab.com
|