logo
غيبوبة غرام...!!

بقلم : سهيل كيوان ... 29.07.2010

فجأة كأنما صحوت من غيبوبة، يبدو أنها استمرت فترة طويلة من الزمن، استيقظت منها الآن، قد يكون التكتم وعدم إبلاغي جزءاً من علاج حالتي ،وربما هو تأدب من المحيطين بي أو أنه يأس من إمكانية تغيير حالتي. ولكنني أجزم أن تصرفهم هذا مغلوط، كان عليهم إخباري بما حدث لي.
ما أثار شكوكي هي المفاجآت الكثيرة التي صرت أكتشفها أثناء حديثهم من حولي، يذكرون أحداثاً لا أذكر منها شيئاً وخصوصاً تعابير مثل'المرحوم فلان' و'فلانة رحمة الله عليها'. لا أذكر متى أصبح هؤلاء مرحومين،علماً أننا نحن القرويين نعرف من توفي وفي أية ظروف، وماذا قالت أمه أو زوجته أو شقيقته عندما لفظ آخر أنفاسه. ونتندر ببعض خطب الرثاء على المقابر والتي يأتي معظمها بعكس النوايا، لعدم التناسب بين الخطبة العصماء والحقائق التي يعرفها الجميع عن الفقيد أو الفقيدة. ما زلنا نحكي قصة أحد الإئمة عندما سأل المشيعين 'ماذا تشهدون بأختكم المتوفاة' فرد عليه (جمال الموسى) بعفوية '..هل ستشهدنا زوراً يا شيخ. الجميع يعرف أنها كانت (.....) بلا مؤاخذة'ّ.
وليس هذا فقط فنحن نعرف من خطب ومن تزوج ومن انفصلت عنه خطيبته، بعضهم بسبب بخله وآخر بسبب تدخل والدته بكل صغيرة وكبيرة، وآخر لأنه شديد التعصب والغيرة، ورابع اكتشف أن لخطيبته حبيباً قديماً ما زالت تراسله الكترونياً، وخامس طلبت منه زوجته الطلاق لأنه حاول إرغامها على التحجب بعدما سبق ووعدها في أيام الخطوبة بترك الخيار لها.
هناك آلاف القصص عن مثل هذه الأمور خضنا ونخوض فيها بمتعة كبيرة، ولكن إلى جانب هذه الأحداث الاجتماعية المسلية التي لا تطيب اللمات مع فنجان القهوة بدونها. صار أكثر ما يشغل الناس هو من يقف في ساحات المحاكم وكم غرمته المحكمة بسبب البناء غير المرخص ومن خيرته بين هدم بيته بنفسه أم دفع تكاليف الهدم، وهذا يشمل أجرة شرطة حراسة للتنفيذ. سيف الهدم المسلط من جهة والضغط لتجنيد الشباب في الخدمة 'الوطنية' من جهة أخرى وآخرها تصريحات رئيس الأركان غابي أشكنازي قبل أيام...
ثم من المحامي الذي استطاع أن يوقف الهدم ولو مؤقتاً لأن له علاقة شخصية مع المدعي في لجنة البناء والتنظيم المنطقية ويجري معه صفقات من تحت الطاولة، والمحامي الآخر الذي تكلم بواقع الحال ونطق بالحق وحوّل المحكمة الى محاكمة لسياسة السلطة العنصرية واضطرار المواطن العربي للبناء غير المرخص لأن للحياة قوانينها...وطبعا خسر القضية لأن القانون جاف وحاقد.
ومن له واسطة ثقيلة من قيادة أحد الأحزاب الحاكمة فغضوا أنيابهم عنه مؤقتاً ريثما يأتي مسؤول آخر ينتقم منه ومن واسطته. وهناك من لم تنفع واسطته واتضح أنه (فص كرّ). الوضع تأزم حتى صرنا نقرأ في الصحف تهنئات من طراز 'إلى الصديق الغالي فلان....أحر التهاني نقدمها باسم طاقم العاملين والزملاء بمناسبة تثبيت بيتك وإبعاد شبح الهدم عنه'، ثم إعلان شكر وتقدير'إلى المحامي الفذ (فلان) على أدائه المتميز والذي استطاع أن يثبّت لنا رخصة بالبناء في أرض الآباء والأجداد دمت لخدمة بلدك وشعبك'، أو إعلان شكر وتقدير وعرفان.. 'إلى كل من وقف الى جانبنا سواء بحضوره إلى خيمة الاحتجاج أو من خلال الاتصال الهاتفي على دعمه المادي أو المعنوي قبل وخلال وبعد الجريمة النكراء التي تعرضنا لها بهدم منزلنا الذي أقدمت عليه سلطات الظلم والعنصرية. إنا باقون على العهد، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون'. وقد تقع بعض النكات غير المقصودة، في إحدى خيام الاعتصام وقف أحدهم وقال بحماس: 'باسمي وباسم أبناء العائلة نود أن نشكر العميل (فلان الفلاني) على موقفه الشريف..لأنه العميل الوحيد من بين كل عملاء المنطقة الذي وقف إلى جانب قضيتنا'. طبعاً زعل العميل وخرج غاضباً من هكذا تكريم.
قبل أيام فوجئنا بإطلاق نار حيّ، كان واضحا انه ينطلق من حفل زفاف في الحي قريب، عندما استفسرت قالوا إن هذه سهرة عروس، ذكروا اسم والدها (جمال الموسى)، أعرفه جيدا ولكنني فوجئت أنهم أضافوا كلمة 'المرحوم' قبل اسمه ثم أتبعوها:'الله يرحمه لو كان حيا لما رضي بإطلاق الرصاص في عرس ابنته'.
(جمال الموسى) كان معنا قبل حوالى ثلاثة عقود عندما خرجنا من أحد الأعراس بصورة تظاهرية احتجاجا على إطلاق الرصاص في حفل زفاف.
في تلك الحقبة كان بعض رجال السلطة يتباهون بمسدساتهم من مختلف الأعيرة ولكن في بعض الأحيان كان يصلهم تعزيز من خارج القرية (رشاش عوزي) أو (M16 ) تشارك في الفرح بصليات كثيفة تذهل الأطفال وتخرب إيقاع الأهازيج وتفقس السهرة. يومها رددنا محتجين أولاً بصرخات (البوز) استنكارا ثم انسحبنا من الحفل وتبعنا عشرات الشبان وخرب العرس. كررنا هذا الاحتجاج في عدة أفراح حتى نجحنا، وصارت دعوات الأعراس تذيّل بإضافة 'ممنوع إطلاق الرصاص في العرس'. لم يعد أحد يتفاخر بأنه يملك مسدساً مرخصاً، بل صار هذا وصمة عار. وبعضهم لم يجدد ترخيص سلاحه وأعاده للسلطة وعاد الى حضن شعبه الكريم والمتسامح الى درجة الهبل.
حاولت أن أتذكر فترة وظروف وفاة (جمال الموسى) ولم أفلح فسألت من حولي: هو جمال الموسى كيف مات إنه ليس كبيراً.....
- جمال الموسى....لقد قتله ابن السيدة التي رفض أن يشهد جمال فيها زوراً في المقبرة وقال إنها (...) وصارت قصة متداولة...ابنها افتعل مشكلة سير معه وطعنه حتى الموت ...أعراض الناس ليست لعبة.
دهشت لخبر بهذه الأهمية قد فاتني. غيبوبتي لم تنسحب على الناس فقط، بل على التغيرات الجغرافية التي طرأت على القرية. فقد أضيفت أجنحة جديدة للمدارس وانتقل موقع سوق الخضار منذ عامين من مكانه. وفوجئت عندما ذكرت بركة السباحة الوحيدة في المنطقة أنها أغلقت منذ عام بسبب الغرامات الباهظة وعدم التمكن من ترخيصها.
قلت لزوجتي: أريد أن تعلميني بالحقيقة..هل كنتُ في غيبوبة طويلة أم ماذا. ..ما الذي حصل لي بالضبط...أشياء كثيرة تذكر أمامي لا أعرف عنها شيئا...توجد حلقة مفقودة من سني حياتي الأخيرة...هل تعرضت لحادث خطير وفقدت الوعي. ما الذي جرى لي بالضبط؟.
فقالت ـ جيد جدا .. أنك بدأت تدرك وضعك الجديد...أنت لا تكاد ترى شيئاً مما يدور حولك...أنت منفصل تماماً عن العالم والناس..طبعاً تعرضت لحادث أليم...ألم أقل لك إنها سحبت عقلك...ليت نهايتك تكون مثل نهاية (جمال الموسى) بيد شقيقها أو زوجها أو ابنها...
من هي هذه التي تتحدثين عنها؟...
- هذا ما لن أهدأ حتى أعرفه...من هذه التي جعلت منك إنساناً آخر فنسيت أهل بلدك، لم تعد تشاركهم أفراحهم وأحزانهم وقضاياهم. ابتعدت كثيرا، لم تعد تهتم حتى بأخبار قرية كاملة هدمت عن بكرة أبيها وشرد جميع سكانها قبل أيام فقط...هل سمعت الخبر... هل اهتممت به. مررت على الخبر كأنما يتحدث عن ارتفاع درجات الحرارة في أعماق المحيطات...متى ستصحو..متى ستعود إلى وعيك...


www.deyaralnagab.com