logo
هيجر!!

بقلم : موسى الحجوج ... 09.08.2010

دقت عقارب الساعة في ذلك الصباح الغائر معلنة بداية يومٍ جديد وفجرٍ جديد, نهضت هيجر من نومها وهي تتذكر بقايا حلمٍ شاهدته في نومها ليلة أمس, وهي لا تصدق أنه كان مجرد حلم عابر أو كابوس. كانت هيجر تعتقد أنه حقيقة مثلها مثل باقي الناس الذين يحلمون ليلاً وما إن ينهضوا من نومهم صباحاً حتى يفرحوا لأن ما رأوه كان مجرد حلم وليس حقيقة واقعة.
كان حلم هيجر في الليلة الفائتة مخيفاً ومرعباً، فقد شاهدت في الحلم أنَّ غولاً كبيراً ومعه أولاده قد هاجموا بيتهم المتواضع والموجود في أرضهم, وهي تتذكر أنها رأت مجموعة من الغيلان تهاجمهم وهم في بيتهم سالمين آمنين، وتتذكر كيف هدمت الغيلان بيتهم بقوة وعنف، وكيف تركت منزلهم مجرد حطام وركام تذروه الرياح العاتية، تتذكّر ذلك الحلم أو الكابوس الذي ما زال عالقاً في مخيلتها, لكنها الآن فرحة، فها هو بيتهم آمن مستقر مكانه ولا أثر للغيلان عنده، وها هي ترى أمها وأباها وإخوتها، لقد كان ذلك مجرد كابوسٍ عابر.
كُتِبَ على هيجر أن تنهض في الصباح الباكر مثلها مثل آلاف الأطفال الذين يسكنون بعيداً عن مدارسهم، ويضطرون للنهوض مبكراً لكي لا تفوتهم سفرية المدرسة التي تبعد عن بيوتهم عشرات الأميال. قُدِّر لها أن تسكن في أرض الآباء والأجداد في منطقة غير معترف بها أو هكذا يسمونها, منطقة لها جذورها وتاريخها وقد مرت عليها حضارات وأمم كثيرة متعاقبة، ولكنهم لا يعترفون بها لأسباب لم يدركها بعد عقل هيجر الصغيرة.
نهضت هيجر وودعت أهلها في ذلك اليوم غير العادي وما زالت بقايا ذلك الحلم في نسيج خيالها, ثم أخذت تروي الحلم لصديقاتها وهن تارة يبتسمن لها، وتارة ترتسم صورة الخوف والرعب على وجوههن عند ذكر اسم الغول.
اقتربت الحافلة أو الباص كما يسميه العامة فركبت هيجر ومن معها من الأطفال، ولكنها في هذه المرة كانت تشعر بأن شيئاً ما يشدها للنظر إلى الوراء، إلى بيتهم الجميل، نظرت وتأملت بيتهم بنظرة طفولية بريئة، وظلت تنظر وتنظر إلا أن السائق قطع عليها عناقها لبيتها، وطلب منها أن تجلس في مقعدها داخل الحافلة.
جلست بجانب الشباك وأخذت عيناها تنظر لبيتهم وكان شيئاً ما سيحدث له في ذلك اليوم، تُرى ما هو السر وراء ذلك التأمل؟ هل هو حلم الليلة الماضية، أم ماذا يا ترى؟.
جلست وأصوات ضجيج الأطفال من حولها وأخذت تسرح بخيالها وهي ممعنة النظر في بيتهم الطيب وشعرت أن دموعها تسقط دون إرادتها، دموع بريئة لا يعرفها إلا من ملك قلباً كقلب هيجر الطفلة.
مسحت دموعها على الفور حتى لا يراها أحد، وتصبح قصة دموعها حكاية يتندر بها الصغار، ولكنها قررت أن ترسم بيتها عندما تصل إلى المدرسة، ترسمه كما تحبه هي، وتحدث الجميع عنه، لأنها ترى فيه سرَّ وجودها ووجود غيرها في هذه المعمورة.
تابعت الحافلة طريقها وأخذت تقطع المسافة بسرعة، ومرت في طريقها بجانب قرية بنيت قبل أيام قليلة، وهي تتمنى أن يكون بيتها مثل هذه البيوت الجديدة، فهي تسكن مع عائلتها في قريتهم القائمة منذ مئات السنين، ولكن في قريتهم لا يوجد ماء ولا كهرباء ولا شوارع، وهذه القرية التي أقيمت قبل أيام قليلة فيها الماء والكهرباء والشوارع وأعمدة الإنارة وغيرها، تُرى ما هو السبب، ربما الطفلة لا تعرف الجواب الآن، ولكنها حتماً ستعرفه فيما بعد.
سارت الحافلة وتابع السائق قيادته، وكان المذياع مفتوحاً باللغة العبرية حتى انقطع البث على خطاب رئيس الحكومة وكان يردد كلمات ما أروعها وما أنبلها، ومن الجمل التي سمعتها هيجر من الخطاب: علينا أن نبني الإنسان ونوفر له الأمان والمسكن والوئام.
وعند وصول الحافلة للشارع الرئيسي أخذ الأطفال يصيحون ويلوحون بأيديهم لقوة كبيرة من الشرطة ومعهم الجرافات والكلاب، قوة كبيرة وكأنها جيش جرار يريد أن يغزو دولة مجاورة، ومن المفارقة أن الأطفال يلوحون لهم بقلب طيب مليء بالبراءة والحنان، يلوحون لهم لأنهم طيبون لا يعرفون إلا الحب والعطاء والبناء00كانت هيجر تنظر إليهم وتتذكر حلم الليلة الماضية الذي رأت فيه الغيلان تهاجم بيتهم وتتركه ركاماً، وكان سائق الحافلة يبتسم مما شاهده من صنع الأطفال مع هذا الجيش الجرار وهم يلوحون له ويحيوه.
وصلت هيجر للمدرسة وبعد أن نهلت من بحر العلم مما يجود به معلموها قررت أن ترسم بيتها، نعم أن ترسمه كما هو، فأخذت القلم وقربته من الورقة البيضاء اللامعة، ولكن كان هناك من يفعل غير ذلك، فعندما كانت هيجر تمسك القلم وتقترب من الورقة كانت الجرافات تقترب من بيتها، وكلما تخيلت هيجر من أين تبدأ بالبناء كان هناك من يخطط من أين يبدأ بالهدم، بدأت بالباب فرسمته كما هو جميل لونه أبيض رمز للطهارة والمحبة فهُدِمَ الباب، رسمت السطح الجميل الذي يعشِّش فيه الحمام فهُدِم السطح، فتذكرت مكتبتها المليئة بالكتب والقصص وقصص وبطولات شمشون الجبار والصحابة وشاي عقنون وراحيل ومحمود درويش فهدمت المكتبة وأصبحت أثراً بعد عين.
كانت الطفلة ترسم بلوحة المحبة والعطاء وكانت الجرافة تهدم بمعول الخراب والدمار، كانت تبني والجرافة تهدم، وما إن انتهت هيجر من رسم بيتها حتى انتهت الجرافة مع جيشها من هدم المنزل بأكمله، يا للقدر!
في ساعات العصر عادت هيجر لبيتها ووصلت حيث يقف الباص ونزلت منه، لكنها شاهدت شيئاً ناقصاً هذه المرة، هناك شيء غير طبيعي، أناس كثيرون يغطّون بيتهم، فأسرعت لهناك لكنها لم تجد البيت، بل وجدت حطام بيت كان هنا منذ القِدَم، وجدت الأهل والجيران من حولها، فأخذت أمها تواسيها، وقد ظنت الصبية أن أحداً قد مات وأن الناس يهمون بحمله ودفنه، ولكن الذي قتل هنا هو أكبر من إنسان، إنه سر وجود الإنسان، بكت هيجر بكاءً مُرّاً، وتذكرت حلم الليلة الماضية، وقرب مكتبتها المتناثرة وجدت أقصوصة من إحدى الصحف العبرية كان قد كتب عليها: نحن نشجع التعايش وبناء الإنسان وتوفير الحياة الكريمة له..
تُرى عن أيّ إنسانٍ يتحدثون؟! عن أيّ إنسانٍ يتحدثون؟!


www.deyaralnagab.com