لا أنتظر أحداً... !!
بقلم : سهيل كيوان ... 12.08.2010
صارت ياسمين صاحبة الصالون النسائي تسمع صفير القطار قادماً من قارورات العطور ومجفف الشعر والمناشف وخرير المياه من الصنبور ومن رغوة الصابون... صفيراً يحذر العازبات وينذرهن من خطورة الوقوع تحت عجلات العنوس! ياسمين أسقطت تلقائيا من قائمة المرشحات للزواج منذ سنوات طويلة بعدما عرف الجميع أن 'شرفها' اكتسح في يوم ما، الشرف الواقع بين السرة والركبة تحديداً، وعرف الجميع أنها هي التي كتبت عنها الصحف'تعرّضُ فتاة من مدينة ساحلية للاغتصاب على مسافة أمتار من شارع مكتظ بالمارة!'رغم أن جمالها ووضعها المادي وأصلها وفصلها وحتى خفة ظلها فوق المتوسط، لم يتقدم لها سوى قلة، كان أحدهم أرملاً في سن والدها، وآخر مطلقاً أربع مرات..وذا عاهة عقلية! رغم أنه ما من أحد إلا وأكد لها أن الحادثة المأساوية التي كانت ضحيتها ممكن أن تحدث لأي أنثى أو حتى طفل في هذه الغابة البشرية، وهي لا تنقص شيئاً من شرفها لأن ما حدث إنما حدث عنوة ورغما عنها، وفاقد الشرف الحقيقي هو المغتصب نفسه الذي ما زال طليقاً!والناس الذين باتوا ينظرون إليها بريبة وشكوك...
تمنيات الناس لها بالعريس المتلازمة مع ابتسامات شفافة خبيثة تدفعها دائما إلى دائرة الشك بنواياهم، وحتى عندما يتكرم أحدهم عليها بوردة وجدها فجأة بين أصابعه أو بكلمة طرية كانت مُعدّة لغيرها، فإنه يعتبر عمله تبرعاً كريماً وفعل خير يسجل في ميزان حسناته كالصدقة الجارية.
عوّدها القادمون من القرى القريبة على إطراءات كثيرة مسجوعة ومعظمهم كان مصاباً بحمى الشعر حتى قيل: إذا ألقيت حجراً في قرى تلك السفوح فإما أن تصيب شاعراً أو جاره الشاعر.هؤلاء يأتون إلى رحلة الصيد في المدينة مدججين بالغزل المسجوع، وفهمت ربما بتأخير طويل أن 'للشاعر' من هؤلاء عدة وجوه وألسن، وهو ليس نفسه في كل مكان وزمان وحتى بين ساعة وأخرى، وما يقوله في ظل صخرة على الشاطئ لا يقوله في غرفة مكيفة في بيته، وما يقوله في الصالون لا يقوله في المطبخ أو أمام جمهور، وما قد يقوله لبعض أصحابه لا يقوله لأصحاب آخرين، وتأويله لكلماته قد ينقلب حسب الأذن المتلقية. واستغربت أنه رغم عشاقها الكثيرين والمتضامنين معها الذين يحملون أفكارا مكشوفة للنور التقطوها من القصص والدراسات فإن أحداً لم يفكر بجدية أن يقفز معها إلى القطار الذي تراه وقد بدأ يتحرك.
بل وتعلمت أن معظمهم رجالاً ونساءً يعتقدون بأن اقتحامها صار أكثر سهولة وأن شيطاناً مفجوعاًً يسكن في رحمها! ولهذا حذر الرجال نساءهم وبناتهم من صداقتها، وكل ما أرادوه منها كان على غرار الطعام السريع.هذا جعلها تشكك بكل كلمة تسمعها، فسدّت نوافذها في وجوه لصوص المتعة بكلمتين لا غير.. ' تعال اخطبني'! فيختفون في جحورهم كالزواحف!
ولكن المثير للغضب أن الطلقاء منهم استخدموا نفس الحجة للنكوص عن انتشالها من تحت عجلات القطار، جميعهم أكدوا بقسم غليظ أنهم متزوجون مما أسموها 'القضية'، ولكنها وبتجاربها الباهظة أدركت أن القضية أنثى لها ساقان وردفان ونهدان وعطر خاص وشعر يحتاج إلى تسريحة!
دخل إلى صالونها (محيي الدين) المعروف في المدينة وجوارها بأنه حتى عندما يكون صادقاً فلا بد أن وراء صدقه نية للنصب والاحتيال، برفقته امرأة ذهبية يتحدث معها بلغة اقترضها من أربع لغات، الإنكليزية العبرية العربية والروسية التي تعلم شيئاً منها من غير معلم خصيصاً لأجلهن، فأجاد اصطياد هؤلاء اللاتي يسمونهن 'القادمات الجديدات' اللاتي ملأن الأسواق والمتاجر والملاهي بقدودهن المنحوتة المصقولة بيد الفنان الأعظم، كان طُعمه لهن بسيطاً:'هل تريدين العمل في الإعلانات والربح الجيد'! وخلال دقائق يقنع إحداهن أن مستقبلا من السعادة والمال ينتظرها وما عليها سوى مرافقته الى الصالونات والمتاجر وورشات العمل وأن تكون كريمة بعرض متاعها لالتقاط الصور للإعلانات وسيكون أجرها ممتازاً!كان بعد بضع جولات يقضي وطره منها وتقضي هي وطرها من جيوبه، كان هذا في الواقع بغاء مغلفاً بغطاء فضي، ولكنه كان نهماً فيستبدلهن بسرعة وهذا سبب تورطه في الديون للبنك الذي أقرضه ثمن سيارته التي ما زالت مرهونة.
كانت هذه السيدة من الرقة والجمال بحيث أبهرت النساء في الصالون اللاتي استقبلنها ورفيقها بابتسامات وهمسات 'سبحان الله....من أين يأتين بهذا الجمال.. '!باستثناء واحدة قالت بغضب' بناتنا أجمل وأشرف وأنظف وكل ما ترونه صناعي'! بينما قالت ياسمين وهي تعالج رأس زبونتها الغاضبة كأنها تقفز في مظلة من قمة مرتفع الى هاوية: 'هؤلاء القادمات محظوظات... ما أن يطأن أرض المطار حتى تصبح لهن حقوق أكثر منا نحن بنات البلد في الأرض والمسكن والعمل..بل وينافسننا حتى على رجالنا'!
كانت ورطة (محيي الدين) مع البنك فظيعة، واستحكمت حلقاتها حول عنقه، ووصلته رسائل عدة تطالبه إما بتسديد الدين وإلا فمصادرة السيارة أولاً وبيعها لصالح البنك بثمن زهيد ثم تعرضه لغرامات باهظة وملاحقات قانونية.
فجأة رأى الخلاص من نافذة ياسمين! إنها تكدح منذ سنوات كثيرة، ودخلها جيد وخصوصاً في مواسم الأفراح! بعد ساعات هاتفها طالباً لقاءها لأمر هام. كانت ياسمين مقتنعة أن قلبها مغلق تماماً، وكانت تعرف بالضبط نواياه وإلى ما يصبو إليه، ولكنها تنتظر في المحطة وقد مرت عربات القطار كلها ولم تبق حتى واحدة تتعلق بها .عليها أن تقفز حتى إلى وهم اسمه (محيي الدين)! عندما التقت به قالت: 'الحقيقة أن كل شيء بات زائفاً في حياتنا، العطور، الأحذية الرياضية، الحقائب الجلدية، شفرات الحلاقة، الجواهر، الأسطوانات المدمجة، ملامح الناس، وحتى المشاعر، على كل حال لن نعيش قصة حب ولكن علينا محاولة تمثيلها'.
فوراً بادر (محيي الدين) لتقبيل يدي ياسمين بتمثيل شفاف، ولكنه كان ممثلا فاشلاً، يقول وكأنه أمام كاميرا وبتوجيهات مخرج:'حبيبتي أنت معبودتي...لا قيمة لحياتي بدونك!، أنا محظوظ بك، كيف لم أنتبه لك،أنت هدية من السماء يا ياسمين!
فترد بفقر دبلوماسي - قل لي ما هو وضعك في البنك.. أعرف أنك متورط .. فيعيد محاولاً تحسين أدائه - الله يحبني لأنه منحني هذه الحبيبة الرائعة، أنت هدية من السماء يا ياسمين، ماذا كنت سأفعل بدونك؟
فتقول بدون أي ملامح سخرية - لا بأس.. مع مرور الوقت سوف يتحسن أداؤك... كم عدد الأقساط المكسورة عليك من ثمن السيارة...
فيرد - ستة أقساط... وسأحاول أن أحبك بإخلاص...
فتجيب بهدوء إذا لم يخني حدسي فيبدو لي أن دمك خفيف وهذا أمر نادر في هذه الأيام.....
فيرد بفرح - من فمك إلى باب السماء... بالفعل لدي شعور بأن دمي سيصير خفيفاً...
صمتت وراحت تفكر..... يبدو لي بأن تعبير (قطار الزواج) الذي سمعته وقرأته كثيراً ليس دقيقاً أبداً، بل هو كذبة كبيرة، الحياة... أغنى بكثير من ربطها بتوقيت قطار... أو حافلة أو أي وسيلة نقل أخرى... حتى حياة من يسمونها العانس.. فلتذهب الى الجحيم كل القطارات... أنا لست واقفة في المحطة أصلاً ولا أنتظر أحداً...
www.deyaralnagab.com
|