أرض البوسة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 26.08.2010
لكل قطعة أرض يوجد اسم، وفي قرية واحدة قد تجد عشرات الأسماء لقطع الأراضي وذلك كي يميزوها عن بعضها البعض.هناك أسماء واضحة المعاني وأسماء تحتاج إلى بحث عن مصدرها، فالاسم يكون مشتقاً من موقع الأرض الجغرافي مثل، المراح، الوديان، الرّوس، العلاليات، العزيب، ذيل المسيل، أو من اسم صاحبها مثل الشيخ سرّيس، عريض سرحان، عريض أبو كيوان، الشيخ طعمة، أبو عجلان، خلة أبو زيد، خلة عز الدين، أو مما تنتجه تلك الأرض: أبو رمّان، الصبرات، نجاص، تل العدس، الشيح، الزعرورة، العرعورة، الوردة، تين القنيطرة، الخ!
في يوم ما تعرفت على امرأة من إحدى العائلات العريقة في فلسطين. كانت شديدة الاعتداد بنفسها وتقول إن جمالها (الذي كنت أبالغ من ناحيتي في تقديره) هو ما ورثته عن والدتها التي ورثته عن جدتها الحسناء!
في يوم ما تجولنا في سيارة في أحضان الطبيعة، فصارت تشير عليّ إذهب يميناً واذهب شمالا حتى وصلنا قطعة من الأرض بالقرب من صفورية المهجرة المحاذية لمدينة الناصرة، وصلنا مكانا تشابكت فيه أشجار الرمان المهملة كأنها غابة تليها غابة من الصبار المثقل بثماره، وحينئذ قالت:قف هنا..فوقفت.
- هل تعرف اسم هذه الأرض؟
- أعرف أنها أراضي صفورية ...ولكن لا أعرف اسم هذه القطعة بالذات...
فقالت - كل هذا المنحدر اسمه 'أرض البوسة'...!
فقلت - هل قطعنا كل هذه المسافة من أجل 'بوسة'؟ وهممت بتقبيلها...
فقالت- على هونك...القبلة في هذا الزمن أصبحت أمراً عادياً إذا تمت بالاتفاق ولكن في يوم ما كان للقبلة ثمن باهظ....هل تعرف لماذا أطلقوا عليها أرض البوسة؟...
من أين لي أن أعرف..
فقالت - إسمع هذه القصة فقد يأتي يوم وتكتبها:
كان جدي من عائلات فلسطين الإقطاعية..كان يملك مساحة من الأرض لا يتخيلها عقلك في مقاييس هذه الأيام...أنظر كل هذا الوادي وما بعده على مد نظرك، كل هذه كانت أرضه، ولكن جدي كان يحب النساء...
طبعا ولم لا!...من هو الجحش الذي لا يحب النساء..!
جدي كان متزوجاً من ثلاث نساء ولم يشبع، سال لعابه على فتاة جميلة بسن أصغر بناته وطلب يدها ولكن الفتاة رفضت لفارق السن الكبير بينهما، ولأنها كانت تنتظر شاباً آخر، فأراد والدها أن يرغمها طمعاً بالنسب والمال فانتصر لها أشقاؤها وليس هذا فقط، فقد تدخل جدي وقال إنه يرفض إرغامها ولكنه يريد منها قبلة واحدة لرد اعتباره بعدما رفضته! ومقابل هذه القبلة اليتيمة سوف يمنح قطعة من الأرض لوالدها..! طبعاً لم يكن للأرض قيمة عند جدي لأنه ملك مساحات شاسعة، لكن الفتاة كانت عنيدة ورفضت العرض، وفهمت أن جدي كان يقصد إذلالها وإذلال أشقائها الذين انتصروا لها..
...جدي كان ملعوناً..ولم يستسلم فأرسل إلى والدها وسيطا قال إنه يرضى بقبلة من وراء زجاج مقابل قطعة الأرض....
من وراء زجاج...؟
نعم...أي أن يكون بين شفتي الفتاة وشفتيه لوح من الزجاج...
يعني قبلة غير مباشرة...!
بالضبط ...جُن والدها لأنه لا يريد مزيداً من التوتر والعداء مع جدي ذي النفوذ الكبير والذي اعتبر أنه تبهدل وأنه تنازل كثيراً، وأن الفتاة المغرورة كسرت هيبته أمام الناس وهو الذي بإمكانه أن يفتك بأسرتها الضعيفة لولا مخافة الله..ولكنه طيب ولا ينوي الشر لأحد!
والد الفتاة وإلى جانب خوفه من انتقام جدي طمع بالأرض فهو شبه معدم ...وقال لابنته: لن تسقط خشبة من السماء إذا سمحت له بقبلة واحدة من وراء لوح زجاج...
فقالت الفتاة...يا أبي، أنا مـتأكدة أن هذا الرجل خبيث وسوف يكيد لي ، فهو يريد إذلالي وإذلال أخوتي...!
إلا أن والدها راح يطمئنها، ثم أن الوسطاء أقنعوها بالقبول.
هكذا تم اتفاق يتم بموجبه إحضار الفتاة بكامل زينتها إلى بيت جدي كأنها عروس، وفي المساء يكشف عن وجهها، ثم يقفان من وراء لوح الزجاج ويتبادلان القبلة!
في اليوم الموعود وصل موكب من طرف'العريس'..يتقدمهم كبار القوم وطلبوا أن يأخذوا الفتاة وسط الأهازيج والغناء...!حاولت الفتاة التراجع وبكت وتوسلت وأعلنت عن خوفها مما سيحدث، ولكن تم إقناعها بأن بعض أقربائها وبعض الوجهاء سيكونون مرافقين لها ليشهدوا بأن القبلة حدثت من وراء زجاج ولم يحصل أكثر من هذا، وأنها في الصباح تعود من حيث أتت وتتم الصفقة برضى الجميع! وبالفعل رافقها إلى بيت 'العريس' الذي كان مستعداً بلباس عريس من تلك الأيام وعلى رأسه الطربوش، وكانت غرفة النوم جاهزة وفي وسطها لوح الزجاج.أدخلت 'العروس' ووقفت منتظرة وراء لوح الزجاج وهي متوجسة خيفة وجدي يطمئنها بالتزامه بالاتفاق، ثم أغلق رجاله الباب ومنعوا الاقتراب من غرفة 'العروسين'، تقدم 'العريس' إلى لوح الزجاج وطلب منها أن تتقدم فتقدمت، ولكنه راح يخلع ملابسه وعندما أغمضت عينيها وهي تبكي احتج لأن الاتفاق هو أن تكون مفتوحة العينين ولا يوجد بالاتفاق ما يمنع خلع ملابسه، وبعدما تعرى ألصق شفتيه بالزجاج وفعلت الفتاة مثله وألصقت شفتيها من الجهة المقابلة وراح يطلب منها أن تقبله مثلما يقبلها..بل راح يلعق الزجاج بشهوانية والفتاة تبكي!وكلما أغمضت عينيها احتج وأمرها بفتحهما!وما لبث أن انتهى وارتدى ملابس خفيفة، ثم أخرج منديلا بلله بسائل أحمر، فتح الباب وألقى المنديل إلى واحدة من خدمه...فزغردت النسوة ووزعت الحلوى والشراب...وفي الصباح عادت الفتاة الى بيت ذويها كما في الاتفاق.إلا أن أحدا من أهل القرية لم يصدق أنه لم يدخل بها...حتى ذووها، بل وذهب الناس إلى أكثر من هذا، واتهموا والدها بالعار لأنه جعلها تزني مقابل الأرض...وتفاقمت التأويلات حول ما حصل في تلك الليلة، هل دخل بها أو لم يدخل ولماذا زغردت النسوة ووزعت الحلوى!ولم يصدق أحد رواية الفتاة والقبلة من وراء الزجاج...
انتظرت الفتاة الشاب الذي كان يحبها ولكنه لم يأت بعدما شعر بالإهانة وفهم أن حبيبته تنازلت عنه وعن شرفها، ولم يجد أهلها في النهاية سوى 'العريس' نفسه الذي بدأ معها بالقبلة من وراء الزجاج! هذه هي قصة 'أرض البوسة'...هل تعرف من أنا، قالت الامرأة؟
أنت حفيدتها..!؟
نعم أنا حفيدة تلك الفتاة وذلك الإقطاعي، اليوم لا نملك حتى متراً من الأرض..كان جدي خليعاً..(يلعن صفحته) مستهتراً وجاء الاحتلال فأخذ ما أخذ...واليوم لا نملك شيئاً من الأرض سوى ما جنيناه من تعبنا وعرقنا وهو بيتنا الصغير الذي تعرفه...
www.deyaralnagab.com
|