الغول في ذاكرة البادية!!
بقلم : موسى الحجوج* ... 01.09.2010
عاش أهلنا في بادية بئر السبع عبر السنين، بكل محبة وهناء، يميزهم في باديتهم السليقة والفطرة وطيبة القلب.ومما لا شك فيه أنه كانت لأهلنا ميزات وخصائص وحياتهم الخاصة بهم، تختلف عن غيرهم، كون الصحراء لها أسرارها وقوانينها، وما تخفيه داخلها لا يعرفه إلا أهل البادية.
نصب أهلنا بيوت الشعر التي كانت مأواهم من حر الصيف وبرد وصقيع الشتاء, وتنقّلوا من مكانٍ لآخر بحثاً عن الماء والكلأ، حيث أن الصحراء موحشة ومريرة ولا يسكنها كل مخلوق إنما يسكنها من له قلب كالحجر والعزيمة، ولذلك وُلدت في حياتهم ونمت معهم البطولة والشجاعة والفراسة والصبر والكرم وحب الخير.
وكغيرهم من شعوب الأرض كانت لأهلنا معتقدات خاصة بهم رسمتها لهم البادية دون أن تدري ودون قصد, ففي البادية تكثر الأودية الطويلة وشدة الظلام ليلاً، والتي تثير الخوف والهلع ليلاً ونهاراً, كما تنتشر الكهوف التي يسميها أهلنا 'مغر'، وهي قديمة العهد، وتنتشر الجبال العالية الساكنة والهادئة ليلاً في بعض الأحيان، ووراء هذا السكون أسرار ومخاطر لا يعرفها إلا أهلنا أنفسهم.
عاش أهلنا في قبائل وعائلات، وكان عددهم عام 1948 نحو 120 ألف نسمة، يعيشون في قبائل، ويتنقلون بين الأماكن. سكنوا بعيداً عن بعضهم البعض وكانت هناك مناطق عديدة خالية، يشعلون النار ليلاً ويهتدون على نورها، وكذلك يهتدون على ضوء القمر.
وارتبطت مناطق وأماكن عديدة في البادية بالخوف والهلع والموت والرعب نتيجة ما صادفه الأهل في حياتهم ولما تعرضوا له من ظلم وجور، ولذلك نمت في ذاكرتهم الطيبة والأصيلة معتقدات عديدة منها ما هو من عالم الخوارق وغير معهود للبشر ومنه ما هو حقيقي وبسبب قلة العلم والكتابة خلط أهلنا بين أشياء عديدة. وترى في معتقداتهم وجوداً لمخلوقات وأشياء لا يصدقها البشر، وهي المعتقدات تجدها لدى شعوب عديدة ولكن تحت مسميات أخرى ومختلفة.
وآمن أهلنا أن هناك مخلوقاً كبيراً ومخيفاً وتصل درجة الرعب منه إلى حد الموت والقتل، وسماه أهلنا الغول وأنثاه الغولة. وهذا المخلوق المخيف القاتل قائم في ذاكرة أهلنا كمخلوق بحد ذاته أسوةً ببقية المخلوقات، وفي أمثالهم الشعبية قالوا 'الغولة ما بتطلع على ولدها' (كتاب الأمثال- صالح زيادنه)، وللغول حجم وحصة كبيرة في ذاكرة أهلنا وفي تراثهم، وقد عاشوا معه وصادفوه وتحملوا منه الأذى والمعاناة والهلع وحتى الموت.
ويصف أهلنا الغول على أنه مخلوق كبير ومخيف يظهر لهم بأشكال عديدة ومتنوعة. وتجد الغول أحياناً عديدة وكثيرة يخاطبهم ويحاورهم ويقطع معهم العهد والوعود. وآمن أهلنا أن الغول مخلوق صادق إذا قطع مع الإنسان العهد أو وعد وعداً فإنه يوفي به ويلتزم به، وبذلك لا يخون العهد ولا الأمانة, ولذلك انتشرت القصة الشعبية التراثية في جنوب البلاد عن الغول. وتراث الجنوب مليء بقصص الغول المنحوتة في ذاكرتهم حتى يومنا هذا. وكان أهلنا إذا أرادوا إخافة أولادهم ليلاً كي يناموا أو حثهم على الحضور يقولون 'الغولة جتك'، ويشبهون الإنسان الكبير القامة بالغول. وكما أسلفت فإن أهلنا آمنوا أن الغول يظهر لهم بأشكال عديدة كلها مخيفة ومرعبة مثل حرمة، حمار, كلب أسود، عنز حمراء، نعجة أو مخلوق غريب الأطوار. وكانت القبائل العربية في الجنوب تسمي الغول مسميات أخرى ومتنوعة مثل الصومْلية, العُكرية وغيرها.
ويصور أهلنا الغول بأنه يظهر في شكل إنسان أو امرأة له أو لها شعر كبير أسود قاتم ومخيف وعيونه دائرية وكبيرة ومخيفة, ويسكن الغول في أوكاره أو الكهوف 'المغر' وحتى الأودية، واعتقد أهلنا أن الغول يراقبهم ويتحين الفرص لمهاجمتهم والاعتداء عليهم.
والغولة تهاجم الإنسان الذي يسير وحده عادةً دون رفيق وتسبب له المرض ويجلس أياماً لا يقدر على الكلام, وحتى أنها في معتقداتهم تفترسه طعاماً ووجبة دسمة لأطفالها, وتكمن لأهلنا في الكهوف والجبال، حتى أن مناطق عديدة في بادية بئر السبع ارتبط اسمها بالغول والغولة وتراهم يتجنبون المرور قرب هذه الأماكن ويسيرون قربها في جماعة ويحملون السلاح معهم ليأمنوا شرها, مثل شجرة الغولة في وادي الخزان.
ومما لا شك فيه أن أهلنا لا ترى أحداً منهم يريد ملاقاة الغولة أو أن يذكروا اسمها، واعتقدوا أن الغول يشم رائحة الإنسان الخائف وبذلك فهي تهاجم الخائف منها وتفتك به. وتراهم يقولون في قصصهم 'الغولة حَسَتْ به'، والغول غدار ولا ينسى ثاره أو من ألْحَقَ به الأذى، ولذلك يبحث عن الإنسان عبر الأودية ويظهر بأشكال عديدة لكي يصل إليه وينتقم منه. ويعتقد أهلنا أن الغول سريع العَدو وأن سيره أو مروره من مكان ما يشبه العاصفة، أو بسُرعة البرق'، ويظهر في أماكن عديدة في وقت قصير ويختفي ويعود ليظهر. وينتقم أهلنا في معتقداتهم من الغول فتراهم يخطفون أطفالها أو يحرقون بيته أو يحرقونها وهناك من يتعارك مع الغول أو الغولة وتقتله وهناك في لحظة بسيطة يخرج سكّيناً أو شبرية ويطعنها طعنة الموت والخلاص منها، ويصبح مكان موتها إشارة للخوف والموت ولا يمرون منه ليلاً خوفاً أن تظهر لهم من جديد أو ينتقم منهم زوجها الغول.
وانتشرت قصة الغولة الأسطورية التي كانت تظهر للناس بشكل امرأة جميلة أو مسكينة تريد الوصول لبيتها، أو امرأة ضلت طريقها فتظهر لهم وهم يركبون حميرهم أو خيولهم وتركب معهم حتى تتدلى رجلاها وتصل الأرض، وتطول يداها وتتحول إلى عنز أو مخلوق مخيف، وينزل الرجل من حيوانه ويهرب من المكان وتفزع له الكلاب وتهرب الغولة، مثل الحكاية التي حدثت مع الشيخ سلمان علي الهزيل في منطقة الكوفخة في النقب الغربي.
ويعتقد أهلنا أن هذه المخلوقات (الغول والغولة) قد غادروا باديتهم وصحراءهم وانتقلت للسكن والعيش في أماكن ومناطق بعيدة غير بلادنا، وذلك بسبب التغيرات القسرية التي تعرضت له البادية!.وسأورد هنا قصة من تراثنا عن الغولة والتي بحسب كبار السن جرت أحداثها قرب مقام أبو هريرة في الشريعة .
كانت إحدى القبائل البدوية تسكن في منطقة الشريعة في النقب الغربي وبالقرب من خيامهم ومضاربهم وفي إحدى المغُر كانت تسكن وتجاورهم إحدى الغيلان, وكانت غولة مشهورة تسبب لهم الأذى وتضايقهم، وكانت تهاجم الحراثين والورادات1 ، والرعيان, والأولاد. وكانت تهاجمهم وتثير الهلع والرعب في نفوسهم،حتى الرعيان لم يسلموا من أذاها، وكان للغولة ولدان ذكر وأنثى هما: حمدة ومحمد.
وفي أحد الأيام وعندما كانت الغولة غائبة عن مغارتها في الصيد قام أحد رجال القبيلة وخطف ولديها حمدة ومحمد، ووضعهم في بيت الشيخ، وهو الشيخ أبو حمودة وذلك لكي يضغطوا عليها حتى لا تسبب لهم الأذى.
ومع ساعات الظهر عادت الغولة ولم تجد ولديها, فعرفت أن رجال القبيلة قد خطفوا أولادها, فنهضت حينها والحزن والألم يعتصران قلبها على ما فعلوه لها وسارت نحو بيت الشيخ أبو حمودة ونادت عليه:
- هيه2 يا أبو حمودة أطلق وأرخي لي حمدة ومحمد, ويَحْرَمْ علي ورَّادكم.
ويرد عيها أبو حمودة:
- لا والله غير تحرِّمي بلادنا.
وتنادي الغولة على أولادها حمدة ومحمد، وتقول:
- يا حمدة يا محمد وايش عَشّوكم الليلة.
ويرد عليها أولادها بقولهم:
- طهبجوا طهباجهم ع حليب نعاجهم وعشونا منه.
وتنادي الغولة ع أبو حمودة وتقول:
- هيه يا أبو حمودة أطلق لي حمدة ومحمد ويحرم علي وطَّايكم3 .
ويرد عليها الشيخ أبو حمودة:
- والله غير تحرمي بلادنا.
وتنادي مره أخرى ويرد لها نفس الجواب ثم أنها تعود من جديد وتنادي:
- هيه يا أبو حمودة أطلق لي حمدة ومحمد ويحرم علي سرَّاحكم4 .
إلا أن الشيخ أبو حمودة بقي على موقفه رافضاً وقال لها:
- والله ما أطلقهم غير تحرمي بلادنا بالمرة.
فدب الحنان في قلب الغولة الأم وعرفت أنه لا مناص إلا أن تترك بلادهم وعربانهم, فقالت له:
- يا أبو حمودة يحرم عليّ بلادكم غير من الحول للحول5 أطبها6 مرة، أطلقهم يا أبو حمودة.
وقد أدرك أبو حمودة وتأكد له حينها أن الغولة صادقة في وعدها لأن أهلنا في البادية آمنوا بأن الغول عندما يقطع عهداً مع الإنسان فانه يصدق فيه.
وأطلق الشيخ أبو حمودة ولدي الغولة حمدة ومحمد وسارا إلى أمهم التي عانقتهم والدموع تملأ عينيها من الفرحة بهم وبعودتهم سالمين.
ويقال إنها وضعت أولادها على ظهرها وسارت في طريقها مسرعة وكأنها إعصار إلى أن اختفت عن الشيخ أبو حمودة وقبيلته، ويضيف الراوي أن الغولة في مطلع كلّ عام كانت تمر من أمام مضارب القبيلة وتسير وكأنها إعصار, في كل سنة على نفس الحال وفاء بوعدها للشيخ أبو حمودة.
الهوامش:
1 - الورادات: واردات الماء
2- هيه: يا، أيا.
3- وطايكم: من يذهب إلى السوق منكم.
4- سراحكم: من يرعى مع الأغنام منكم
5- الحول: العام، السنة.
6-أطبها: أدخلها.
*كاتب عربي من النقب
www.deyaralnagab.com
|