الماعزة تنظف مكانها ياجماعة!!
بقلم : د.فيصل القاسم ... 12.09.2010
كنت دائماً أضع معظم اللوم في تأخر مجتمعاتنا العربية وتخلفها وتدني مستواها الاجتماعي والثقافي على الحكومات والأنظمة العربية، على اعتبار أنها المسؤول الأول عن الأوطان. وكنت دائماً أتعاطف مع الشعوب بشكل أعمى على اعتبار أنها ضحية الحكومات. لكن آه كم كنت أنا وغيري مخطئين في تقييمنا للأمور. فمشكلة بلداننا العربية هي مشكلة شعوب إلى حد كبير. فالحكومات لا تستطيع أن تعلــم الشعوب كل شيء حتى لو استخدمت كل وسائل القمع والمنع. فمن لم يتعلم الأخلاق والتربية الحسنة في بيته لن تستطيع أي دولة مهما بلغت قوتها أن تهذبه وتصنع منه إنساناً سليماً. لا بل إنني أصبحت متأكداً أن الحكومات التي كنا نعتقد أنها تضبط أنفاس الشعوب لا حول ولا قوة لها في أحيان كثيرة في تعاملها مع شعوبها. بعبارة أخرى فهي مغلوبة على أمرها، وبالكاد تستطيع أن تمرر بعض سياساتها واستراتيجياتها الداخلية البسيطة. لماذا؟ لأن الشعوب تضع العصي في عجلات الحكومات وباقتدار رهيب، مما يجعل الحكومات تعاني بصمت رهيب من يأسها وقلة حيلتها مع تلك الشعوب. وبالتالي علينا كإعلاميين أن نتوقف عن ذرف الدموع “عمال على بطال” على شعوبنا وتصويرها على أنها ضحية. كما علينا أن نتوقف عن التشكيك في الروايات الحكومية، وعلينا أيضاً أن نصغي جيداً لشكاوى الحكومات من تصرفات وبلادة شعوبها وإصرارها على التخلف والجمود والترهل.
قبل أسابيع التقيت بمحافظ إحدى المدن العربية ورحنا نتجاذب أطراف الحديث حول الهم العام. وكعادتنا نحن الصحافيين لم يكن في جعبتي إلا توجيه الانتقادات لأداء الحكومات. لكنني في نهاية اللقاء وجدت نفسي متعاطفاً مع ذلك المحافظ المسكين عندما راح يشتكي لي بأنه بات يعاني من مرض السكري وارتفاع الضغط وعلات أخرى لكثرة ما لاقاه من تصرفات مخزية من سكان المدينة التي يديرها. ورغم أنني أضع عادة الكثير من إشارات الاستفهام حول تصريحات المسؤولين العرب وأشكك في صحتها، إلا أنني لم أستطع هذه المرة إلا أن أتفق مع السيد المحافظ عندما راح يشتكي بحرقة من سلوك الناس في منطقته في قضايا النظافة على سبيل المثال لا الحصر، فحس النظافة لدى الكثيرين في مدينته يكاد يكون معدوماً إلا ما رحم ربي، مما يجعل المرء يتساءل: أليست مسألة النظافة الشخصية والعامة شأناً خاصاً بالدرجة الأولى لا علاقة للحكومات به لا من قريب أو بعيد؟ إن الوسخ في بيته لا يمكن أن يكون نظيفاً أبداً في الشوارع والحدائق العامة. وليس لدي أي شك بأن ما ينطبق على المنطقة التي يديرها ذلك المحافظ يكاد ينسحب على غيرها من المناطق العربية.
لقد سمعت كلاماً محزناً للغاية من المسؤول أعلاه، فقد حدثني عن تلك الحديقة الجميلة التي بنتها الدولة في تلك المدينة وأنفقت عليها الملايين كي يستمتع السكان بها، لكن سرعان ما تحولت تلك الحديقة العامة إلى ما يشبه المزبلة أو مكب للنفايات على أيدي الوسخين وهم السواد الأعظم من سكان تلك المدينة العربية النموذجية في قذارتها. ففي مساء كل يوم يتوافد المئات على الحديقة والمنطقة المحيطة بها ليمضوا ساعات وساعات خاصة في أيام العطلات وهم يدخنون الشيشة ويلتهمون المكسرات والمشويات. ولا بأس في ذلك أبداً، لا بل لا بد أن نقول لهم صحتين على قلوبكم. لكن، لو نظرنا إلى حال الحديقة بعد الساعة الثانية ليلاً بعد أن يكون المستجمون قد استقلوا سياراتهم وعادوا إلى بيوتهم لشاهدت مناظر تنفطر لها القلوب بعد أن حوّلها روادها إلى عصف مأكول، فالقاذورات بأشكالها كافة تملأ المكان. ليس هناك زاوية أو بقعة إلا وغطتها علب المشروبات الفارغة وأكياس الشاي، والمناديل الورقية القذرة وبقايا وقشور المكسرات، ناهيك عن عظام الدجاج والأغنام التي التهم لحمها المستجمون. والغريب في الأمر أن حاويات الزبالة التي لا تبعد عن رواد الحديقة بضعة مترات تبدو شبه فارغة. كيف لا والرواد يلقون أوساخهم وفضلاتهم حول موائدهم المفروشة على أرض الحديقة وأرصفة الطريق القريب منها. وحدث ولا حرج عن رائحة المكان التي تزكم الأنوف، مما يجعل المرء يتساءل كيف تحمــل رواد الحديقة تلك الروائح لساعات وساعات.
يا الله كم نتشدق بالقول الكريم: “النظافة من الإيمان”، ثم نفشل فشلاً ذريعاً في تنظيف البقعة الصغيرة التي نفترشها. لا أدري أيضاً لماذا يعادي الكثيرون حاويات الزبالة في بلادنا، فيهجرونها ليتخذوا من الطرقات والشوارع والحدائق العامة مكباً للنفايات. آه كم أشعر بغصة عندما أرى سائقاً يفتح نافذة سيارته ليلقي منها كيساً مليئاً بالأوساخ على قارعة الطريق أو على الطريق نفسه. متى نميز بين المزبلة وأماكن العيش؟ آه كم نحتاج إلى ستالين الذي طالب شعبه ذات يوم بأن يتوقف عن رمي النفايات في الشوارع، فلم يلتزم أحدهم، فما كان من ستالين الرائع إلا أن حكم بإطلاق النار على الجاني كي يكون عبرة لمن يعتبر. صدقوني فالكثير من شعوبنا لا يفهم غير لغة الردع الستالينية. لكن بما أن زماننا لا يسمح بالإجراءات الستالينية فلا بأس أن تضرب الوسخين في جيوبهم، فتفرض عليهم عقوبات مالية كبرى. ليس هناك عقوبة أجمل من عقوبة جعل القذرين يدفعون الألوف عقاباً على أفعالهم القذرة.
لقد سمعت ذات يوم مسؤولاً عربياً يقول بالحرف الواحد: “إن الحكومة لا يمكن أن تعلم شخصاً الأخلاق والتربية الحسنة إذا لم يكن قد تربى في بيته”. وأتذكر وقتها أنني شننت هجوماً صحافياً عنيفاً على ذلك المسؤول متهماً الحكومات بإفساد الشعوب، لكن مع مرور الزمن أجد نفسي مخطئاً في التقدير.
وأتذكر أيضاً أن مسؤولاً عربياً كبيراً آخر قال لي ذات يوم في جلسة خاصة: “إنك يا أخ فيصل تضغط علينا أكثر من اللازم في برامجك من أجل النهوض والتطوير، لكن دعني أخبرك بأننا نبذل أقصى ما بوسعنا لتطوير مجتمعاتنا لولا العوائق الهائلة التي تضعها في طريقنا الشعوب. فلا نقدم على خطوة إلا ونجد عناداً شعبياً رهيباً، فالعادات والتقاليد السيئة عنيدة للغاية، ولا تموت إلا بعد طول صراع كما يقول المثل الانجليزي”. ولا يمكنني الآن إلا أن أتفق مع السيد المسؤول. فلا يمكن لأي حكومة في هذا العالم أن تنهض ببلدها لوحدها دون مشاركة شعبية كبيرة. وبما أن السواد الأعظم من شعوبنا لم يتعلم حتى الآن أساسيات الحياة الإنسانية كالنظافة الشخصية والعامة فعلى بلداننا السلام.
ليتنا نتعلم من المعزى، فالعنز تنظــف مكانها قبل أن ترقد.
www.deyaralnagab.com
|