تغريبةُ أبناء إقرث للشّاعر معين سبيت!!
بقلم : آمال عوّاد رضوان ... 17.10.2010
بتاريخ 14-10-2010 أقامَ منتدى الحوارِ الثقافيّ في مركز تراثِ البادية عسفيا الكرمل ندوةً، افتتحَها الكاتبُ والإعلاميُّ نايف خوري ابن قرية إقرث المُهجّرة، بتحيّةٍ تراثيّةٍ "خطّة قدمكم عَ الأرض هدّارة"، محيّيًا الحضورَ وضيفَ الأمسيةِ الشّاعر التّراثي معين سبيت، بكتابِه "تغريبةُ أبناء إقرث"، قائلا:
كتبَ كثيرٌ مِن الأدباءِ والكتّابِ والصّحافيّين، وتغنّى كثيرٌ مِن الشّعراءِ والمغنّينَ بإقرث، لا لأنّ عددَ سكّانِها لا يتجاوزُ ألفَ نسمة، ولا لأنّها هُدمتْ وبقيتْ كنيستُها ومقبرتُها صامدتيْن، ولا لأنّ أهلّها مُشرّدونَ في أماكنَ عديدةٍ مِنَ الجليل والكرمل، ولا لأنّها أنجبتِ الشّعراءَ والكُتّاب، ولا لوجودِ الأطبّاءِ والمحامينَ والمهندسينَ والفنّانينَ وغيرِهم مِن أبنائِها. لا.. ليسَ لأجلِ كلّ هذا، بل لأنّها أصبحتْ قضيّةَ رمزٍ لسكّانِ الجليل والمثلّث والكرمل والنّقب، وأبعد من ذلك، للسّكّان الفلسطينيّينَ جميعًا، بل للعرب كلّهم في قضيّتِهم مع إسرائيل، حتّى أنّ الحكوماتِ الإسرائيليّةَ المتعاقبةَ جعلتْها مثالاً للقضيّةِ الفلسطينيّة، وربطتها بقضيّةِ العودة؛ عودةِ اللاّجئين، وأصبحتْ قضيّةً عظيمةً مِن حيث لا ندري، ولم يقصدْ أهلُها أن يقومَ الزّعماءُ العربُ عمومًا ولا الفلسطينيّون خصوصًا بالتّدخّلِ لحلِّ قضيّتِهم، ولم يُعلّقوا الآمالَ على المسؤولينَ الرّوحيّينَ في الكنيسة، ابتداءً مِنَ الكاهن العادي إلى الأسقف، وحتّى إلى الفاتيكان وقداسةِ البابا نفسِهِ، ولم يُعوّلوا على أحدٍ ليأخذَ بيدِهم ويقتادَهم في نضالِهم، بل اعتمدَ الأهالي على أنفسِهم في مُطالبتِهم لحلِّ قضيّتِهم، وتولّوْا شأنَها ابتداءً مِن مسألةِ توجّهِهم مباشرةً إلى الحكوماتِ والكنيست وأعضائِهِ، وانتهاءً بمحكمةِ العدلِ العليا الّتي لم تُنصِفْهم بعد.
اتّخذَ أهالي إقرث إستراتيجيّةً مميّزةً دون أن يُخطّطوا لها، واتّبعوا الوسائلَ الّتي لم يُدبّروا لها، بل جاءتْ تلقائيّةً وعفويّةً وتُعبّرُ عمّا يجيشُ في نفوسِهم، وما يختلجُ صدورهم مِن مشاعرَ وأحاسيسَ وأفكار، ظهرتْ كلُّها في خدمةِ القضيّة، لأنّ الأهالي اجتمعوا على رأيٍ واحد، وأجْمعوا على موقفٍ واحدٍ، وهو الإخلاصُ والوفاءُ لقضيّتهم، فلم ينثنوا مِن أمرٍ تعسّفيٍّ، ولا مِن قرارٍ مُجحِفٍ، ولا مِن معاملةٍ جائرة، ولا مِن تنكيلٍ متواصلٍ، ولا مِنَ التّصدّي لكلِّ محاولةٍ لطمسِ القضيّةِ وإلغائِها، ولا مِن مكافحةِ المستوطنين لهم، ولم يرتدعوا مِن مُلاحقةِ مُفتّشي دائرةِ أراضي إسرائيل لهم، وهدْمِ كلّ محاولةٍ للبناءِ أو إعادةِ البناء، أو زرْع حتّى نبتة مِن النّعناع أو البصل، بل أقاموا محكمةً خاصّةً أطلقنا عليها اسمَ "محكمة البصل"، لأنّ شيوخَ إقرث زرعوا حوضًا مِنَ البصل أمام كنيستِهم، وتعرّضَ الأهالي للمكافحةِ، لا بل لمقاومةِ كلّ محاولةٍ لزرْعِ حبِّ إقرث في نفوسِ الأبناء، وغرْسِ الانتماء إليها في قلوبِ الأحفاد، واعتبرت الحكوماتُ كلَّ مَن يتحدّثُ أو يتعاطفُ أو يُؤيّدُ قضيّةَ إقرث، بمثابةِ المُنقلِبِ على سلامةِ الدّولةِ وأمْنِها ويُعرّضُ مُواطنيها للخطر، وإزاءَ كلّ هذهِ المعاملة، منذ سنواتِ قيامِ الدّولةِ وحتّى اليوم، وإزاءَ صمودِ الأهالي وجُهْدِهم، ومثابرتِهم والتّمسّكِ بقضيّتِهم وترابِهم وتراثِهم، وإزاءَ التزامِهم بمبادئِهم وقِيمِهم، نشأ في إقرث هذا الكمُّ مِنَ الشّعراءِ والكُتّاب ورجالِ الفِكرِ والعِلم والمجتمع، وحرصوا على المحافظة على نقاءِ قضيّتِهم وصفاءِ أهدافِها وسُموِّ معانيها.
في هذا الجوِّ العارمِ مِنَ التّاريخ الّذي مضى والّذي لا يزالُ يحدثُ حتّى وقتِنا الرّاهن، لا غرْو إذن أن يقومَ الأستاذ الشّاعر معين سبيت بوضْع هذهِ التّغريبة الّتي تتحدّثُ عن قضيّتِهِ؛ قضيّتنا بكلِّ صدقٍ وحِرصٍ، وتستعرضُ الحقائقَ والدّقائق، فجعَلها بينَ أيدي أبناءِ بلدِهِ وأبناءِ شعبِهِ كذكرى عطرة، ليستفيدوا منها ويتعلّموا مِن أمجادِها، ويتلقّنوا مِن دروسِها ويتّعظوا بعِبَرِها، وأتمنّى لأهلِ بلدِنا الرّجوعَ القريبَ إليها كأحياءٍ لا كأموات.
وجاءَ في تعقيب د. بطرس دلة كلمتَهُ في تغريبة أبناء إقرث:
بادرتُ إلى قاموس لسان العرب للتّأكّدِ مِن معنى تغريبة، هذهِ التّسمية التي ارتبطَ اسمُها في ذهني بتاريخ بني هلال، الّذي بدأ بقصّةِ الزّير سالم وانتهى بتاريخ القبيلة الهلاليّة، بعدَ خروجِها مِن مصرَ إلى شمال إفريقيا، وقد جاءَ في القاموس؛ إنّ التّغريبَ معناهُ إبعادُ الإنسانِ عن وطنِه، ليصبحَ غريبًا في وطنٍ آخر، ولمّا كانَ الإقرثيّونَ قد أُبعِدوا عن قريتِهم إقرث بغيرِ حقٍّ وبدون سببٍ مقنِع، فقد رأى شاعرُنا أن يُوثّقَ تاريخَ أهالي قريتِهِ التي أجْلتْهم قوّاتُ الجيش الإسرائيلي عن قريتِهم، كما أجْلتْ أهالي كفر برعم بحجّةِ إجراءِ تمارين عسكريّة، لأنّهما قريبتانِ مِن حدودِ لبنان، وعلى الرّغمِ مِن وعودِ الجيش بأنّ إبعادَهم سيكونُ لمدّةِ أسبوعيْن، فقد قامت قوّات الجيش بهدْم القريتيْن ومنْعِ الأهالي مِن العودة بحجّةِ الأمن الواهية، وكانتْ قوّاتُ وساسةُ إسرائيل تدّعي أنّها ستهدمُ كافّةَ القرى التي تقاومُ عسكريًّا في حرب 1948، إلاّ أنّ أهالي هاتيْن القريتيْن الوادعتيْن لم يقاوموا عسكريًّا، ومع ذلك فقد هدِمت القريتان المسالمتان، وعلى الرّغم مِن التّوجّهِ إلى محكمة العدل العليا، إلاّ أنّ قوّات الاحتلال العسكريّ والقرى التّعاونيّة اليهوديّة هناك (الكيبوتسات)، مَنعتْ حتّى الآن ما سمَحتْ بهِ محكمةُ العدل العليا، لتضربَ بذلكَ بكافّةِ القوانينِ الإنسانيّة، وبالعدالةِ الّتي لم تُحترَمْ في هذا المجال، وما زالَ أهالي القريتيْن يتطلّعون إلى ذلك اليوم الّذي سيُسمحُ لهم فيه بحقِّ العودة إلى القريتيْن المُهدومتيْن لإعادةِ إعمارِهما، ومِنَ الجديرِ بالذّكر أنّهُ يُسمحُ لأهالي القريتيْن بدفن موتاهم في مقبرَتَي القريتيْن، الأمر الذي يحملُ في طيّاتِهِ الكثيرَ مِن الإيرونيا السّاخرة والتّناقض في تطبيق الحقوق، فابْنُ إقرث مثلاً لا يحقُّ لهُ أن يعودَ إلى إقرث إلاّ ميّتا؟!
هكذا باتَ مصطلحُ تغريبة واضحًا بالنّسبةِ لأهالي القريتيْن، وواضحًا بالنّسبةِ لنا نحن جمهور القرّاء، فيكونُ أفضلُ تعريفٍ لهذهِ التّغريبة مايلي؛ إنّها روايةُ أهالي قرية إقرث المُهجّرين، والّذين يعيشونَ أغرابًا في قرى الجشّ والرّامةِ وكفرياسيف وغيرِها، ولمّا كانتْ هذهِ الرّوايةُ قد كُتبتْ شعرًا لذلك فهي أشبهُ بالملحمة، والملحمةُ في أدقّ تعريفٍ لها؛ روايةٌ تاريخيّةٌ وطنيّةٌ فيها بطولةٌ في الحربِ وتُكتبُ شِعرًا، ولمّا كانتْ روايةُ تغريبة أبناء إقرث قد خصّصتْ صفحاتِها لتاريخ قضيّةِ هذه القرية والحقِّ المهضومِ لأهاليها، فإنّهُ تصبحُ روايةَ توثيقٍ لتاريخٍ عاشَهُ أهالي القرية، وما زالوا يُعانونَ مِن نتائجِهِ الّتي تُدمي أفئدةَ أصحابِ الحق، وتحرمُهم مِن أبسطِ الحقوقِ الّتي نصّتْ عليها القوانينُ والأعرافُ الدّوليّة.
الأستاذ معين سبيت وُلد عام 1934، وعاصرَ نكبةَ فلسطين وبالذّاتِ نكبةَ قريتِهِ مسقط رأسِهِ إقرث، لذلك، فإنّهُ بهذهِ التّغريبةِ إنّما يُوثّقُ تاريخًا مُهمًّا هو جزءٌ مِن تاريخ الشّعبِ العربيِّ الفلسطينيّ، وهو يُقيمُ في الغربة في قرية الرّامة، بينما لا تبعُدُ عنه أطلالُ وبقايا إقرث بضعَ كيلومترات، وأهلُ إقرث لاجئونَ وغرباءُ في قريةِ الرّامة وغيرها مِنَ القرى، وأصواتُهم تستصرخُ الضّميرَ الإنسانيّ والعالميّ، في تطلِّعهم إلى أمكانيّةِ العودةِ إلى ما تبقّى مِن القريةِ وإعادةِ إعمارِها.
أقسامُ الكتاب:
يقعُ الكتابُ في ثلاثةِ فصولٍ بعدَ الإهداءِ والمُقدّمة، ويلي الفصولَ الثّلاثةَ مُلحقٌ يُدينُ فيهِ إسرائيل بالحقائقِ المرتبطةِ بالتّواريخِ وسياسةِ حكوماتِ إسرائيل، على مدى اثنيْن وستّين عامًا، منذُ إقامةِ الدّولةِ حتّى أيّامِنا.
في الفصلِ الأوّل: يستذكرُ كيفَ كانتِ الحياةُ في إقرث قبلَ كارثةِ هدْمِها، وقبلَ نكبةِ الشّعبِ العربيِّ الفلسطينيّ، وفي الفصلِ الثّاني يتحدّثُ عن التّشريدِ والمعاناةِ الّتي عاناها الإقرثيّون ولا يزالون، بعدَ هدْمِ القريةِ وطرْدِهم منها، وفي الفصلِ الثّالث يدّعي أنّهُ لا يضيعُ حقٌّ وراءَهُ مُطالِبٌ.
المستوى الفنّيّ:
ليسَ مِن السّهل كتابةُ المسرحيّات شعرًا، وإذا كانَ موضوعُ المسرحيّةِ في هذا المجال التّغريبة موضوعًا سياسيًّا وإنسانيًّا مِن الدّرجةِ الأولى، وكانَ الكاتبُ متأثّرًا كلَّ التّأثّر بالأحداثِ الّتي عاشَها، فإنّهُ سوفَ يسمحُ لنفسِهِ أن يَخرجَ أحيانًا عن الجرْسِ الموسيقيّ ليؤدّيَ التّفاصيلَ كاملةً، ويضربَ عرْضَ الحائطِ بالتّفعيلاتِ والأوزانِ، فالشّكلُ عندئذ يُصبحُ جانبيًّا قليلَ الأهمّيّة إزاءَ المضمون، فهو يقومُ بتأديةِ رسالةٍ إلى مَن يَكتبُ إليهم، ويُريدُها أن تكونَ كاملةً وافيةً وواضحة، ومِن هنا، فقد وجدْنا في هذهِ التّغريبةِ بعضَ القصائدِ قد وردتْ بلغةٍ تقريريّةٍ بعيدة كلَّ البُعدِ عن الأوزانِ والقوافي والبحور، وبعضَها فيها انسيابٌ لذيذٌ ومُمتعٌ حيثُ تكاملَ المضمونُ بالشّكلِ الخارجيّ، فجاءتْ مؤثّرةً في النّفس كما لو كانَ القارئُ يعيشُ الحدَثَ معَ المؤلّف، الّذي عاشَ نكبةَ إقرث وفلسطين كلّها، لذلك وجدناهُ في هذهِ التّغريبةِ حميميَّ المَلافظِ مُتأثّرًا بالأحداث كطفلٍ واعٍ في بدايةِ حياتِهِ، إذ كانَ عمرُهُ سبعةَ عشر عامًا عندما قامتْ قوّاتُ الجيشِ الإسرائيليِّ بهدْمِ قريتِهِ، وقد اعترفَ رئيسُ الحكومةِ آنذاك دافيد بن غوريون، بأنّه لم يُصدِرْ أوامرَهُ بهدْمِ هاتيْن القريتيْن، وأنّ مَن أصدَرَ الأوامرَ ونفّذَ عمليّتَي الهدم والتّشريدِ كانَ أحدُ قادةِ الجيش، وقد وعَدَ بن غوريون بتعيين لجنةٍ خاصّةٍ تقومُ بتقصّي الحقائق في موضوع هدْمِ إقرث وكفر برعم، إلاّ أنّ لجنةً كهذهِ لم تقُمْ، ويبدو أنّ بن غوريون نفسَهُ اقتنعَ بفكرةِ هدْم القريتيْن دونما شفقةٍ أو ضميرٍ حيّ، فالحاكمُ هو الظّالم، إذن لمَن نشتكي أمرَنا؟
ذاكرةٌ ولكن ليستْ للنّسيان:
لشاعرِنا ذاكرةٌ قويّةٌ وحيّة، فهو يحاولُ أن يستعيدَ ذكرياتِ الطّفولةِ المُعذبة بسببِ قلّةِ الدّخل، ومع ذلك فقد كان يشعرُ ببهجةِ العيدِ عندما كان يشتري لهُ والدُهُ حذاءً جديدًا وثوبًا جديدًا، ولأنّهُ حُرمَ مِن هذهِ المفرحات فهو يتساءلُ سؤالَ العارفِ بدقائق الأمور، هل كانَ والدُهُ قد اشترى لهُ حذاءً جديدًا بالفعلِ كهديّةٍ في يوم العيد، أم هل امتنعَ والدُهُ عن شراءِ ذاك الحذاءِ اللاّمع الموعود أسوةً بزملائِهِ أبناء جيلِهِ مِن أهالي القرية إقرث، كما يفعلُ سائرُ الآباءِ مع أبنائِهم؟ وهل السّؤالُ ناتجٌ عن طبيعةِ الإنسان الّذي يَنسى ما حصلَ معَهُ في الماضي، أم أنّ هناكَ أسبابًا جعلَتْهُ ينسى أو يتناسى، خاصّةً وأنّ الكارثةَ الّتي حلَتْ بفلسطين، حيثُ شُرّدَ معظمُ سكّانِها وباتوا لاجئينَ في خيامِ الذّلّ والتّشريدِ كانتْ أكبرَ مِن أن تُحتمَل؟ إنّهُ إذ يَذكرُ العيدَ وبهجتَهُ إنّما ليُقنعَ نفسَهُ أنّه ما زالَ صغيرَ السّنّ، وأنّه حتمًا سيفرحُ لو وصلَتْهُ هديّةً في يوم العيد، فالعيدُ هو عيدُ الصّغار، والصّغارُ وحدهم يفرحون بالعيد، لأنّ العيدَ لهم أساسًا، وشاعرُنا عندما يعودُ إلى مدارجِ الصّبا حينَ كانَ طفلاً يافعًا، إنّما ليُعظّمَ الموقفَ وليستدرَّ عطْفَ قرّائِهِ على قضيّتِهِ، لأنّنا نحنُ العرب نتعاطفُ مع كلِّ موقفٍ حميميٍّ، وهو يرجو إقناعَنا كجمهورِ قرّاءٍ لتغريبتِهِ، كما يرجو دعمَنا وتأييدَنا لهُ في موقفِهِ مِن قضيّتِهِ إقرث.
القِيمُ والمُثلُ في التّغريبة:
اهتمَّ المؤلّف بذِكرِ بعضِ القصص التّراثيّةِ الّتي تحكي شيئًا عن عادات الأهل قديمًا، ومعظمُ هذهِ القصص يمرُّ عليها المؤلّفُ مُشيرًا إلى الكثيرِ مِنَ المُثلِ العليا مثل: النّخوة، الشّجاعة، قبول الآخر والتّعايش معه، الدّعم العائليّ لمَن يُرشّحُ نفسَهُ في الانتخاباتِ القادمةِ لمنصبٍ معيَنٍ في السّلطةِ المَحلّيّة، هذا ونحنُ واثقونَ أنّ شاعرَنا يُؤمِنُ بالمجتمع القرويّ، حيثُ نجدُ الكثيرَ مِنَ رموزِ التّراثِ الّتي لا نستغني عنها، مثل حفلات الأعراس ومشاركة أهالي القرية، ورفْع الشّرعة والعمدة، وهي حجرٌ كبيرٌ نُحتَتْ فيهِ حفرةٌ صغيرة تُثبّتُ فيها خشبة، ويرفعُها الشّبابُ مُتبارينَ، وقد يزيدُ وزنُها عن 50- 90 كغم، حتّى أنّ العادةَ كانتْ تقتضي أن يرفعَها شابٌّ مِن أهل العريس بيدٍ واحدة، وإلاّ دفعَ العريسُ مبلغًا مِنَ المال، لشراءِ بطحةٍ أو تنكة عرَق يشربُها الشّبابُ في سهرةٍ مميّزة، كذلكَ يذكرُ صلاةَ الاستسقاء عندما يتأخّرُ هطولُ المطر، فيخرجُ الصّغارُ في صلاةِ ومسيرةِ الاستغاثة كي ينزلَ الغيث، ويذكرُ دوْرَ القابلةِ التي كانتْ تساعدُ الأمَّ الحاملَ في ساعةِ الولادة، ولا ينسى العلاجَ بالأعشاب والوصفاتِ العربيّةِ، ودوْرِ راعي القطيع الماعز والغنم والبقر، والنّاطور وهو وسيلةُ الإعلامِ الوحيدة في قرانا، وفي الأعياد يلتقي الجميعُ يتصافحون ويتسامحون، حتّى أنّ بعضَ النّسوةِ كنَّ يذرفنَ الدّموعَ عندَ المصالحةِ مع خصومِهنّ، ويلجأ بشكلٍ متكرّرٍ إلى استعمالِ الفِعلِ "كان"، حيثُ يقولُ ص 54- 55:
كانتْ لنا مدرسة/ كانَ لنا عنوان/ كانَ لنا كيان/ كانتْ لنا كنيسة/ مساكن/ مزارع/ كانت لنا حضارة/ كان لنا بستان/ كان لنا ميدان/ كانت لنا آبارٌ يرتوي مِن مائِها العطشان/ كانت لنا أفراحُنا/ وعازفٌ في الفرح/ يُحرّكُ المشاعرَ/ يُشنّفُ الآذان/ كانت لنا أخلاقُنا/ آدابُنا/ عاداتُنا/ آمالُنا/ .. إلخ
المأساةُ والتّشريدُ والمُعاناة:
بعدَ هذا السّردِ اللّطيفِ شِعرًا حصلتِ الكارثة، وطُرِدَ أهالي إقرث مِن أراضيهم وبيوتِهم، وبدأت المعاناةُ بعدَ هدْم القرية وما زالتْ حتّى يومنا هذا، وكانَ الاحتلالُ يوم 31- 10- 1948، بعدَ انتهاءِ المعاركِ والحروب، وكانتْ إقرث قريةً هادئةً وادعةً يعيشُ أهلُها مِنَ العمل في فلاحةِ الأرض، والأشغالِ في المدن حيثُ توفّرتْ لهم أشغال، وبالرّغم مِن أنّ الجميعَ لم يكونوا في بحبوحةٍ مِنَ العيش، إلاّ أنّ السّكّانَ كانوا قانعين بتحصيلِهم وظروفِهم المعيشيّة.
الخوري أندراوس:
كانَ كاهنُ الطائفةِ رجلاً تقيًّا ورِعًا وجريئًا في آنٍ واحد، وبعدَ دخولِ الجنودِ واحتلالِ القريةِ جمعوا الأهالي بأمرٍ مِنَ القائدِ المحتلّ، الّذي أمَرَ بتصويبِ البنادقِ نحوَ صفوفِ الأهالي، وهنا ثارتْ ثائرةُ الخوري أندراوس الّذي وقفَ بكلِّ جرأةٍ في وجهِ الجنودِ والبنادق، وصاحَ بالجنودِ قائلاً: اقتلوني أوّلاً، وأطلِقوا سراحّهم لأنّهم لم يرتكبوا أيّ ذنب، وهنا غيّرَ القائدُ آرام أوامرَهُ وتَركَ الجيشُ القريةَ لأسبوع، ثمّ عادَ مع جنودِهِ، وأمروا الأهالي بمغادرةِ القريةِ مِن أجل أجراءِ تمارين عسكريّة، وقد وعَدَ الأهالي بالعودةِ بعدَ أسبوعيْن، ووقّعَ على اتّفاقٍ معَ مختارِ إقرث بهذا المضمون، إلّا أنّ وعودَهُ ذهبتْ أدراجَ الرّياح، وانتهت الحالُ بهدْمِ القريةِ في وقتٍ لاحقٍ بتاريخ 25-12-1951، أي ليلةَ عيدِ الميلادِ لدى الطّوائفِ المسيحيّةِ الغربيّة، ونذكرُ هنا أنّ أهالي القريتيْن اللّتيْن هُدِمتا معًا كانوا يسيرونَ بحسبِ التّوقيتِ الغربيّ لأنّهم كاثوليكيّون.
يُذكرُ أيضًا أنّ رؤساءَ حكوماتِ إسرائيل وأوّلهم بن غوريون، والجنرال يجئال ألون، ومناحيم بيغن، والمستشار يهوشع فلمان، والرّاب أهارون أبو حصيرة وزير الأديان، والجنرال بارليف، أعطوْا تصريحاتٍ بأنّ أهالي القريتيْن على حقٍّ في وجوبِ السّماح لهم بالعودة، إلاّ أنّ حكومةَ إسرائيل بتاريخ 23-7-1973 اتّخذت قرارًا يقضي بعدمِ السّماح للأهالي بالعودة، وهكذا ما زالَت القضيّةُ مُعلّقةً، وما زالَ الأهالي يُناضلونَ مِن أجلِ حقِّ العودةِ الّذي لا تنازلَ عنه.
الفصلُ الثّالثُ والأخير:
يتحدّثُ عن إيمانِ الشّاعر بالمثل القائل "لا يَضيعُ حقٌّ وراءَه مُطالبٌ"، فأهالي إقرث وكفر برعم اختاروا لجنةً تُمثّلُهم وتُمثّلُ مطلَبَهم العادلَ في حقِّ العودة، وهُم من يوم 31-7-1951 يتمسّكونَ بقرارِ محكمةِ العدل العليا، والّذي ينصُّ على أنّ ترحيلَ الأهالي كانَ غيرَ قانونيّ، لذلك، فإنّ بعضَ القوى اليهوديّةِ التّقدّميّةِ والعالميّةِ تدعمُ حقَّ الأهالي بالعودة، ونذكرُ الدّوْرَ الّذي لعبَهُ سيادةُ المطران يوسف ريا، والّذي أعلنَ إضرابَ جلوس احتجاجًا على عدم تنفيذِ قرارِ المحكمة، وتعملُ اللّجنةُ على التّمسّكِ بالأرض، وتقومُ بنشاطاتٍ إعلاميّةٍ مِن حينٍ لآخر مِن أجل دعْم هذا الحقّ، ونحنُ بدوْرِنا نضمُّ أصواتَنا إلى أصواتِ أصحابِ الحقِّ مِن أهالي القريتيْن إقرث وكفر برعم، على أمل أن يُثمرَ النّضالُ العادلُ، ويعودُ كلُّ ذي حقٍّ إلى حقّه.
أمّا د. منير توما فقد تحدّثَ عن وهجِ الألم وومضةِ الأمل في "تغريبة أبناء إقرث" قائلاً:
الكتابُ الشّعريُّ الذي يحملُ عنوانَ "تغريبة أبناء إقرث" أصدِرَ حديثًا في حزيران 2010، حيثُ لمستُ فيهِ مشاعرَ وذكرياتِ الكاتبِ في مراحلَ مختلفةٍ مِن حياتِهِ، مِن خلالِ رحلةِ ما قبلَ التّهجيرِ مِن قريتِهِ إقرث، مرورًا بطريق الآلام والمعاناةِ أثناءَ فترةِ التّهجيرِ، وما بَعدَها مِن خطواتٍ كفاحيّةٍ نضاليّةٍ سِلميّةٍ للعودة، وما صاحَبَ ذلك مِن أملٍ يُداعبُ قلوبَ أهالي قريتِهِ المُهجّرة، بتحقيق الهدفِ الدّائمِ الّذي كانوا وما زالوا يسعَوْنَ للوصول إليه عبْرَ كلِّ الطّرقِ القانونيّةِ لنيْلِ حقّهم المهضوم.
إنّ اللاّفتَ في بدايةِ هذا الكتاب تلكَ الرّوحُ المفعمةُ بالحنينِ والحسرةِ والشّجن، التي تعتملُ في صدرِ الكاتبِ على الصّعيدِ الشّخصيّ، وعلى مستوى الحُبِّ الذّاتيِّ لقريتِهِ قبلَ التّهجير، لا سيّما وأنّها على حدِّ وصْفِهِ كانت تعيشُ آنذاك حالةً مِنَ الطّمأنينةِ والسّكينةِ والأمل بمستقبلٍ مُشرِقٍ زاهر (ص 24- 25):
في ذلك الزّمان/ إقرث كانتْ تشهدُ/ عهدًا مِنَ التّطوير/ والتّعمير
قد أنشأوا بيوتَهم/ وعلّموا أولادَهم/ وأصلحوا الأراضي/ وفتحوا الشّوارع/ واستنشقوا نسائمَ التّغيير/
ولم يَدُرْ في وعيِهم أو حَدْسِهم/ بأنَّ ما تُعِدُّهُ الأيّامُ/هو سوء المصير
لقد صاغَ الكاتبُ أحاسيسَهُ ومشاعرَهُ بقالبٍ شعريٍّ بأسلوب الشّعرِ الحُرّ الطّليق، فتحرّرَ مِن قيودِ الوزن والقافية إلى حدٍّ كبير، بحيث تمكّنَ أن يبثَّ لواعجَهُ ومكنوناتِ قلبِهِ بحُرّيّةٍ تامّة، ولكن بكلِّ رصانةٍ واتّزانٍ نفسيٍّ يُعبّرُ مِن خلالِهما عن وعيٍ أصيلٍ بجذورِ القضيّةِ وعدالتِها، دونَ أن ينساقَ إلى تطرّفٍ كلاميٍّ يُسيءُ إلى مبرّراتِ ألمِهِ، أو مسوغاتِ حججِهِ في مطالبتِهِ بحقوقِ سكّانش بلدتِهِ بالعودةِ إلى أرضِهم.
لقد صوّرَ شاعرُنا في بداياتِ كتابِهِ أيّامَ الصّفوِ والهناء الّتي كان يحياها أهلُ إقرث قبلَ التّهجير، حيثُ يسوق إلينا مشهدًا مِن مشاهدِ الأعراس المصحوبةِ بتقاليد شعبيّةٍ تراثيّة كانتْ سائدةً في تلك الأيّام، كرفْعِ العمدة ليتمّ للعريس أخذ عروسِهِ (ص 34):
وفجأةً أطلّ/ شيخُ الشّباب غالب/ مدّ يدًا مفتولةَ العضلات/ فصفّقَ الشّبابُ والبنات/ وزغردتْ ليلى
هذا الزّعيمُ قد نجح/ ورفَعَ العمدة بالفرح/ فبشّتِ العروسُ/ وطابتِ النّفوس
ويتابعُ الشّاعر في الفصلِ الأوّلِ مِن كتابِهِ الذي قسّمه إلى ثلاثةِ فصول، الحديثَ عن الأيّام الجميلةِ الهادئةِ، التي عاشتها إقرث قبلَ التّشريدِ والمعاناةِ فيقول (ص 55):
كانَ لنا بستان/ كان لنا ميدان/ كانت لنا آبارُ ماء/ يرتوي مِن مائِها العطشان
كانت لنا أفراحُنا/ وعازفٌ في الفرح/ يُحرّكُ المشاعرَ/ يشنّفُ الآذان
ولا ينسى أن يُشيرَ إلى أنّ حياةَ أهالي إقرث في حقبةٍ ما قبلَ التّهجير كانتْ حافلةً بالآمالِ والطّموحات، ورغم كلِّ ما حدث فيما بَعد، فإنّهُ لن يُزيلَ ذلك مِن مخيّلتِهم، ولن يُثبّطَ عزيمتَهم وهِممَهم، بل إنّ الألمَ الّذي كابدوهُ سيُعلّمُهم كيف يتحمّلُ الإنسانُ ألمَ الحياة، فالعذابُ لا يجرفُ الآلامَ كي يرميها في العدم، ولكنّهُ يزيدُ الإنسانَ عمقًا وصفاء (ص 5):
كانت لنا آمالنا/ كان لنا طموحُنا/ وإنّها باقية/ برغم جور الدّهر
وفي الفصلِ الثّاني مِن الكتاب، ينتقلُ الشّاعرُ إلى عهدِ صباه حيثُ كانَ عمرُهُ حينذاك أربعةَ عشر عامًا، يذكرُ فيه حادثةَ مأساةِ التّهجيرِ مِن قريتِهِ إقرث وملابساتِ الأمر وحيثيّاتِ التّرحيل، بما رافقَ ذلكَ مِن معاناةٍ وآلامٍ وضنكِ عيش (ص 73) :
بأيِّ حكْمٍ جائر؟/ بأيِّ شرعِ دين؟/ نُرمى في الصّحراء/ كالكلاب
يا بئسَ ما حلَّ بنا/ قد ضاعَ حلمٌ عشتُهُ/ مع لمّةِ الإخوان
ويستطردَ قائلاً ليصفَ ما آل إليهِ سكّانُ إقرث بعدَ مأساةِ التّهجير، وما حلّ بهم مِن مصائبَ وكوارثَ لم تكنْ بالحسبان (ص 73): صرنا بلا أركان/ صرنا بلا كيان/ صرنا بلا عنوان
ويستمرُّ بالشّكوى حولَ الظّلم الّذي وقعَ عليه وعلى أبناءِ قريتِهِ، وما نشأ عن ذلك مِن عواقبَ أليمةٍ فيقول (ص 95):
في عيد ميلاد المسيح/ هدموا قريتنا/ ودمّروا بيوتنا/ ومزّقوا أمرًا/ من محكمة العدل/ يقضي بأن يُعيدنا الجيش/ إلى قريتنا/ لكنّهم تنكّروا لِحَقّنا/ والتفّوا حولَ المحكمة/ وهكذا بقينا/ نتيهُ في وطنِنا
وبعدَ أن يستفيضَ الشّاعرُ بالحديثِ عن خطواتِ النّضالِ السّلميّ الذي اتّبعَهُ أهالي إقرث، للتّمسّكِ بحقِّ عودتِهم إلى قريتِهم المُهجّرة، ومؤازرةِ الكثيرين لهم في نضالِهم هذا، فإنّهُ لا يفوتُهُ أن يعترفَ بجميلِ مَن استقبلَ واستضافَ مُهجّري إقرث برحابةِ صدرٍ وحُسنِ ضيافة، إلاّ أنّه يرى بأنّهُ لا مكانَ أعزُّ على الإنسان مِن موطنِهِ وبلدِهِ، وهذا الأمرُ لا شكّ يعكسُ الألمَ الكامنَ في نفوس أهالي إقرث، لأنّ الألمَ مأساةُ البشريّةِ الكبرى منذ كانتِ البشريّة، فكم بالحريّ حين يكون ُالألمُ مقرونًا بالغربة أو التّغرّب؛ وفي هذا المعنى يحضرُني قولُ الشّاعر جميل صدقي الزهّاوي: تجرّعتُ كأسًا للتّغرّبِ مُرّة/ إلى اليوم في بطني مرارتُها تغلي
وبهذا، فإنّ شاعرَنا يتماهى في حنينِهِ إلى موطنِهِ أي إلى قريتِهِ إقرث مع ما قالَهُ أحدُ العظماء، مِن أنّهُ إذا أردتَ أن تعرفَ ماذا يحدثُ في وطنِك، فعليك أن ترحلَ بعيدًا عنهن لا سيّما وأنّ هذا البعدَ كانَ قسريًّا وليسَ إراديًّا، وهنا مكمنُ الألمِ والمعاناة، لأنّنا لا نستطيعُ أن ننتزعَ الوطنَ مِن قلب الإنسان، فمَن لا يُحبُّ وطنَهُ، لا يمكنُه أن يُحبَّ شيئا، وهذا ما يؤكّدُ عليه الشّاعرُ في تغريبتِهِ هذه، ويختمُ كتابَهُ بفصلٍ ثالثٍ يُشدّدُ فيه على تمسّكِهِ بثبات، بتنفيذِ قرارِ محكمةِ العدل العليا القاضي بإرجاع أهالي إقرث إلى قريتِهم، مُتشبّثًا بهذا الأمل ولو بعدَ حين (ص 103-104):
تطبيقُ أمرِ المحكمة/ محكمةِ العدل/ لا بدَّ أن يكونَ عندنا/ مِسكًا للختام.../ وترجعُ الطّيور/ وتغرّدُ العنادلُ
في أرضِنا – في الوطن الغالي/ على مدى/ الأعوام/ وربّما تُدركُنا الآجالُ/ ونحن في الغربةِ لا نزال
لكنّنا لن نفقد الآمال/ ستُخلّفُ الأجيالُ في طول المدى الأجيال/ وتصدقُ الأقوال/ ما ضاعَ حقٌّ خلفَهُ مُطالِب
وهكذا، فانّ الشّاعرَ معين سبيت يبقى محافِظًا على أملِهِ بالعودةِ إلى قريتِهِ، وإن لم يتمّ له ذلك في حياتِهِ، فالأملُ موجودٌ في الأجيال القادمةِ على طول المدى؛ كذلك فإنّهُ يعكسُ الحقيقةَ بأنّ الأملَ رفيقُ البؤساءِ الشّاكينَ مِنَ الدّهرِ الظّالم، فالأملُ يشقُّ كبدَ الظّلماتِ الدّامسات، ومِن عُمْقِ المأساةِ تتفجّرُ المُعجزاتُ بتحقيق الرّجاء، وقد ينطبقُ ما قاله الشّاعرُ إبراهيم المنذر على الأستاذ سبيت بشأن تشبّثِ الأخير بالأمل حين قال: مَن لم يكنْ في صدْرِهِ أملُ/ عبثًا يرى في غيرِهِ أمَلا
للأستاذِ الشّاعر معين سبيت أجمل التّهاني بصدور "تغريبة أبناء إقرث"، وأصدق التّحيّات مع أطيب التّمنّياتِ بدوام التّوفيق والمزيد من العطاء.
وجاءتْ مداخلةُ سهيل عطالله في أدب التّغريب تقولُ:
يعيشُ أهلُ فلسطين رواياتِ النّزوح والنّفي، يعيشونَها يومًا بعدَ يومٍ وكأنَها قدَرُهم المكتوب، ولو شرَعَ مُهجَّرو الدّنيا في كتابةِ سجلاّتٍ توثيقيّةٍ عن الاقتلاع والتّهجيرِ، لبَزَّ الفلسطينيّونَ شعوبَ العالم قاطبة.
لقد ضاعَ الوطنُ وتشتّتَ أهلُهُ واندثرتْ قراهُ ومدنُهُ، ولو طُلبَ مِن كلِّ مُشرّدٍ فلسطينيٍّ تدوينَ تغريبةِ أهلِهِ ومسقطِ رأسِهِ، لضاقتْ رفوفُ المكتباتِ وامتلأت الدّنيا بأدبِ التّغريبِ الفلسطينّ!
لقد طالتْ ضراوةُ الاقتلاعِ كلَّ البيوت، أمّا الذّكرى فبقيتْ موجِعةً وعصيّةً على النّسيان. في هذا السّياق يكتبُ معين سبيت "تغريبة أبناء إقرث" شعرًا، تلكَ القرية العربيّة المسيحيّة المُسالمة، الّتي تشتّتَ أهلُها ضحايا لوعدٍ خادعٍ كاذب. باحترافِهِ (السّهل الممتنِع) يَروي الأستاذ معين قصّةَ تغريب أهلِهِ وإبعادِهم وهدْمِ بيوتِهم، وكأنّهُ في تغريبتِهِ هذهِ يجمعُ مختصِرًا تغريباتِ مئاتِ القرى الفلسطينيّة، الّتي غابتْ تضاريسُها غدرًا وطمْسًا مِن خلالِ مماطلاتٍ ووعودٍ عرقوبيّةٍ كاذبة، حاكتْها أذهانُ المسؤولينَ الظّالمينَ المُستبدّين. لقد خلا الكتابُ مِن غرائبِ الكلام، فصاحبُهُ معلّمٌ يمتلكُ الشّفافيّةَ والسّلاسةَ، ويُتقنُ مادّةَ درْسِهِ ليحفظَها ويهضمَها لطلاّبِهِ كلامًا وجوهرًا دونما إرباكٍ أو تعقيد، وفي نهايةِ التّغريبةِ يجمعُ الكاتب أقوالاً مِن أفواهِ السّالبينَ تحتَ بابٍ أسماه،
(مِن فمِكِ أُدينُكِ يا إسرائيل). ما أصدقَ وأجملَ كلامَهم لو ترجموهُ إلى واقع! لكن هيهات، هيهات!
كلامُ كاتبِنا يُذكّرُني بما رُويَ عن رئيس الوزراء الإسرائيليّ ليفي أشكول وهو يقولُ لمَن اتّهمَهُ بنكثِ الوعود: "صحيح أنّني وعدتُكم، لكنّني لم أعِدْكم بأنّني سأفي بوعودي"، كلامٌ فيهِ جمالٌ ولباقة، لكنّهُ إمعانٌ في الهروبِ مِنَ الوفاءِ وإحقاقِ الحقوق. إنّ تغريبتَكَ يا أخي معين تفضحُ غرائبَهم.. لن تغربَ نجومُكَ، وستبقى مضيئةً متلألئةً على دروبِ أبنائِنا وأحفادِنا المتمسّكينَ بالانتماءِ والشّموخ بعيدًا عن ذلِّ الانحناء!
وجاءتْ كلمةُ المحتفى بهِ الشّاعر معين سبيت تشكرُ المنتدى الثّقافيّ، والشّعراء والأدباء وكافّةِ الحضور مِن معارف وحضور وأقارب والزّوجة هند أم وسام، وطرحَ السّؤالُ لماذا هذه التّغريبة وفي هذا الوقت؟ لا نكشفُ سرًّا إذا قلنا، إنّنا في حالةٍ مِن الرّكودِ الثّقافيّ في هذه الأيّام، وجيلُ النّكبةِ في تناقصٍ مستمرٍّ، وليسَ بعيدًا اليومُ الذي نبحثُ فيهِ عن شاهدِ عيانٍ لقريةِ إقرث وغيرها مِن القرى المهجرة، ومِنَ المثيرِ للرّعب أنّ الجيلَ الناشئَ يَجهلُ حقيقةَ ما حصل لإقرث مِن ظلمٍ وتشريدٍ وتهجيرٍ وهدْمٍ وقهر، ولذا باتَ مِن الضّروريّ توثيقُ ما حدث، لشحن الجيل النّاشئِ بالطّاقةِ والمعرفةِ الضّروريّتيْن لحدوثِ صحوة، تعيدُ جيلَ الإنترنت إلى دائرةِ الاهتمام بالأمور المصيريّة، واليومَ وقد بلغتُ مِنَ العمر السّادسةَ والسّبعين عامًا، وحيث أنّي كنتُ وما زلتُ شاهدَ عيانٍ لِما جرى، فإنّني أشعرُ بالمسؤوليّةِ الكبرى وبواجبِ المساهمة في توثيق ما حدث لإقرث، قبلَ أن يستردَّ الباري أمانتَه، وبعدَ اتّخاذِ قرار التوثيق كان علي اختيار القالب المناسب للكتابة، فوقعَ اختياري على الشّعرِ الحُرّ، إيمانًا منّي بأنّهُ الأنسبُ نظرًا للمرونةِ التي يُوفّرُها للكاتب، وبناءً على كلِّ ما ذُكِر قمتُ بكتابةِ تغريبة أبناء إقرث، التي وُضعتْ بين أيديكم، وأودّ استغلالَ هذه المناسبةِ لأوضحَ أمرًا هامًّا عن تهجيرِ أهالي إقرث لا تعرفُهُ الأكثريّة، وهو أنّ إقرث ذهبت ضحيّةَ مبدأ الشّريطِ الحدوديّ الخالي مِن السّكّان العرب، الذي وافقتْ عليه هيئةُ الأركان العامّة في الجيش الإسرائيليّ، في الأسبوع الثّاني مِن شهر تشرين ثاني عام 1948 بحسب المؤرّخ بيني موريس، ووردتْ تعليقاتٌ وردودُ فعلٍ مُشجّعة بعدَ صدور تغريبة أبناء إقرث منها:
نشعرُ أنّنا سنعودُ إلى إقرث. تُذكّرُنا أنّنا فلاّحون أصحابُ أرض. اليوم فقط تعرّفتُ على نكبةِ إقرث.
اكتبوا لنا أعمالاً كهذه. لقد بكيتُ عندَ قراءةِ التّغريبة. هذه أجملُ وأهمّ هديّةٍ تلقّيتُها في حياتي.
هذا الكتابُ أعادَ لنا الذّاكرةَ والذّكريات. قرأتُ الكتابَ مرّتيْن وثلاثا وسأعودُ لقراءتِهِ مرّاتٍ ومرّات.
وأنتم يا حملةَ الأقلام، أيّها الأدباءُ والشّعراءُ الكُتّابُ والمُفكّرونَ والمُربّون والمُدافعون عن شعبِنا ووجودِهِ، والمُعبّرونَ عن آمالِهِ وآلامِهِ وطموحاتِه، أضعُ بين أيديكم هذه التّغريبة، ولنتابع معًا السّير حتّى استرداد ما سُلبَ منّا، ثمّ ختمَ كلمتَهُ بقراءاتٍ مِن أجواءِ الدّيوان، ولخّصَ الأستاذ رشدي الماضي الأمسيةَ بكلمةِ شكرٍ للشاعر معين سبيت والقائمين على هذه الندوة والحضور.
www.deyaralnagab.com
|