logo
أمّنا الزيتونة...!!

بقلم : سهيل كيوان ... 21.10.2010

لا شك بأنها شجرة مباركة ولا أحد يستطيع إنكار ذلك، خصوصاً وأن الله سبحانه وتعالى أقسم بها وهذا شرف لم تحصل عليه التفاحة، الكمثرى، الكرزة وحتى البرتقالة، ولكنها للأسف ويجب أن نعترف ليست رمزاً للسلام.
منذ بدأ الاستيطان الصهيوني على أرض فلسطين كانت الزيتونة وما زالت جزءاً لا يتجزأ من المعركة على الأرض والتاريخ والوجود والذاكرة، وفي أحيان كثيرة كانت الجندي والفدائي والشهيد الأول.
الزيتونة التي تبدو طيبة ساذجة ومسكينة هي التي ما زالت رغم كل ما حدث ويحدث تنفث العُقد للفلسطيني فيتمسك بها لدرجة الهيام بل والاستعداد للتضحية لأجلها، فهي تسحره بجمالها وكبريائها وحُبِّها وحَبّها وزيتها وجفتها وحطبها وظلها وقدرتها على العيش في أقسى الظروف راضية بالحد الأدنى من العناية والدلال مثل أمهاتنا حتى إذا ما جاء الموسم قدمت حُباً وحبّاً لا يقل عن عطاء الأم .الزيتونة عند الفلسطيني مثل البقرة عند الهندوسي، الاعتداء عليها حرام فما بالك بحرقها أو ذبحها...
لأجلها يهان يتعذب ويُضرَب، يُقتل حمارُه أو أحد أبنائه أوهو نفسه، ورغم ذلك يترك وصية لأبنائه أن يتمسكوا بها ويقدسوها مثل والدتهم وأن يجلوها كما يجلون أرواح الأجداد لأن في عروقها تجري دموعهم، عرقهم ، أرواحهم ، ضحكاتهم وابتساماتهم، آمالهم وخيبتاهم.
في قرية كفر ياسيف في الجليل الغربي أوصى رجـــــل أبناءه أن يدفنوه في أرضه بين أحضان أشجار الزيتون في كرم ورثه عن أجـــــداده. وعندما سألوه عن السبـــب قال لهم: 'كـــي لا تحدثكــــم أنفسكم يومـــــاً بعد رحيلي بالتخلي عن هذه الأشجار أو بيعها، ضريحي سوف يذكركم بوصيتي'.
ولم يمض على رحيله سوى أشهر حتى ظهر في تلك الناحية ضريح وحيد بين كروم الزيتون، في يوم ما أبكر جاره ويدعى (بطرس دلة) وما زال حياً يرزق إلى أرضه ليحرثها ففوجئ بعدد من المتدينين اليهود مصطفين أمام ضريح جاره الراحل ويصلون بهمّة ويبكون، فتقدم منهم وسألهم عن الذي يفعلونه،فقال كبيرهم هذا قبر أحد الرابانيم اليهود نصلي لروحه، فقال لهم: والله لو لم أدفنه بيديّ لصدّقتكم...إنه جاري أبو محمود من عائلة صفية'...
لا أعرف من أطلق عليها اسم شجرة السلام، ولكنه بالتأكيد لم يقصدها في فلسطين! لأن شجرة الزيتون هي كلمة مرادفة للاعتداءات والمصادرة والنهب والسرقة في وضح النهار والقتل والدماء وتزييف الوثائق والسمسرة والخيانة، ومن جهة أخرى هي مرادف للتحدي والبقاء والمقاومة والشرف ، شجرة الزيتون هي الصراع المضني على كل شبر وحفنة من التراب، هي الشجرة التي تحاصرها وتلاحقها الجرافات والقوانين الجائرة والأيدي الآثمة، هي التي اقتلع منها مائة ألف روح لبناء جدار الفصل العنصري، وهي التي وصل عدد الشهداء منها إلى مليوني روح .إنها شجرة التحدي، هي التي تنبّه وتذكّروتقول عندما ينسى العالم كله أو يتجاهل إن هنا أو هناك كانت قرية عامرة بأهلها، وإن أصحابها مغيّبون ظلماًً في مكان ما، هي الشجرة التي تراها حزينة مغبرّة تندب أهلها المحرومين من ثمارها رغم أنهم قد يرونها بعيونهم ويشمّون رائحتها ولكنهم حاضرون مغيّبون، موجودون بأجسادهم وممنوعون من حقهم بها بالقوة.
إنها الشاهد على من هم أبناء هذا التراب، ومن هم الدخلاء والكولنياليون. تخيّلوا معي نساء وفتيات مولدافيات أوكرانيات روسيات وبولونيات ينقين حب الزيتون للكبيس...هذا مسبّح وهذا رصيص وهذا فالق نيعه! تخيلوا معي فتيات شقراوات يأتين من دار الأوبرا والباليه وكواليس المسرح ولا أريد القول من (البارات والأوكار) يتسابقن في جمع الزيتون ومن تخسر السبق تضطر لقرط حبّة زيتون خضراء! لن تزبط معكم هكذا تخييلات..لأنها لا تصلح إلا للمرأة الفلسطينية! تصوروا معي المبادرين للقوانين العنصرية على مختلف أشكالها وألوانها ومبرراتها الحقيرة يحملون أكياس الزيتون على أكتافهم وعلى ظهور حميرهم أو جراراتهم وينقلونها الى المعصرة.. ثم ينتظرون قطعيتها بقلق..!تصوروا (البرّاكين) أي عمال المعصرة الذين يطرحون البركة في المحصول، بأسماء مثل ليبرمان وجانكوفسكي وبتروفسكي وبيبي...يغمّسون أرغفتهم بالزيت الذهبي الطازج الحار الذي فيه حرقة خفيفة ويمضغون بمتعة!ثم صاحب المحصول يوزع الهريسة على من حوله سعيداً بما بعث الله ويردد 'كل سنة وانتو سالمين'! حتى في الخيال لن يزبط معكم... لأن لهكذا مشهد أناسه ولا يليق بغيرهم.
شجرة الزيتون تسبب نوعاً من الضيق والحرج خصوصاً في القرى المهجّرة، فهي شاهد عنيد إلى جانب الصبار على الجريمة، ولهذا نرى المجرم يقتلع المعمّر منها وينقلها إلى مكان آخر كأنما يحاول إخفاء الدليل وتضليل عدالة مفترضة، ولكن الزيتونة عندما تنقل تصبح مثل أسير يُعرض في شوارع وساحات الغزاة المنتصرين فتبدو غريبة ذليلة باكية مهيضة الجناح.
من الأمور التي فعلتها وندمت عليها في حياتي أنني اقتلعت ست شجرات زيتون رومية، الله يعلم ما هو سنها الحقيقي، بالتأكيد مئات السنين، كان لكل واحدة منها لقب ورثناه كأنها بشر، الله يعلم من غرسها ورواها أول مرة بعرقه ومن تذوق زيتها وأكل زيتونها وتفيأ ظلالها على مدار مئات السنين حتى وصلتني، ما زلت نادماً حتى الآن على اقتلاعها، أشعر أنني خنت أمانة من سبقوني ومن سيأتون من بعدي، كنت في حالة تشبه الغيبوبة لا أريد إلا أمراً واحداً هو بناء بيت لأسرتي بعدما ضاق البيت القديم بنا، ولم يكن أمامي سوى اقتلاعها والبناء مكانها مثل كثيرين لأن السلطات العنصرية لم تترك لنا بدائل، وحتى هذا البديل المؤلم عاقبتنا عليه. يوما بعد يوم تتلاشى الأشجارالمعمّرة، بعضها اقتلع للبناء مكانها وبعضها صودر وبعضها لم يصادر ولم يقتلع بعد ولكن الوصول اليه صار مشكلة أو مغامرة، خصوصا تلك التي باتت في مناطق نفوذ المستوطنات وفي بعض الحالات بين بيوتها، لا يسمح لأصحابها بوصولها إلا بإذن خاص! ورغم هذا فإن جيل الشباب يجدد زراعة هذه الشجرة، يبذل الكثير من ماله وعرقه كي يستصلح ما تبقى من الأرض ويزرعها رغم العقبات التي لا تنتهي والتي تشبه قصص النوم في فراش الغولة، رغم عدم الجدوى الاقتصادية التي تفتعلها المؤسسة لحض الناس على إهمال ما تبقى لهم من أرض، ولكن الزيتونة أكثر بكثير من مجرد تنكة الزيت أو مرطبان الزيتون المكبوس، إنها أحد أهم مركبات الروح الفلسطينية.
يريد المستوطن بإحراقه هذه الشجرة إقناع الفلسطيني أن الزيتونة ملعونة لا تجلب له سوى الهم والغم والويل، وأن تركها أو بيعها أفضل له، ولكن الفلسطيني الأصيل يعرف أن من يتخلى عن الزيتونة مثله كمثل الذي يتنازل عن أمّه للطغاة، ولهذا تراه مستعداً لتحمل الأذى دونها.
الزيتونة هي أختنا، جدتنا، حماتنا، عمتنا خالتنا وأمنا، هي شريكتنا في العذاب وفي شذرات الفرح، وإذا كان مأوى الشهداء والصديقين والأتقياء هو الفردوس، فإن الفردوس سيكون ناقصاً بدون هذه الشجرة...


www.deyaralnagab.com