logo
النظم العربية والطريق الثالث!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 07.02.2011

هناك ما يشبه قوانين في حركة التاريخ تصعب إن لم تستحل معاندتها وواحد منها غلبة إرادة الشعوب عندما تصل في قناعاتها وغليانها إلى درجة معينة. وهذه الدرجة تسمى الثورة الشعبية، إذ عندها لا تستطيع أية قوة مهما بلغت عتوّاً الوقوف ضدها. ولهذا السبب وعلى مدار التاريخ الإنساني الطويل هناك سلسلة تبدأ ولا تنتهي من الثورات. ولكن الثورة ليست سهلة ولا حتمية لأنها تحتاج أولًا إلى تجمع أسباب وظروف عدة في آن معاً، وتحتاج إلى اتساع أفقي عريض يترجم القناعة بتلك الأسباب، ثم -وهو الأهم من ذلك- تحتاج إلى درجة الغليان التي يصل عندها وبسببها الشعب إلى مستوى التضحية بالنفس ونقطة اللاعودة. ولهذه الأسباب فإن الثورات الشعبية، وعلى تواتر حدوثها لدى الشعوب عبر التاريخ، ليست السمة الأساسية للاجتماع البشري. هي الاستثناء لا القاعدة. القاعدة هي التغيير التدريجي والاستجابة المتواصلة لما تُطالب به الشرائح العريضة في أي تجمع بشري، أو شعب بالصيغة الحديثة المعاصرة. ومهمة أية نخبة حاكمة هي خدمة شعبها والتيقظ التام للتحولات والمطالب المشروعة التي تظل تفرض نفسها وتتغير. والمخاطرة بصم الآذان وعدم الاستجابة للضغوط الشعبية، أو إيهام النفس بعدم وجودها، أو التمترس خلف مقولات الاستقرار الظاهري على السطح، وكل ذلك من استراتيجيات تفادي إحداث التغيير، ويقود إلى الغليان والثورة ولو على المدى المتوسط أو الطويل.
والراهن أن الثورتين التونسية والمصرية أعادتا قراءة ذلك الدرس التاريخي على عرب اليوم، حكاماً ومحكومين. فبعد عقود طويلة على قيام دولة الاستقلال العربية وترسخها، والفسحة الزمنية الطويلة التي منحتها الشعوب لنخبها الحاكمة كي تبني دولًا واستقراراً وعدالة اجتماعية، وصل المسار التاريخي بها إلى مفترق طرق حقيقي: إما الثورة وإما الدمقرطة. ولم تكن تجربة العقود الماضية مشرقة في التسيُّس الداخلي، فقد غلب عليه في معظم -إن لم نقل كل البلدان العربية- واقع السلطوية والديكتاتورية. وعلى رغم الضغوط الشعبية والنخبوية المُطالبة بالإصلاح والانفتاح السياسي والحرية والدمقرطة، إلا أن كثيراً من النظم لم تصغِ لذلك كله وردت عليه بمزيد من السلطوية والقمع. وبعيداً عن التورط في أي سرد تاريخي انتهت الأمور إلى ما نراه الآن من شرق الأطلسي إلى شرق المتوسط: غليان فوق السطح وتحت السطح وثورات قائمة أو كامنة.
وهناك قائمة من الدروس الطويلة التي تقدمها الأحداث الراهنة سواء في تونس أو مصر أو اليمن أو الأردن أو غيرها. ولكن الدرس الجوهري والأساس في كل ذلك هو أن التغيير المطلوب سياسي بالدرجة الأولى وليس اقتصاديّاً أو مطلبيّاً أو خدماتيّاً. صحيح أن الأوضاع الاقتصادية والفقر ومعدلات البطالة وارتفاع الأسعار والفساد لعبت أدواراً كبيرة ومتفاوتة في كل من هذه الحالات. ولكن الأمر المهم هو سرعة تحول تلك المطالبات إلى شعارات مُطالبة بالتغيير السياسي والحرية والديمقراطية. بمعنى أن ثمة وعياً شعبيّاً عريضاً كان قد تراكم في السنوات الماضية ينسب محقاً كل الاختلالات وأوجه القصور المختلفة إلى جذرها السياسي المتمثل في سيادة الأنماط السلطوية والديكتاتورية في الحكم. وتردي الاقتصاد وانتشار الفساد وغياب المحاسبة وانعدام الشفافية وسوى ذلك كثير من التردي العام سببه الأساسي هو عدم وجود عملية سياسية ديمقراطية تشاركية تستوعب وتستقبل المشكلات وتناقشها مع الرأي العام وتبحث لها عن حلول جماعية. والمهم أيضاً أنه حتى في غياب عوامل ومطالبات ضاغطة في المجالات الاقتصادية والحياتية فإن الأجيال الشابة الجديدة، وبسبب اطلاعها الواسع والدائم على عالم اليوم، تريد من دولها ومجتمعاتها نماذج مواكبة للمجتمعات العصرية والحرة. أي مجتمعات ديمقراطية تسودها الحريات السياسية والمشاركة العامة.
وعلى ذلك فإن الأنظمة العربية مواجهة اليوم باستحقاق كبير وليس أمامها سوى الاختيار بين الاندراج في الدمقرطة والإصلاح السياسي الحقيقي وليس المظهري أو التجميلي، أو إهمال ذلك كله وترك الأمور تتراكم في مسارات الغليان والثورة. وأبسط قواعد الحكمة تقتضي الانحياز للخيار الأول لأنه الأقل تكلفة على الشعوب والدول والنخب الحاكمة. والتغيير التدريجي لكن الواضح، وليس الخادع، يعني البناء على ما تم إنجازه مع التخلص من الفشل، وعدم المغامرة بالدخول في خيارات قد تخاطر بإقحام المجتمعات في سيناريوهات مجهولة تقودها ثورات غاضبة ومحقة في غضبها. وعندما تحدث هذه الثورات فإنها -وبالتعريف- صعبة الانقياد، ولا تكون خطواتها وئيدة أو مدروسة -ومن هنا فإن اسمها وتعريفها ثورة، أي خروج جذري عن المسار العام المعروف. ولهذا فإن توجيه اللوم إلى الثورة أو انتقادها في حال قيامها بكونها غير عقلانية أو قد تؤدي إلى تعطيل البلد أو حتى إحداث دمار جزئي هنا أو هناك يبدو نقداً أكاديميّاً ونخبويّاً لا علاقة له بفهم الحراك الشعبي الطافح والمُستبطن غضباً ونقمة، وعلى مدار سنين طويلة ماضية.
والدرس الثاني المهم الذي تطرحه التجربتان التونسية والمصرية هو نقض الثنائية التي حُشر وحوصر فيها الجدل حول الخيار الديمقراطي، والمتمثلة في القول إن البديل عن الأنظمة القائمة، وفي حال تبني الديمقراطية، سيكون سيطرة الإسلاميين. والمشهد العربي في معظم المجتمعات يثبت أنه أكثر تعقيداً من هذه التبسيطية. فما رأيناه ونراه في الشوارع العربية برمتها هو خروج الأغلبية الصامتة عن صمتها، وخاصة الشرائح الشبابية، وتصدرها للعمل السياسي والاحتجاجي، ثم اتساع نطاق المشاركة الشعبية بشكل تجاوز الإسلاميين بمراحل عديدة. ولاشك أن هذا قاد ويقود إلى قطع الطريق على أية جهة تدعي قيادة وتحريك الشارع أو تحاول أن تجيّر ما يحدث لحسابها الحزبي. وما من شك أن هذا الوعي سيترجم انتخابيّاً أيضاً. وبكلمة أخيرة فإن الحراك الاجتماعي والشعبي فكك الاستقطاب الحاد بين الأنظمة والإسلاميين وطرح بديلًا يبدو جديداً على رغم كمونه الدائم. إنه الطريق الثالث، الطريق الديمقراطي الشعبي ذو المشاركة الشعبية الواسعة الذي محركه وقلبه النابض الشباب. ويبقى في النهاية أن مفترق الطرق بين الاندراج في الدمقرطة والإصلاح السياسي أو مواجهة الغليان والثورة، لن ينتظر طويلًا ويحتاج دوماً إلى سرعة وشجاعة في القرار.


www.deyaralnagab.com