logo
كفوا هرائكم عنا ..!

بقلم : أميمه سليمان العبادلة * ... 18.02.2011

الحصار والانقسام كلاهما أثرا بشكل كبير جدا على أغلب الكتاب والمثقفين والمبدعين.. فلم يكن الحصار مجرد أسوار تبنى حول قطاع غزه.. ولم يكن الأمر مجرد تضييق تجاري واقتصادي وسياسي.. بل تعداه ليخلق حالة حصار وتحديد إقامة جبرية على العقول والأفكار أيضا..
لعلنا ككتاب الأكثر إدراكا ووعيا، وبالتالي الأكثر حساسية وتأثرا بكل ما يجري حولنا.. لذلك نَقَلَنا الحصار من أفق رحب وخيال خصب، إلى أرض جرداء من أفكارها، وإحباط لا مثيل له، وحالة مزاجية مزعجة مرتبطة بتحسن الأوضاع تارة، وبسوئها تارة أخرى..
بالإضافة إلى أن جميع الموضوعات الهامة والمزعجة اجتماعيا على سبيل المثال باتت في منفى عن التناول الحر في الصحافة والكتابة.. فليس من المعقول أن يطرح أحدهم تقريرا اجتماعيا، أو ثقافيا، أو اقتصاديا، أو حتى رياضيا دون أن يكون المحور الأساس فيه الحصار.. وإلا لكان كاتب هذا التقرير أو المقال متهما باللامبالاة وعدم الارتكاز على أرض الواقع..
فباتت الموضوعات والكتابات كلها كأيامنا روتينية متشابهة ومملة.. وتَدَرَّجّ الأمر بعزوف الكثيرين عن الكتابة.. وما يبزغ من كتابات خجولة هنا وهناك لا يتعدى كونه إثبات وجود أحيانا، أو انفعال في كثير من الأحيان..
شخصيا أفتح شاشة الكمبيوتر وأحاول جاهدة بالساعات اعتصار أفكاري علها تسعفني ببعض كلمات أتغلب بها على إحباطي وشعوري سلبا بجفاف دواتي، لكن هيهات.. وكم صرت أنزعج عندما يسألني أحدهم متلهفا ما جديدك..؟!! أو قد يقول آخر ننتظر منك مقالا أو تقريرا..!!
منذ مده تلقيت عرضا معنويا مغريا يتمثل في تخصيص زاوية خاصة باسمي كي أكتب فيها ما أشاء في أحد المواقع الهامة.. لكنني بكل أسف اعتذرت! فلست قادرة على الكتابة بشكل دوري.. وما عاد قلمي ينتفض إلا مع انتفاضة قوية تهز المنطقة كلها وترغمني عنوة على أن أكتب.. فالحصار، وارتفاع الأسعار، وهجرة الشباب، والحلم بجنسية جديدة، واللانتماء، واللااكتراث لكل ما يجري هنا وهناك، والموت فعليا ومعنويا باتت كلها أمور عادية لا لون لها ولا طعم ولا نكهة مميزة..
ولعل ما زاد الطين بله الانقسام الفلسطيني الداخلي.. فهو من ناحية: يعتصر المثقفين منا ألما وغيظا من أن الأمر ظاهر للعوام وللبسطاء في أنه مخطط ممنهج ومدروس بعناية، هدفه أن يُنسِي ساستنا الهم الأكبر وهو فلسطين ككل.. ويقوموا بأيديهم لا بأيدي الغرباء بتقسيمها أجزاء لتضيع هيبة قضية شعبها وتضيع هيبتهم مع ضياعها.. والعالم بأسره يرقب تشبثهم بكراسي لا معنى لها أبدا.. يبدو أنهم هَرِموا وباتوا يحتاجونها ليجلسوا عليها، فليس منهم من يطيق هرولة ولا حتى مشيا مترنحا من أجل فلسطين.. أو ربما كانت أوزانهم الزائدة من تحول دون نشاطهم المرجو..!
ومن ناحية أخرى: يكبلنا الانقسام مزيدا بحيث أننا ككتاب ودون سابق إنذار أو تحذير صرنا نمتلك رقابة ذاتية لا إرادية حول ما نكتب.. وما عاد يختفي تكرار الصدى بداخلنا لسؤال مقيت: هل ما أكتبه يعجب فلان..؟!! أم أنه لا يتماشى مع فلان..؟!! والكثير منا بات يحاول جاهدا أن يختار الحياد خوفا من أن يُحسب على جهة ما ويخسر الأخرى.. حقا إن الأمر مثير للشفقة.. شفقتنا على أنفسنا.. وأفكارنا.. وأقلامنا التي فقدت ألوانها..!!
وأعود وأكرر بأن الحصار وتبعاته كلها أثرت على نوعية الكتابة والمضمون وحتى مجرد التفكير.. فبات العنوان العريض الأوحد للجميع هو "الحصار" وفقط..
فالغلاء بسبب الحصار.. والطلاق وتعدد الزوجات بسبب الحصار.. والموت حرقا بفعل مواتير الكهربا، أو اختناقا داخل الأنفاق، أو على الأَسِرَةِ البيضاء في المشافي بسبب الحصار.. حتى هذا المقال جاء بسبب الحصار أيضا..
كفى للحصار الذي غذيتموه أنتم بانقسامكم ودعونا نلتفت للكثير مما فاتنا..؟!! المجتمع بكل أطيافه وفئاته ونساءه ورجاله وأطفاله وشيوخه.. ومشاكل التعليم.. وهفوات الصحة.. واعتلال سلامتنا النفسية.. وأحلامنا التي نرفض أن تظل مجرد خيال حبيس عقولنا.. وكلماتنا التي لا نريدها مجرد حبر على ورق.. كل هذا يحتاج منا الكثير لنناقشه ونسعى لتطويره..
لن ينتهي الحصار إلا بانتهاء الانقسام وإلا سيكتب التاريخ عنكم ذات يوم قريب أنكم ما كنتم سوى أعداء في ثوب حمل.. فهلا كففتهم هرائكم عنا..!!

* كاتبة صحافية - قطاع غزة - فلسطين

www.deyaralnagab.com