logo
الشباب يتجاوزون "فتح" و"حماس"!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 09.03.2011

إن واحدة من أهم الرسائل المدوية للثورات العربية الراهنة تكمن في قلبها الشبابي النابض الرافض والمتمرد على كل الصيغ التقليدية للسياسات المتكلسة التي أودت بالوطن العربي ودوله ومجتمعاته. ومن لم يلتقط هذه الرسالة حتى الآن خسر وسوف يخسر أكثر. في التحليل السوسيولوجي والسياسي للمجتمعات العربية في مرحلة ما قبل الثورات كان الاهتمام يتركز على قوى أساسية كان يُظن أنها المتحكمة في حركة السياسة بل والتاريخ العربي المعاصر. وهذه القوى هي الأنظمة الحاكمة، والغرب، والإسلاميون بمعتدليهم ومتطرفيهم، والأحزاب التقليدية العلمانية واليسارية، ومنظمات المجتمع المدني، والبنية القبلية. ومعظم ما كُتب من تحليلات أكاديمية أو صحفية أو تقدير موقف كانت تحوم حول قراءة هذه القوى وتوزع أحجام القوة والتوقعات والسيناريوهات المستقبلية بناء على المعطيات المرتبطة بها. أما الشريحة أو القوة التي أهملت فكانت الأغلبية المدنية الصامتة التي لم يندرج تسيسها بالمعنى الكامل للكلمة في إطار أي واحدة من القوى التقليدية تلك. كانت الأغلبية الصامتة محط استهتار شبه دائم، وإهمال مقصود أو غير مقصود، وتُرى بكونها موضع التأثير المباشر لأي من تلك القوى ومجرد تابع عريض يتسم بمحدودية الوعي وبعدم الاكتراث السياسي.
وما كشفته الثورات العربية هو خطل تلك التحليلات إذ تبين أن الحراك الأهم والتفاعل الأكثف والتراكم التاريخي الحقيقي كان يحدث في قلب تلك الأغلبية التي نادراً ما تم تحليل مكوناتها بشكل دقيق. وتبين أن الشريحة الشبابية العريضة التي تشكل العمود الفقري لتلك الأغلبية، والتي ابتعدت عن التخندق الحزبي والأيديولوجي التقليدي، كانت متسيسة حتى النخاع وإن لم تكن مؤدلجة. وتبين أيضاً أنها شريحة ثورية وعميقة الوعي ومدركة لذاتها ومجتمعاتها وللعالم من حولها، وتفاقم توقها للحرية والكرامة بترسخ وتدرج وئيد أوصلها إلى نقطة الذروة التي حال الوصول إليها تستحيل العودة إلى الوراء. وتلك النقطة هي أيضاً الحد المدهش لتجاوز عتبة الخوف التي تم كسرها بلا تردد وبعبقرية الحراك السلمي والمنظم وعالي التقنية.
إننا الآن نعيش في قلب هذه اللحظة التاريخية الشبابية التي انفجرت في وسط الأغلبية التي ما عادت صامتة، وقد التفت حول المطالب الشبابية بالحرية والكرامة واحتضنتها. وكل القوى التقليدية المذكورة تفاجأت بذلك الانفجار الذي جاء من حيث لم يحتسب أحد. والأنظمة المهترئة على وجه التحديد لم تكن تتوقع ذلك وأجهزتها القمعية غير مستعدة وغير مدربة لمواجهته. فتلك الأجهزة معدة لقمع انقلابات عسكرية، أو تمردات مسلحة، وليس ثورات جماهيرية سلمية سلاحها الوحيد الإرادة ووسائلها التقنيات الإعلامية الحديثة. وثورية الثورات العربية الجديدة تكمن أيضاً في تسيسها البالغ وغياب الأيديولوجيات. فهي ليست ثورات مطلبية تبحث عن فرص عمل وتحسين الشروط المعيشية على رغم مركزية ذلك كله وربما اشتغاله كشرارة للانطلاق. ذلك أنها سرعان ما تحولت إلى ثورات سياسية تطالب بإسقاط هذا النظام أو تغير ذلك بجرأة غير مسبوقة وضد أنظمة بوليسية شرسة.
في فلسطين وكما في الحالات العربية الأخرى كانت القوى المؤثرة في المصير الفلسطيني محط النظر والتحليل هي تلك التقليدية: إسرائيل، الغرب، "فتح"، "حماس"، التنظيمات اليسارية والعلمانية، ومنظمات المجتمع المدني باختلاف أنواعها ونشاطاتها. وفي السنوات الأربع الأخيرة تكلست السياسة الفلسطينية على خلفية الانقسام المدمر الذي خدم إسرائيل وجمد الوضع الفلسطيني وأحبط الفلسطينيين في الداخل والخارج. لم تستطع "فتح" و"حماس" تجاوز مصالحهما الحزبية وتقديم المصلحة الوطنية والمواجهة مع إسرائيل وبدا وكأن الانقسام طريق باتجاه واحد هو الترسخ والتكريس، وصار الإحباط والتشاؤم هو عنوان المرحلة. وكما أن المفاجأة في كل الثورات العربية جاءت من شريحة الشباب المتمردة على أوضاعها يبدو التغيير في فلسطين يؤول إلى أيدي هؤلاء الشباب والشابات. فإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الأمران اللذان صارا مؤخراً آخر اهتمامات "فتح" و"حماس" هما الآن الأجندة السياسية المرحلية للحركة الشبابية الواسعة التي تستجمع قواها لتفرض الوحدة الوطنية بقوة الإرادة الشعبية وتكنس كل من يقف في وجهها. هي أجندة مرحلية لأن الشعار الأوسع والناظم لهذه الحركة سيكون قريباً إنهاء الاحتلال.
لن تستطيع "فتح" و"حماس" من اليوم فصاعداً مواصلة سياسة التلكؤ واحتكار صناعة القرار الفلسطيني بحسب ما تمليه اشتراطات التنظيم والمصلحة الحزبية. شعار "فلسطين أكبر من الكل" الذي يصدح به شباب فلسطين الآن أوقع على الوجدان الفلسطيني من أي شعار حزبي آخر. وصفحات "الفيسبوك" والتواصل الإعلامي التي يستخدمها الشباب صار بإمكانها أن تحشد في الشارع ألوف الشباب من الشريحة التي لا تُحشد من قبل أي تنظيم آخر، وأوجدت مساحة لا حدود لها. ومعنى ذلك أننا بصدد تحول كبير في طبيعة التسيس الفلسطيني وديموغرافيته وتوجهاته الحزبية الأساسية. وهناك طبقة قيد التشكل هنا كما هي قيد التشكل في كل حالات الثورات العربية قوامها تجاوز الصيغ التقليدية والأحزاب الكبيرة والتكلس الذي يرافقها والطروحات التي تقود إلى مآزق ولا تعترف بعجزها عن اجتراح حلول لما تورط فيه مجتمعاتها. وليس ثمة حل أمام القوى التقليدية، وفي الحالة الفلسطينية "فتح" و"حماس" على وجه التحديد، سوى أن تنفض نفسها ثوريّاً أيضاً وتتحلى بالشجاعة والجرأة في تغيير توجهاتها الأساسية وإلا فإن حركة الشارع المتراكمة ستتجاوزها. وفي هذه الحالة أيضاً فإن أهم ما تحمله حركة الشارع في اللحظة الحالية يكمن في شعار إنهاء الانقسام فوراً ومن دون تلعثم واشتراطات أضرت بالشعب وبقضيته ووحدته ووجدانه وخدمت عدوه. ما عاد قرار الإبقاء على الانقسام أو إنهاؤه قراراً تنظيميّاً بيد "فتح" و"حماس"، إنه ينتقل تدريجيّاً ليصبح بيد الحركة الشبابية التي ستفرضه فرضاً على الجميع. ونرى كيف فعّلت هذه الحركة موضوع المصالحة وصرنا نسمع عن مبادرات مطروحة وأخرى قيد الطرح حتى قبل قدوم يوم الحشد والتظاهر الذي أعلنته في 15 مارس للخروج إلى الشوارع في الضفة الغربية وقطاع غزة. وعلى صدور هؤلاء الشباب والشابات تعلق فلسطين وسام التفاؤل الذي تاق إليه الشعب طويلاً، وآن لشمس البلاد أن تصقله من اليوم فصاعداً كي يعيد الحياة والحراك باتجاه الشعار التالي والأهم وهو إنهاء الاحتلال.


www.deyaralnagab.com