logo
قطار النفق المظلم

بقلم : رشاد أبوشاور ... 6.6.07

قبل ثلاثين سنة تقريباً بدأت كتابة مسرحيّة بعنوان (القطار ماشي غلط). أنهيت الفصل الأوّل عن (ناس) ينتظرون في العتمة قدوم القطار الذي سينقلهم إلي حيث يجب أن يعودوا. يتوقّف (قطار) في محطة الانتظار، ومن جوفه يتقافز أشخاص يحثّون المنتظرين علي الإسراع في الصعود للعربات قبل فوات الأوان، دون أن يعلموا المنتظرين بوجهة القطار...
تطول رحلة القطار الذي يقطع المسافات في عتمة لا تنتهي. هدير وضجّة وجلبة، وعجلات تدور، وصافرة منفّرة يرتجف لسماع صوتها النائمون. تطول الرحلة الليليّة والقطار لا يصل، وتبدأ الهمهمة، واللغط، والتساؤل و.. الصراخ، بعد فقدان الأمل بالوصول، وعدم تلقّي أجوبة علي الأسئلة: أين تذهبون بنا؟ أين (قائد) القطار؟ أهذا هو القطار الذي كنّا ننتظره؟!
هنا أتوقّف.. فالقطار لم يكن يذهب إلي المحطّة التي سهر الناس، وتعبوا، وانتظروا طويلاً لحظة الوصول إليها. قائد القطار والمشرفون المهيمنون في العربات لا يعطون إجابات، والناس لا بدّ أن يفعلوا شيئاً، أن يخرجوا من حالة التذمّر، والأسئلة، والغضب العاجز، والتوجّس غير الفاعل...
لم أكمل المسرحيّة حتي لا أتّهم بالتشاؤم، وكتبت مسرحية (الحلم الفلسطيني) التي قدّمتها فرقة المسرح الوطني الفلسطيني في مهرجان المسرح العربي بدمشق عام 75. الحلم الفلسطيني!.. الذي بدّده السفهاء واللصوص والجهلة وقصار النظر!
القطار الماشي غلط ما زال في النفق، والحلم الفلسطيني يتمزّق من (نهر البارد) وحتّي رفح، مروراً بنابلس وجنين و...
أنا أحد المسافرين الذين لم يكفّوا عن التحذير منذ وقت مبكّر، ولذا أصرخ بالفم الملآن: قائد الرحلة من زماااان تاه وتوهنا، ضاع وأضاعنا، والحّق ليس عليه وحده، فكل من أغدق عليه صفات التفوّق والدهاء، مارس النفاق علي حساب الرحلة والمسافرين والهدف، لينعم برفاهية الدرجة الأولي، في رحلة تيه مخيفة.
قطارنا منذ زمن بلا قيادة، وقوده من دمنا ودموعنا ومعاناتنا، ونحن أحيانا حرصا وخشية من استغلال (كّل) أعدائنا الذين سمّموا حياتنا، وغرّبونا، وقطّعوا أوصالنا، نداري الأخطاء، ونكظم غيظنا. نحن لا نسمّي الأشياء بأسمائها، بحجّة عدم نشر غسيلنا ـ هو غسيلهم هم ـ الوسخ!.
من الذين يقودون شعبنا هذه الأيّام؟ من هم بالضبط؟ وإلي أين يأخذوننا؟ ولماذا تتفاقم مآسينا في ظّل قيادتهم؟ولمصلحة من يعملون؟ ومن يوجههم، ويمولهم ويحرضهم علي التخريب والعبث؟!
قطارنا الآن ليس برأسين، ففتح نفسها بلا رأس، بلا قيادة، بلا مرجعيّة. من أوصلها إلي حالة التحلل والتفكك، وصيّرها رهينة (أمراء) الأجهزة، الطامعين الطامحين لوضع اليّد علي مقدرات الشعب الفلسطيني بعقلية تآمرية انقلابيّة تستمّد أسباب بلطجتها من جهات معادية لشعبنا الفلسطيني؟ (اقرأوا ما كتب في الأهرام العربي بتاريخ 26 أيّار (مايو)، ونشرته عدّة مواقع عن دور المتحكّم بأجهزة الأمن، وارتباطاته).
حماس التي فازت في انتخابات التشريعي لم يسمح لها أن تصحح مسار أوسلو، وأن تنجح في محاربة الفساد، وهي تحسب أن الإمساك بالسلطة سيتيح لها أن تكون العنوان والمفاوض الذي ستضّطر أمريكا و (إسرائيل).. للجلوس معه علي طاولة المفاوضات!.
هذا لن يكون، فالحصار، والقبض علي عناصر التشريعي والوزراء من حماس، تبرهن علي أن قادة (إسرائيل) ينجزون ما يعجز عنه الاقتتال الداخلي.
كم بقي من أعضاء المجلس التشريعي الحمساويين، وأعضاء البلديات، والوزراء.. خارج السجن؟ والحبل علي الجرار.
القطار ماشي غلط، تتفشّي فيه الفوضي، اليأس، والإحباط، وانعدام الثقّة، ومع ذلك فالصراع يتواصل بين الواهمين المتصارعين علي سلطة.
ماذا نسميها؟! لم تبق أرض للتفاوض عليها، تصلح أن تكون دولة فلسطينيّة مستقلّة!. لم تبق قدس شريف لا فوق الأرض ولا تحتها! لم تبق مياه! لم تبق حقول!.. فقط موت يومي من غزّة إلي نابلس.. ولا مقاومة حقيقيّة، فشعب المقاومة المقاوم العريق حامل راية الثورة العالميّة تستنفد طاقاته في البحث عن رغيف الخبز. شعبنا مسخت صورته ـ أين المنقذون! ـ وانحطّت علاقاته فصار عشائر تتحكّم بأنفاق تؤجّرها، تختطف خاوة، لها ميليشيات تهرّب المخدرات بدلاً من السلاح والدواء.
التقوا في (مكّة)، أقصد في رحاااااب مكّة، ووقّعوا بخشوع علي الاتفاق الذي يحرّم الاقتتال، وشكّلوا حكومة.. فتفجّر الاقتتال الدموي بعد أيّام، ولم يفكّ الحصار، ولا انتشر الأمن في القطاع، ولا تحددت الأهداف. انفجر الاقتتال بين رؤوس الأجهزة الذين استولوا علي فتح، والقوات التنفيذيّة التابعة لحماس. رؤوس الأجهزة الذين اختطفوا فتح همّهم اختطاف السلطة، استعادتها بمنطقهم التحريضي التعبوي للتابعين لهم.
ثمّ من جديد يهرولون إلي (القاهرة)، فمصر هكذا تستعيد (دوراً) اختطفته منها السعوديّة! أمّا نحن الشعب الفلسطيني فدورنا يتلاعب به المتصارعون الذين ضيّعوا الطريق الحقيقي: طريق المقاومة.. الذي لا طريق غيره يضيء نفق التيه، وينهي أكذوبة السلطة البائسة التي أنهك الصراع عليها طاقات شعبنا، وألحق بنا افدح الخسائر.
قادة الكيان الصهيوني، صباح مساء، يعلنون عن تفاصيل خططهم لتدمير حياتنا، يصدرون أحكام الإعدام علي (المسؤولين) الفلسطينيين المنشغلين في صلاحيات وزارة الداخليّة ـ أحيي الوزير القواسمي الذي استقال وأدار ظهره للوزارة الكذبة ـ وتبعية رؤساء أجهزة الأمن، الأمن الذي رجاله يعدّون بالألوف.. ولا أمن لغزّة!
لا جواب من أي طرف، لا جواب واضح علي السؤال: إلي أين تأخذوننا، وماذا تريدون، وما هي أهدافكم بالضبط؟!
شعبنا الفلسطيني لم ينتخب قيادته عند انطلاقة (الثورة) عام 65، فهو وثق بها لأنها حددت الهدف والوسيلة لبلوغه. محضها تأييده والتّف حولها لأنها مقاومة، لأنها حملت السلاح وقاومت.
أمريكا والكيان الصهيوني... لن تفاوض أي طرف يتمسّك ببعض حقوق الشعب الفلسطيني: دولة فلسطينيّة مستقلّة بسيادة كاملة كأي دولة محترمة، عاصمتها القدس، والتشبّث بحّق العودة...
ياسر عرفات الذي ورّطنا في (أوسلو) قتل مسموماً لأنه لم يقدر علي التنازل عن القدس، والقبول بدولة وهميّة، وهو في آخر أيّامه أسّر للمحاصرين معه في المقاطعة: مشروعنا في السلام فشل!.. وللأسف، فهو لم يتّخذ القرار الجسور بعد وصوله لهذه القناعة.
كيف ستعطي (إسرائيل) لحماس انتصاراً لم تعطه لعرفات بكّل تنازلاته؟! هل يكفي فوز حماس في التشريعي لتبادر الإدارة الأمريكيّة و (إسرائيل) للتفاوض معها احتراماً لنتائج الانتخابات الديمقراطيّة؟!
هم لن يمنحونا دولة فلسطينيّة إلاّ عندما يتوصلون إلي القناعة بفداحة خسائرهم، إن لم نحصل علي حقوقنا التي تكفلها لنا الشرائع والقوانين الدوليّة، التي يدير الكيان الصهيوني ظهره لها.
إذا كنت أري بأن فتح تفككت وتحللت ـ وهذه خسارة لشعبنا ـ وتحتاج لمعجزة لبناء نفسها والنهوض من جديد، هي التي قادت شعبنا لعقود، وكانت حركة شعبيّة عارمة، وآلت حالها إلي تحكّم رؤساء أجهزة الأمن بمسيرتها والعبث بتراثها، فإنني أري أن حركة حماس التي انبثقت من رحم الانتفاضة الكبري الأولي، وحظيت بكّل هذه الجماهيريّة بالمقاومة المسلّحة، وبالعمل الجماهيري الميداني، قد ضلّت الطريق بتشبثها بالسلطة، فسلطة المقاومة بكّل أبعادها وجوانبها هي التي تدوم، والتي بها نصحّح رحلة قطارنا، ونضع القيادة المجرّبة الأمينة الكفوءة في عربته الأولي. هنا أنبّه بأنني أرفض أن تسلّم حماس السلطة للفاسدين مكافأةً لهم علي فسادهم، وتخريبهم.. لا، أنا وغيري ندعوها لمقاومة تتجاوز السلطة، وتنهي هيمنة رموز فسادها، وإفرازاتها، وأمراضها، وتطوي حقبة الفاسدين الذين لن يجدوا لهم مكاناً في أوساط الشعب المقاوم، فالمقاوم والمقاول لا يلتقيان علي أرض واحدة، في حركة تحرر واحدة، في وحدة وطنيّة محددة الأهداف والوسائل.
في محطّة مكّة لم يتزوّد قطارنا لا بالتموين، ولا بخطّة السير، ولا بالبوصلة ـ لا ننكر الدعوات الطيبات، ومظاهر الورع والخشوع.. لزوم الكاميرات والفضائيات ـ ومن محطة القاهرة.. التي توقفنا فيها أكثر من مرّة لم نفز بغير المزيد من الضياع والتيه، والتيئيس، وتكاثف الظلام، وقفز لصوص القطارات إلي عربة القيادة، وهيمنة عقليّة الحلول الأمنيّة المؤقتة التي تفاقم تيهنا وضياعنا.


www.deyaralnagab.com