شباب ميدان التحرير: مرحلة "العرب الجدد"!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 14.02.2011
لم يمض يوم على انتصارهم التاريخي المُبهر حتى كان شباب ميدان التحرير ينطلقون في مجموعات كبيرة لتنظيف الميدان من كل النفايات التي تراكمت فيه خلال أيام الثورة. وكانت الرسائل الكثيفة على "تويتر" و"الفيس بوك" وما تزال حتى هذه اللحظة تقول إن مرحلة البناء قد بدأت، وإنها لا تقل أهمية عن مرحلة الثورة. هؤلاء الشباب ليسوا مؤدلجين ولا تحركهم تيارات سياسية، بل يحركهم حب مصر وشعور متدفق بالمسؤولية المُدهشة. هؤلاء الشباب كشفوا عن طبقات عميقة في الوطنية والتضحية والاستعداد لعمل المستحيل، مدمرين كل النظريات والمقولات التي كانت تقول إن الشرائح الشبابية في العالم العربي غير مبالية، ومتغربنة، ولا يهمها سوى القشور من الحياة. ولكن في ميدان التحرير وفي كل مدن مصر، وقبلها في كل مدن تونس، تجاوز الشباب كل التحليلات والتوقعات وقادوا الجميع نحو حقبة جديدة ستكون، إن نجت من الإجهاض والتآمر عليها، حقبة "العرب الجدد"، مختلفة في النوع والإرادة والتصميم واعتناق الحرية. وليست في هذا مبالغة أو تفكير رغائبي أو تضخيم للأمور. فبعد هذه النقطة لن تكون ثمة عودة للوراء بالمعنى السياسي والسيوسيولوجي، فشكل التراتبية السلطوية الذي استمر لما يُقارب ثلاثة أرباع القرن في العالم العربي يشارف على الانتهاء. وعلى أساس تلك التراتبية المُتلخصة في تحكم نخب ضيقة بمصير شعوب مليونية عريضة تشكلت السياقات المحلية والإقليمية وبُنيت مداميك العلاقات الدولية مع الخارج، وتم صوغ شبكات المصالح، والاقتصاد، والولاءات، وطبقات التحالف السياسي. والمعلم الأساسي للشكل الجديد، الذي سيأخذ سنوات حتى يكمل تبلوره النهائي، هو التخلص التدريجي من الديكتاتوريات والاندراج في أنماط حكم جديدة جوهرها احترام إرادة الشعوب.
عمليّاً وتاريخيّاً، وبتجاوز تفاصيل وجزئيات كثيرة، كان هناك لاعبان أساسيان يُحددان مسارات وبوصلات المنطقة وبلدانها: النخب السلطوية والغرب. وكان الغائب الأكبر هو الشعوب ورأيها العام وتأثيرها. والنخب السلطوية التي قامت في معظمها على اغتصاب الحكم والمُتهمة في شرعيتها نظرت دوماً بريبة وشك إلى شعوبها، واستقوت بالدعم الخارجي لتعوض النقص الكبير في الشرعية والدعم الداخلي. أما الغرب الذي كان جل همه تأمين مصادر طاقته وتوفير أمن إسرائيل فقد داس على كل القيم التي يدعو لها من حريات عامة وسياسية وحقوق إنسان، وتحالف على أنقاض ذلك كله مع النخب الديكتاتورية على حساب شعوبها. وقاد ذلك التحالف الذي امتد أكثر من ستة عقود إلى تراكم الغضب والحنق الشعبي فوق بعضه البعض، مؤشرا إلى انفجارات قادمة بات يتوقعها الجميع. والمهم هنا هو أن السياسة محليها وإقليميها ودوليها كانت تُصاغ وتنفذ وكأن البلدان العربية في هذه المنطقة لا شعوب فيها عندها مصالح، ولها أمزجة، ولها طموحات. وكل شيء تقريباً كان يتم من وراء ظهر تلك الشعوب وفي الغالب الأعم على الضد من إرادتها، ومن دون الإصغاء لنبضها أو لرأيها العام. والشيء المهين الإضافي الذي لحق بشعوب العرب أن الرأي العام لجيرانهم، ولمحتليهم أيضاً في إسرائيل، كان هو البوصلة التي تقود حكومات وسياسات الدول فيها. وتوجهات الرأي العام معبراً عنها بديمقراطيات متعددة الأشكال هي ما يُفترض أن يرسم جداول أعمال الحكومات والأنظمة -في كل العالم إلا في دولنا العربية. وفي مسألة واحدة من مسائل التفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين، وهي المطالبة بتجميد الاستيطان، رضخت واشنطن مع الاتحاد الأوروبي و"المجتمع الدولي" أمام صلف نتنياهو الذي احتمى بالرأي العام الإسرائيلي ومزاج الناخبين. وتركيا الحليفة التاريخية للولايات المتحدة في المنطقة والعضو في حلف "الناتو" رفضت استخدام واشنطن لأراضيها وقواعدها العسكرية خلال غزو العراق عام 2003، لأن الرأي العام التركي كان ضد ذلك معبراً عنه بقرار من البرلمان. والرأي العام الأميركي يناصر بوش في حربه ضد العراق، ثم يغير رأيه وينتخب أوباما، وكل ذلك في انتخابات دورية ثابتة ولا يتعدى أي زعيم مهما بلغت عبقريته وإلهامه فترة الثماني سنوات في الحكم. أما الرأي العام الوحيد المُداس عليه واللامكترث به فهو رأي مئات من ملايين العرب ممن يتقرر مستقبلهم بعيداً عن تأثيرهم ومساهمتهم.
ومن هنا فإن جوهر التغيير الذي جلبته ثورتا تونس ومصر يقع في هذه النقطة بالضبط: إعادة الشعوب ورأيها العام إلى قلب معادلة الاجتماع السياسي والقيادي في دولها، أسوة ببقية شعوب المنطقة والعالم. وهو تغيير لم تجلبه انقلابات عسكرية تأتي على ظهور دبابات وتستولي على الحكم مستبدلة استبداداً بآخر. وهو تغيير لم تجلبه تدخلات خارجية تضع التغيير الحادث في سياق ولادة قيصرية غير طبيعية ومفتعلة، وتنهكه بأثقال الشبهات والشكوك. وهو تغيير غير مؤدلج لا يستطيع أي من التيارات السياسية المعارضة أن يزعم قيادته أو إطلاقه. هو تغيير شبابي تقوده أجيال الشباب الذين تبلورت علومهم وخبراتهم في عالم اليوم المتعولم فتجاوزوا أجيال آبائهم وحكوماتهم التي لا تدرك أساساً كيف يفكر هؤلاء الشباب وما هي مطامحهم، لأنها تنتمي إلى جيل تقادم وعالم آخر تماماً.
إن منجزات الإصلاح السياسي والدمقرطة الحقيقية توفر على البلدان والشعوب أكلافاً باهظة، بشرية ومادية. كما أنها، بالتعريف، تتيح فرصة المحافظة على ما تم إنجازه والبناء عليه، مع الانتهاء من الفساد الكامن والسياسات العفنة التي يتم توكيل آليات المحاسبة الديمقراطية التخلص منها. ولكن إن لم يتم ذلك فإن الثورات معدية ونجاحاتها مغرية والأجواء مهيأة لها، كما أن إعلام اليوم المعولم ينحاز فوراً إلى الشعوب وهبّاتها. وقد شهدنا كيف أن كل آليات القمع الأمني والإعلامي والضبط والرقابة في تونس ومصر لم تستطع إيقاف الطوفان الإعلامي العالمي بكل آلياته وتقنياته عن الاصطفاف إلى جانب الثائرين. وقد لا تندرج سبحة الثورات العربية مباشرة بعد مصر، وقد تأخذ نفساً واستراحة، ولكنها سوف تنفجر ولو بعد حين لا محالة، لأن نفس الأسباب التي قادت إلى الثورة في مصر، ومن قبلها في تونس، موجودة في أكثر من بلد عربي. وينبغي ألا تقوم النخب الحاكمة بخداع ذاتها والقول إن الظروف التي أدت إلى الثورة هنا أو هناك تختلف عن ظروف "بلدنا"، أو الاتكاء على أن الأوضاع الاقتصادية والبطالة هناك كانت سبباً رئيسيّاً، فيما هي تغيب "هنا". إن هذا إيهام للنفس لأن جوهر الاحتقان الشعبي العربي ومحرك الثورة فيه كان السياسة وليس المطالب الاقتصادية والحياتية، على أهمية هذه الأخيرة. وكان الجوهر مطلباً سياسيّاً يتعلق بالمشاركة السياسية والمساهمة في صنع الحاضر والمستقبل والدمقرطة والحرية. وهذا ما انتهت إليه الشعارات التونسية والمصرية، وما يردده الآن طلائعيو الثورات القادمة في معاقلهم "الإنترنتية" على "الفيس بوك" وفي منتديات الحوارات التي لا تعد ولا تحصى. وهو السطر الأول الذي سجله شبان "العرب الجدد" بتضحياتهم وشجاعتهم العظيمة.
www.deyaralnagab.com
|