logo
مهلاً يا "مجاهدي" الماوس والكي بورد!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 13.03.2011

لا يمكن لأحد بكامل عقله إلا أن يحيي ويقف إجلالاً وإكباراً لثورة الاتصالات المباركة التي حررت الشعوب من سطوة الإعلام الموجه ذي الاتجاه الواحد، وجعلت كل فرد يمتلك جهاز كومبيوتر أو موبايلاً وحساب إنترنت ناشراً بامتياز، بعد أن كان مجرد نشر جملتين في صحيفة حلماً بعيد المنال بالنسبة لملايين البشر.
ولا يمكن في الآن ذاته أن ننكر الدور الإيجابي الذي لعبته مواقع الاتصال الاجتماعية كالفيس بوك وتويتر في تنظيم الثورات الشعبية التي حدثت في تونس ومصر وليبيا اليمن والأردن والبحرين والكويت والتي ستحدث قريباً في بلدان عربية أخرى كثيرة. وقد تعجب أحد الخبراء الإعلاميين الأمريكيين قائلاً: "لقد اخترعنا فيس بوك في أمريكا ليكون وسيلة للتواصل الاجتماعي بين الناس لا أكثر ولا أقل، فإذ بكم أنتم العرب تستغلوه خير استغلال لتنظيم الثورات".
كما يجب التنويه بدور مواقع الفيديو الشهيرة كيوتيوب وغيره في رصد الثورات بالصوت والصورة وتوفيرها لبقية وسائل الإعلام، خاصة في الدول التي لا يمكن فيه للفضائيات أن تغطي أحداثها بسبب الرقابة الصارمة. وكما هو معروف فقد نجح الكثير من الشباب في تصوير أحداث تونس وغيرها بالموبايل ليتم إرسالها لاحقاً إلى يوتيوب وغيره كي تكون شاهداً موثقاً على تلك الثورات وأحداثها.
لكن مهلاً قليلاً، فمن الظلم الفادح أن يذهب بنا الحماس بعيداً لنعزو تلك الثورات العظيمة للفيس بوك، ففي ذلك طبعاً الكثير من المبالغة والتهويل السخيف لأسباب موضوعية كثيرة.
أولاً الدول العربية ليست كأمريكا في استخدام الإنترنت، فبينما يدخل إلى الشبكة العنكبوتية في الولايات المتحدة أكثر من ثمانين بالمائة من الشعب الأمريكي، فإن نسبة استخدام الإنترنت في العالم العربي متدنية للغاية ليس مقارنة بأمريكا بل حتى ببلدان العالم الثالث الأخرى. فعدد سكان مصر البالغ أكثر من ثمانين مليون نسمة لا يشكل مستخدمو الإنترنت فيها سوى نسبة ضئيلة للغاية. وفي سوريا لا يتجاوز عدد مستخدمي الإنترنت ثمانمائة ألف شخص من أصل أكثر من ثلاثة وعشرين مليون شخص. وحدث ولا حرج عن بلدان المغرب العربي والسودان والصومال. ولا أبالغ إذا قلت إن ملايين العرب في تلك البلدان لا يعرفون معنى فيس بوك، فما بالك أن يكون لهم حساب فيه، ناهيك عن أن شراء جهاز كومبيوتر يعتبر بالنسبة للسواد الأعظم من سكان مصر وغيرها حلماً بعيد المنال. لا بل إن بعض الدول تقدم قروضاً للطلاب يدفعونها على مدى سنوات من أجل شراء لاب توب.
وبناء على ذلك، لا يمكن القول إن ثورة مصر العظيمة أنجزها شباب الفيس بوك. لا أبداً هذا كذب بكذب ومجافاة للحقيقة. لقد خرج في المدن والقرى ملايين المصريين من عمال وفلاحين وسكان المقابر والعشوائيات والصعيد. ولا أعتقد أن هؤلاء خرجوا وشكلوا ثقلاً ثورياً عظيماً بفضل الفيس بوك المزعوم. وأنا على يقين أن معظمهم لا يعرف معنى الفيس بوك. وقد أخبرني ثائر ليبي أن العديد من الثوار الليبيين الذين يناضلون الآن في ساحات الثورة لم يدخلوا يوماً موقع الفيس بوك أو غيره. صحيح أن بعض الليبيين في الخارج فتح صفحات على فيس بوك، ودعا فيها للثورة، لكن العبرة ليس في نضال الماوس والكي بورد.
ولو سلمنا جدلاً أن الفيس بوك لعب بعض الدور في الثورات، لكن علينا أن نسأل: أليست خدمة الإنترنت في العديد من الدول العربية خدمة بطيئة، وتعل القلب في كثير من الأحيان، مما يجعل مستخدميها يضيقون ذرعاً في مواصلة الاستخدام، خاصة وأنه في بعض البلدان العربية التي يطبلون ويزمرون فيها لتأثير "الجهاد الالكتروني" من الأسهل أن تسافر إلى لندن لتوصيل رسالة على أن ترسلها عبر البريد الالكتروني بسبب سرعة الانترنت السلحفاتية المقصودة.
ومما يبعث أكثر على الضحك، أن بلداً مثل تونس التي يعود لها الفضل في إنجاز أول ثورة عربية مباركة كان بن علي يخنق التواصل الإلكتروني بوحشية عز نظيرها، لا بل إنه أنشأ وزارة خاصة بالإنترنت، واشترى أجهزة كومبيوتر عملاقة بملايين الدولارات كي يتحكم بخدمة الإنترنت وبمستخدميها. بعبارة أخرى، فإن الشباب التونسي كان يعاني الأمرين في تعامله مع الشبكة العنكبوتية، مما يؤكد أن الثورة التونسية لم تنجزها الإنترنت ولا فيس بوكها المزعوم. وإن حدث فبدرجات ضئيلة جداً.
وحدث ولا حرج عن جمهوريات الخوف الأخرى التي تأخذ بطاقة الهوية من كل شاب يريد الدخول إلى مقهى إنترنت كي تراقبه وترهبه، بحيث يصبح مجرد الدخول إلى موقع إلكتروني محجوب جريمة تودي بمرتكبها إلى غياهب السجون لعشرات السنين. وحدث ولا حرج عمن يفتح مدونة، أو يكتب عبارة معاتبة لهذا الرئيس أو ذاك، فمصيره جهنم أقبية وزارات الداخلية دون أدنى شك.
والمضحك في الأمر أيضاً أن البعض يتشدق بتأثير الفيس بوك وغيره، ثم يشتكي من حجبه. فكيف أثر ذلك الموقع في الثورات إذا كان محجوباً أصلاً في بعض الدول، ناهيك عن أن الأنظمة الحاكمة في تونس ومصر وليبيا استطاعت قطع الإنترنت والتحكم بها بجدارة قبيل الثورات وأثناءها، مما جعل التواصل الإلكتروني صفراً. وبصراحة علينا أن لا نبالغ في تأثير الإنترنت من الآن فصاعداً، لأن الحكام يستطيعون قطعها بكبسة زر. ناهيك عن أن وزارات الاتصالات العربية تستطيع أن تلغي كل خدمات التواصل على الهواتف الجوالة أيضاً بكبسة زر، مما يجعل التواصل "الإلكتروني الثوري" المزعوم ضرباً من المحال.
لا أريد طبعاً أن أبدو وكأني أنال من الثورة الإلكترونية لصالح البث التلفزيوني الفضائي، لكن الشمس طالعة والناس قاشعة كما يقول المثل الشعبي. فلولا التغطية التلفزيونية لما أخذت الثورات ذلك البعد العظيم. كم عدد الذين كانوا يتابعون الثورات عبر الإنترنت، وكم عدد الذين كانوا يتابعونها عبر الفضائيات التي كانت تغطي الحدث لحظة بلحظة؟ طبعاً لا مقارنة أبداً.
هل يريد معشر الفيس بوك أن يقول لنا إن الملايين التي أسقطت الطغاة العرب خرجت تحت تأثير الفيس بوك أو تويتر؟ فعلاً كذبوا الكذبة وصدقوها.
إن أكبر دليل على أنها ثورة فضائيات بالدرجة الأولى أن أي حراك شعبي في أي بلد لا تسلط عليه الفضائيات المؤثرة الضوء سيموت في مهده. وكم من البلدان العربية تشهد الآن حراكاً وتململاً وحتى مظاهرات وبوادر ثورات، لكنها لا تحظى بالتغطية التلفزيونية اللازمة بسبب التركيز على الثورة الليبية المتصاعدة، وبالتالي لن تتطور كثيراً وربما ترواح مكانها، إذا لم تخمد وتـُنسى.
قد يقول البعض إن الفضائيات اعتمدت في بعض الأحيان على الصور التي بثتها الإنترنت, وهذا صحيح. لكن لو لم تعد الفضائيات بث صور الإنترنت لظل تأثير تلك الصور محدوداً جداً.
لم أسمع حتى الآن أناساً من البلدان العربية التي تشهد بعض الحراك الشعبي يشتكون من قلة التغطية لحراكهم في الانترنت أو على صفحات فيس بوك، لكنهم غاضبون جداً من الفضائيات التي يزعمون أنها لا تعير حراكهم الاهتمام الإعلامي المطلوب. بعبارة أخرى فالعتب موجه في التقصير ليس للإنترنت بل للفضائيات. فهي التي تحرك الثورات فعلاً من خلال الصورة والكلمة المسموعة اللتين ما زالتا بالمفهوم الإعلامي حتى الآن أقوى من أي سلاح آخر. ناهيك طبعاً عن أن السواد الأعظم من الشعوب تتابع التلفزيون بنسب مهولة لا يمكن مقارنتها أبداً "بشوية العيال" الذين يتابعون الإنترنت. ولا أبالغ إذا قلت إن تقريراً تلفزيونياً واحداً عن هذا البلد أو ذاك يساوي في تأثيره تأثير كل المواقع الإلكترونية التي يتابعها العرب مجتمعون. حتى أن البعض علق قائلاً: سنؤجل مظاهراتنا لأن الفضائية الفلانية مشغولة بتغطية ثورة أخرى.
كتب مارك لينش، المحاضر في جامعة جورج واشنطن والمتخصّص في وسائل الإعلام العربية: "قد لا تكون الفضائيات سبب هذه الثورات، لكن من المستحيل الاعتقاد أنّ كلّ ما حصل كان يمكنه أن يتحقق من دونها".


www.deyaralnagab.com