العقيد الركن الفنّان (أبوعلي)
بقلم : رشاد أبوشاور ... 20.6.07
شخص مقنّع، وجهه ورأسه وعقله غارق وملفوف بالسواد، ضمن الجنّة بتسديد فوهة بندقيته الكلاشنكوف ـ التي ارتبط اسمها ومجدها بالفدائي الفلسطيني قبل أن نري هؤلاء المقنعين ـ وأفرغ رصاصها في رأس العقيد الركن نصر عبد الرحمن أبوشاور ...
تلفزيون (الأقصي) الإقصائي الذي يبّث من غزّة، يعلن حكم الإعدام، ويأمر بقتل العقيد أبوعلي! دون تهمة، ودون محاكمة، أهذه هي العدالة الموعودة؟!. (بثّ هذا التلفزيون مشاهد إعدام في الشارع، والتمثيل ببعض الجثث.. مباشرة علي الهواء، بالترافق مع توزيع الحلوي، والصلاة، وحفلات تشويه جماعيّة للجثث ..هل حدث من قبل أن المسلمين شوّهوا جثث المشركين الذين قاتلوهم؟! ).
نصر هذا ابن عمّي، وصديقي، وزوج شقيقتي.ولد في مخيّم النويعمة قرب أريحا عام 1958. والده عبد الرحمن، جدّه مرشد:عجوز من قرية ذكرين رفض الخروج من القرية، ومرّغ وجهه بتراب (حاكورته)، واستجاب الله لدعائه بأن يأخذ روحه علي أرضه، فمات ودفن هناك في ذكرين، القرية المتواضعة من قري الخليل.
أمّه مليحة، قضت عمرها وهي تنقل بنادق الثوّار منذ عام 36، وتحرس نومهم في المغاور، وتشارك في التظاهرات بعد النكبة، وتركض وراء إبنها البكر أحمد في السجون، وتعني بي أنا الذي رحلت أمي وشقيقتي وتركتاني وحيداً مع أب بدأ رحلته النضاليّة مع عبد الحليم الجيلاني (أبوزياد الشلف) بطل وقائد الثورة في منطقة الخليل.
نصر هذا تخرّج من الكليّة العسكريّة ضابطاً في جيش التحرير الفلسطيني. قاتل في بيروت عام 82 مع قوّات (بدر) التي تحرّكت من الأردن، وعبرت الحدود السوريّة إلي لبنان، ووصلت بيروت تحت القصف متحديّة الخطر.
نصر هذا في بيروت، طلب موافقتي علي الزواج من إيمان شقيقتي، فباركت له، ما دامت إيمان موافقة ـ كنت زعلاناً منه لأنه ترك دراسة الأدب الإنكليزي في جامعة (البصرة) وعاد إلي الأردن، ولم أكن قد عرفت أنه عزم علي الالتحاق بالكليّة العسكريّة ـ وودعته عند الرحيل من بيروت، فعاد إلي عمّان، وتوجهت أنا إلي تونس لأبيت ليلةًً واحدةً في تونس ومن ثمّ أعود مسرعا إلي دمشق، إيماناً منّي بأننا سنستأنف المعركة.
في بيروت تخندق هو ومجموعته علي مقربة من السفارة الكويتيّة، وجهاً لوجه مع قوّات جيش الاحتلال الذي احتل ثكنة لجيش اللبناني، وأسهموا ببسالة في منع العدو من تحقيق هدفه في الاندفاع إلي عمق بيروت.
نصر توجّه إلي غزّة، و..من ثمّ انتدب للدراسة في الأكاديمية العسكرية للأركان في الجزائر (شرشال)، ليتخرّج برتبة رائد ركن.
في غزّة قاتل مع اللواء الشهيد أبوحميد، ووضع خبراته العسكريّة الميدانيّة والأكاديميّة في خدمة تطوير الفعل المقاوم.
انتماء نصر (أبوعلي) كان دائماً لفلسطين، وهو تصرّف كعسكري محترف بخبرات وروح الفدائي.
أعترف بأنني ألححت عليه في الفترة الأخيرة أن يغادر (غزّة) ولو في إجازة لشهر أو شهرين، قناعةً منّي بأنه لا دور له في هذه الحرب الفوضويّة التي يفجّرها إمّا عملاء تابعون، أو جهلة ضلّوا الطريق واستسهلوا القفز إلي سدّة سلطة وهميّة، هذه الحرب الفتنة المدبرّة، التي لا دور فيها للعقل، ولا للشجاعة، ولا للمروءة، والتي لا يمكن الانحياز فيها لأي من (الطرفين)، ما دامت وجهتك فلسطين.
يومي الأربعاء والخميس و..حتي فجر الجمعة 15 حزيران (يونيو) يوم ولادتي ويا للعجب! ـ تابعت لحظةً بلحظة ما يجري من اقتتال جنوني في غزّة. كان صوت نصر يأتينا مطمئناً: أنا بخير، لن أستسلم بطريقة مذلّة، ولن أغادر ..ديروا بالكم علي (أم علي) والأولاد والبنات (ترك أربعة أولاد، وابنتين).
نادوا عليه بمكبرات الصوت أن يستسلم، فأبي كما يليق بمحارب فلسطيني تعمّد في نار بيروت العظيـــمة، والبقاع، والجبل، ورفح، وغزّة...
قتل مع بعض أبناء الضفّة الغربيّة، بعنصريّة وتمييز لأنهم ليسوا من أبناء عائلات التهريب والاختطاف والبلطجة في غزّة ...
أمنّوه علي نفسه، ومن معه ـ منهم أبوالفهد القيسي ـ بعد أن اصطدموا برفضه الاستسلام والخروج من مقّر (الرئاسة) رافعاً يديه، وبدون ملابسه العسكريّة ..ثمّ غدروا به!
منعوا الصلاة عليه في ثلاثة مساجد، فقط لأنه من قوّات الأمن الوطني ..وبعد جهود حضر رجل دين وكفّنه وصلّي عليه!
يا نصر الحبيب، كتبت الشعر، وأنتجت عشرات اللوحات بالخطْ العربي الجميل، وبالتلصيق (الكولاج)، وتركت أصدقاء سيذكرونك، في غزّة، ورام الله، ممّن حلمت وإياهم بكتابة جديدة لفلسطين: زياد خدّاش، عايد عمرو، ماجد أبوغوش، مهيب البرغوثي...
عنيت بالمنتخبات الرياضيّة، ورعيت كثيراً من الرياضيين، وأعنت أسراً منسيّة مهملة رغم تضحياتها، محاولاً تلافي التقصير الفادح والفاضح، دون أن تعلن، أو تستعرض، أو تتباهي.
وماذا تركت؟!
حتي تكلفة الجنازة :الكفن وبعض الأمور البسيطة لم تتوفّر مع (أم علي)، ولذا تكفّل ابن شقيقتك (نبيل أبوشرف) بإرسال مبلغ يساعد علي دفنك بشكل لائق، ويؤمّن الحليب لطفلتك (لينا) التي ستكبر بدون أب يحملها في حضنه، ويمسّد علي شعرها، ويقبّل أنفها وعينيها وخدّيها، ويرعي خطواتها الأولي إلي المدرسة !.
الذين سرقوا ونهبوا هربوا، وانفرطت (قوّاتهم) المكوّنة من شباب لم يثقوا بهم، الذين ما كان لهم أن يخوضوا معركةً ليست معركتهم، دفاعاً عن فاسدين باتوا سبّة في حياة شعبنا، وعاراً علي سمعته!
لا بأس يا (أبوعلي) :ها أنت تدفن في ثري غزّة الطهور، بطلاً كما يليق بك، لم تدر ظهرك يوماً.أما المقنعون بالسواد، الذين سجدوا شكراً علي احتلال مكاتب ومقّار( حرروها)، فهم سيأخذون شعبنا إلي الجحيم، شعبنا الذي لم يصونوا الأمانة التي حمّلهم إياها، وشرّفهم بها.
ماذا أقول يا نصر في الذين لاذوا بالفرار ولم يدافعوا عن مواقعهم! الذين خبرنا (أمثالهم) في بيروت، وجنوب لبنان، الذين كلمّا سقطوا أكثر رقّوا أكثر، وحمّلوا مسؤوليات تتيح لهم مزيداً من النهب والفساد، في سلطة الفساد!.
مقنعون بالسواد في (غزّة)، ومقنعون بالسواد في شوارع رام الله ونابلس !. قتل وهتك هنا، وقتل وهتك هناك. جهل وجهالة تفترس روح شعبنا، وظلام يهيمن علي سماء فلسطين ...
هؤلاء وأولئك: وجهان لعملة واحدة.من أوصلوا شعبنا لليأس، ومن يفقدون شعبنا الأمل.
قل لي يا نصر: أين تركت قصائدك التي كنت تتردد في قراءتها لي؟ هذه لوحاتك يا صاحبي علي الجدران، وهذه القصاصات التي كنت تكوّن منها لوحات مدهشة. هذه فلسطين التي كنت تضع اسمها تحت اسم الله.
هذه أمك التسعينيّة التي ربّتنا معا. ها هي تنوح ـ أخفينا عنها أن قاتلك فلسطيني ـ متعصّب، ممتلئ الرأس بالأوهام، والصدر بروح الانتقام:
تضحك أمك، ثمّ تزغرد، ثمّ تنوح، كما علي ثوار 36:
طلّت البارودة والسبع ما طل
يا بوز البارودة من الندي مبتّل
نحن لا نخلع فلسطين يا نصر، نحن نخلعهما معاً.
نخلع الذين يحرقون ويعدمون في شوارع غزّة،
ونخلع الذين يعربدون في شوارع نابلس و..رام الله، الذين لا نراهم عندما يدخل لاندروفر (إسرائيلي) فيحتّل المدينة، وينفّذ حكم الإعدام بأحد المطاردين .. نخلعهم معاً!
لم تقتلك صواريخ الطائرات في بيروت، والبقاع، ولم يستطع المحتلون الصهاينة (اصطيادك) رغم مطاردتهم لك. قتلك الجهلة قصيرو النظر، الذين أمعنوا في دفع قطار فلسطين عبر النفق المظلم، الذين تخلّوا عن المقاومة وداخوا في وهم سراب السلطة، وها هم ينحشرون في مأزق حبسوا أنفسهم فيه، ويسعفون (الأسلويين) بفرصة طالما انتظروها، مفاقمين خسارات شعبنا وقضيتنا.
www.deyaralnagab.com
|