كلنا نستطيع ... لكننا نأبى !!
بقلم : يوسف جمل ... 03.10.2010
في ما مضى كانت الرسالة شفوية أو كتابة على ما تيسر من المواد من حجارة أو ورق الأشجار أو العظام أو الجلود (اللخاف والعسب والأكتاف والرقاع ) تُتناقل من المكان المرسل إلى العنوان المرسل إليه بواسطة الرسل الذين كانوا يحملون هذه الرسائل ويحرصون على إيصالها ويكون تنقلهم بواسطة المشي على الأقدام أو على ظهور الحيوانات وكان ذلك يقتضي الوقت الكثير والطويل الذي كان يفقد المحتوى في بعض الأحيان لزومه أو الحاجة إليه أو تنفيذه , لأن عامل الوقت له أهمية والمتغيرات كثيرة والمستجدات طبيعية .
كان الحمام الزاجل الذي استعمل كالبريد في تقليص المسافات والوقت ولكنه كان محدودا ومحدداً ومخصصاً ولم يكن فيه الانتشار والنجاعة والنجاح ولم يتوفر للكثير من الناس وخاصة عامة الناس .
كانت رسائل الاستغاثة توضع في قارورة زجاجية وتلقى إلى المجهول والصدفة والاحتمال .
كانت الميادين والأسواق التي تعقد من حين لآخر فرصة سانحة للإسماع والاستماع وإعلاء وإبداء الآراء والمواقف والأفكار .
كانت الرحلة في طلب الحديث تستغرق الأيام والشهور وتستلزم الجهد والتعب والعناء حتى يتم فحص وتأكيد حديث أو كلمة أو جملة لما في ذلك من الأهمية بمكان .
كانت وما زالت المنابر والمساجد وساحات المعابد توفر المجال وتتيح الفرصة لمن يريد أن يعرض موقفاً أو مظلمة أو يبدي رأياً أو يسأل علماً أو معرفة .
وكانت حينها أصول وأسس لا يتجاوزها أحد وهي بحكم المتفق عليها وأهمها الاحترام والأمان والأمانة وعدم التعرض للرسل إلا ما ندر وسماع الرأي والاعتراض والنقد وعدم كتم الأنفاس وكلنا نتذكر ونذكر قول الأعرابي لعمر الفاروق لا سمعاً ولا طاعة فأصغى إليه ولم ينل منه ولم يعاقبه ولم يتخذ منه موقفاً معادياً ولم يسير معه في تصفية حسابات بل وضّح له الموقف حتى اقتنع وقال أما الآن فالسمع والطاعة .
وعندما أراد صاحب كليلة ودمنة إيصال الكلمة اختار لها أسلوبا يتجنب فيه الأذى لغيره ولنفسه وبالحكمة استطاع أن يوصل رسالته وبطريق فريدة ومميزة .
وعندما وصل المهاجرون إلى الحبشة استمع إليهم النجاشي وتحاور معهم بالأسلوب الراقي الجميل وكان ذلك لهم نجاة من الكفار الذين تبعوهم لكي يشوهوا سمعتهم عند النجاشي ويتسببوا في إخراجهم وتسليمهم للكفار .
والتاريخ طافح بالصور الرائعة للحوار والنقاش والاحترام وتقبل الآخر رغم الاختلاف والتباين في وجهات النظر والآراء والمبادىء والعقائد .
وفي ما بعد توفرت الصحف والورق والطباعة والكتب ولوحات الإعلانات واللافتات والنوادي والمقاهي والاجتماعات والمؤتمرات التي من خلالها اتسعت الآفاق وعرضت الآراء والمقالات والعلوم والآداب والأحكام والتشريعات .
ومع كل هذا ظل عامل الوقت يفتقد الفورية والوفرة والكثرة والخصوبة والانتشار بين البلدان والأقطار واقتصر الأمر على الغالب على الإرسال والنشر والإصدار وافتقد على الغالب الرد وإبداء الرأي والتأييد والاعتراض والمخالفة والحوار والنقاش والجدال .
كان الكاتب يكتب والقارىء يقرأ وبينهما بعدٌ ومسافات لا يدري الكاتب ما هو رد فعل القارىء وموقفه مما يكتب ولا يدري القارىء كيف يصل إلى الكاتب ليناقشه ويحاوره في ما كتب وبالسرعة المطلوبة وبالوقت القريب أو على الفور حتى لا يكون الأمر مجرد إملاءات وفرض أفكار وحتى غسيل مخ واتجاه واحد للأمور من وإلى وفقط !
ولما للرأي الآخر من أهمية صارت الصحف والمجلات تخصص زوايا للردود والآراء والشكاوى وتقدم الاعتراضات والنشرات والمنشورات وصارت المجموعات تجد في الاجتماعات والمظاهرات واللافتات وسائل تعبير عن مواقفها من الضد وسبيلاً لإيصال صوتها وآراءها ومواقفها لأكبر عدد من الناس .
ومن ثم تطورت الأمور وتغيرت وتوسعت وتوفرت الوسائل التي ساعدت وساهمت في تقليص المسافات وتقريبها والإسراع في إيصال الكلام والكلمات والرسائل والأخبار والمقالات والأعمال الأدبية والعلمية وانتشارها في جميع أنحاء العالم .
هذه الوسائل تطورت وازدادت نجاعتها حتى صار العالم قرية واحدة وصارت الوفرة المعلوماتية والثورة الثقافية والنهضة العلمية في أنحاء المعمورة وانتقال المعلومات والأخبار بسرعة وعلى الفور مما ساهم في توفر الفعل ورد الفعل الفوري والآني من خلال الهاتف والفاكس وآلات التصوير والتسجيل والتلفزيون والحاسوب والانترنيت والأقمار الصناعية وكل الوسائل السمعية والبصرية ووسائل النقل والانتقال .
كل هذا الكم والكيف الهائل من التكنولوجيا والاختراعات فتح المجال أمام عالم الاتصال إلى السرعة في نشر المعلومة والتفرد بها وامتلاكها وإلى السبق الصحفي والإعلامي للتميز والشهرة والمزيد من الكسب والربح والاشتهار .
صارت الكلمة وصارت الصورة وصار الصوت وصارت الحركة واجتمعت وتوفرت كلها وصارت تنقل لنا من واقع زمان ومكان آخر إلى واقعنا وزماننا ومكاننا في نفس اللحظة بالبث الحي والمباشر ما جعلنا نكون فعلاً في قلب الحدث فنعرفه ونحس به ونعايشه ونتفاعل معه .
وأصبحت تتوفر لدينا إمكانيات الرد والتعقيب والتعليق والموافقة والتأييد والمعارضة والرفض من منطلق أن الاختلاف لا يفسد للود قضية .
لقد توفرت هذه الإمكانيات بحمد الله حتى نستثمرها ونسخرها في أبواب الخير ولصالح البشرية لكنه وبما أن الاختلاف في الطباع والسلوك والشخصيات والآراء شيء طبيعي بين بني البشر وكذلك بما أن البعض يرى في حرية الرأي والتعبير ما يمنحه الحق في التجاوز والقذف والإساءة والتجريح وخاصة إذا كان يتخفى تحت اسم مستعار ويسعى في ذلك للنيل من عدو أو غريم أو لتحقيق هدف أو غيرة وحقد على ما يستطيع غيره عمله مما يؤرق ليله ويقض مضجعه فلا يهدأ ولا يسكن إلا إذا لبس طاقية الإخفاء وحمل معوله وساطوره وفأسه وأعملها في الناس ناسياً أو متناسياً أو غافلاً عن ما يسبب لنفسه من الضرر بما يقوم به ويفعل .
وواضح جداً أن هذه العينة من الناس لا تسعى لتحقيق فائدة أو مكسب بدليل أنها لا تظهر نفسها فيعود التعليق عليها بالفائدة أو الشهرة والثناء والإعجاب بل كل ما تسعى إليه هو الاستهزاء والتهكم والنقد الهدام والإساءة للغير والمس بالأشخاص والنيل منهم وهذه هي منابرهم الوحيدة وفرصهم المتاحة فهم يخشون المواجهة لرثاثة مواقفهم وأمراض قلوبهم المزمنة وقلة حيلتهم وتصدع بنيانهم .
البعض منا من يرى في ذلك فرصة سانحة للحوار البناء وللنقاش المفيد والبعض يرى في الردود والتعقيبات الاعتراض والمخالفة لكن بالحدود والأصول والبعض يرى فيها السبيل إلى الدعم والتشجيع والثناء والتقدير .
لكن البعض من يرى في ذلك وسيلة لتحقيق مأرب ديني أو عقائدي أو سياسي أو شخصي أو مكسب مادي أو معنوي وهو يجد الطريق إلى ذلك في أكل لحوم الغير وليس في بناء لحمه وجسمه بنفسه وبقدراته وربما لعدم توفر هذه القدرات لديه وحرصه على الفتنة لأنها هي المجال الوحيد الذي يخفي عجزه خلفها طالما أنه غير معروف ويتنكر بزي أو باسم أو بهيئة تلغي كيانه المفقود الذي يخجل من عرضه على حقيقته خوفاً من المقارنة أو المساءلة القانونية وما شابه ذلك .... هو يخاف ويخشى ويجبن في مواجهة الواقع في الدنيا ويجهل ما يجني للقادم الصعب المرير ولا يحسب حساباً للمساءلة الربانية يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
مَن منا لا يستطيع أن يفعل مثلما يفعل هذا النوع من الناس ؟
كلنا نستطيع ... لكننا نأبى !!
www.deyaralnagab.com
|