logo
سقوط حل الدولتين في فلسطين وقيام الدول الثلاث!

بقلم : خالد الحروب ... 20.6.07

في النقاشات النظرية والسياسية والأكاديمية إزاء مستقبل الصراع على فلسطين كان السجال الدائم محتدماً بين فكرة إقامة دولتين، فلسطينية وإسرائيلية بحسب قرارات الأمم المتحدة، وفكرة إقامة دولة واحدة تقوم على أسس المساواة والديموقراطية والمواطنة العلمانية بين كل من يعيش على أرض فلسطين التاريخية، من مسلمين ومسيحيين ويهود. بيد أن الأمر شبه البديهي الذي يقبع في قلب التطورات التي تشهدها هذه المنطقة بتقلباتها الحادة هو ذلك المنطق الغريب والمفاجئ للواقع على الأرض والذي يفاجئ الجميع بسيناريوهات قد لا تخطر على بال أحد بشكل جدي. فعوضاً عن الحلين المذكورين صار الواقع يقول إن هناك حلاً ثالثاً: دولة إسرائيلية قوية، ودويلتان فلسطينيتان ضعيفتان.
ما لم تحدث شبه معجزة في الاسابيع القليلة المقبلة فإننا أمام سيناريو كئيب للفلسطينيين: شبه دولتين تتقاسمان الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب، أو تحت رحمة الدولة الإسرائيلية المسيطرة تماماً على سيادة ومصير الدويلتين معاً. لا يملك أي طرف من الأطراف سواء كان فلسطينياً أم عربياً أم دولياً حلاً أو معالجة للإنقسام السياسي والجغرافي والديموغرافي الذي وقع كالصاعقة على الفلسطينيين.
ربما جاز وصف الوضع الفلسطيني الراهن بأنه الأخطر في تاريخ القضية الفلسطينية، لأن الإنقسام الحزبي والإختلاف السياسي انعكسا على الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية كما لم يحدث في تاريخ الفلسطينيين. اختلف الفلسطينيون كثيراً في القرن العشرين ومنذ تاريخ الإنتداب البريطاني، لكن كل اختلافاتهم كانت فوق الجغرافيا الوطنية، وبقيت على مستوى القيادات والأحزاب السياسية والطروحات. حتى في أوج الأزمات التي تحولت فيها الخلافات إلى صدامات مسلحة لم يحدث أن انعكست على جغرافيا الوطن الفلسطيني، كما هو حادث الآن.
ومرة أخرى، ما لم تحدث معجزة سياسية تعيد خلق نوع من التوافق «الإجباري» بين «فتح» و «حماس» يكون أساسه جمع «الاخوة الأعداء» على قاعدة التوقف عن سياسة التدمير الذاتي، فإن حل الدول الثلاث هو الذي يلوح في الافق. هذا طبعاً مع التحفظ على إستخدام تعبير «دولة» لوصف كياني الضفة الغربية وقطاع غزة المنفصلين، فهو توصيف غير دقيق وفيه تجاوز واضح. وما لم تُسترد القناعات لدى طرفي الصراع الفلسطيني بأن فكرة إقصاء أي طرف للطرف الثاني من «الجغرافيا» التي يسيطر عليها الطرف الأول هي بإختصار مستحيلة، فإن الإنفصال الجغرافي سيتكرس.
ليس في مقدور أحد تقدير المآلات النهائية لمثل هذا الانفصال وسيرورته والاتجاهات التي سيأخذها، لكن بالإمكان القول إن هذا الانفصال سيتكرس مع مرور كل يوم. كل أسبوع يمر على الفلسطينيين وهم على وضعية الاستقطاب بين غزة والضفة يعزز من الوضع الراهن، ويجعل من ظرفيته وسمته التي يتمنى الجميع أن تكون موقتة وضعاً يصعب الرجوع عنه. ولتأمل السيناريو المظلم علينا قراءة الجوانب التالية:
أولاً: من مصلحة إسرائيل العليا ترسيخ التقطيع الجغرافي الفلسطيني وتكريسه بكل الأشكال. ومن شبه المؤكد أن تركز إستراتيجية إسرائيل في المرحلة الحالية والمقبلة، سواء على الصعيد السياسي أم العسكري، على تثبيت وضع الإنفصال. فهذا الإنفصال يخلق هدفاً جديدا للفلسطينيين سيحاولون الوصول إليه، بعيداً كل البعد عن أهدافهم الوطنية التقليدية المضادة لإسرائيل. ففجأة يصبح «الهدف الوطني» هو إعادة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت قيادة موحدة. ويصبح هذا التوحيد هو «سقف الجهود الفلسطينية» وبسببه ستتراجع الأهداف الكبرى المتعلقة بمواجهة الإحتلال الإسرائيلي والنضال من أجل الحقوق الفلسطينية الاساسية والمعروفة. ومثل هذا التطور سوف يفرح إسرائيل من كل الجوانب.
ثانياً: كل الصراخ الإسرائيلي الراهن من وجود دولة «حماستان» إلى جوارها والخطر الأمني الذي قد تسببه لها، وانها صارت «محاصرة» من قبل «حماس» في الجنوب و «حزب الله» في الشمال ليس سوى مبالغات تهدف إلى حشد التأييد الدولي لا أكثر ولا أقل. إسرائيل تعلم أن آخر ما تفكر به «حماس» الآن هو إطلاق الصواريخ تجاه المدن الإسرائيلية، أو إستفزاز إسرائيل بأي شكل من الأشكال. بكلمة أخرى، سوف يتحقق عملياً مقدار أمن لإسرائيل أكثر بكثير من السابق، فقطاع غزة كله مكشوف للجيش الإسرائيلي سواء برا أم بحرا أم جوا. وإذا كانت إسرائيل تتردد قليلاً في السابق في ضرب هذا الهدف أو ذاك مستثنية بعض منشآت ومراكز الأمن التابعة للرئيس الفلسطيني فهي الآن ستكون في حل من إستثناء أي هدف. وهذا الإنكشاف تدركه «حماس» ومن شبه المؤكد أنها ستركز على «الجبهة الداخلية الغزاوية» ولن تتحرش بإسرائيل في المرحلة المقبلة. وهذا كله يعني أن إسرائيل مستفيدة أمنياً من التطور الذي حصل وستحصد نتائجه، وسوف يعنيها أن يدوم هذا الإنفصال وما يترتب عليه من إضعاف لموقف «حماس» العسكري.
ثالثاً: سوف تعمل «حماس» كل ما تستطيع حتى تثبت أنها قادرة على حفظ الأمن في قطاع غزة وتوفير الاستقرار، وأولى الخطوات التي تعمل على إنجازها كما يبدو هي العمل الحثيث على إطلاق الصحافي البريطاني آلان جونستون، ثم التسريع بصفقة إطلاق الجندي الإسرائيلي الأسير شاليت. الهدف من ذلك توصيل رسالة إلى الخارج والرأي العام أنها قادرة على ضبط الأمور وحل أصعب الإشكالات عندما تكون ممسكة بزمام الأمور من النواحي الأمنية. مقابل ذلك سوف تحصل «حماس» ضمناً على عدم التحرش بها إسرائيلياً، ومن المستبعد أن تقوم إسرائيل بإجتياح قطاع غزة عسكرياً لأن في ذلك مخاطر كبيرة جداً، وليست هناك ضمانات للنتائج، كما ليس هناك أي تصور «لليوم التالي» للإجتياح وما هي الصورة النهائية التي سيؤول إليها وفي ما إذا كانت ستؤدي الى عودة الإحتلال العسكري للقطاع كما في السابق. ما يعقد هذا الإحتمال في وجه إسرائيل هو الخسائر الكبيرة المتوقعة في صفوف جيشها بسبب قوة «حماس» العسكرية التي لم تكن كذلك في أي فترة سابقة.
رابعاً: يتكرس إنفصال الضفة الغربية وقطاع غزة مع تواصل سياسة اللاحوار بين «فتح» و»حماس» وتبادل الإتهامات بفقدان الشرعية. هناك خطاب إستئصالي وعنيف عند الطرفين يحتاج إلى قوى إعتدال جبارة كي تحيَده بعض الشيء والشروع في حوار يعيد لحم ما تم فصله. وهذا لن يتم بين يوم وليلة، بل سيحتاج إلى وقت طويل تكون فيه وقائع صلبة جديدة قد تكرست على أرض الواقع. والمفارقة المريرة هنا هي أن الحوار مع إسرائيل سيكون مفتوحاً على مصراعيه بينما الحوار الفلسطيني - الفلسطيني سيكون مغلقاً. فمن ناحية أولى سيكون هناك إنفتاح كلي بين حكومة الطوارئ التي أعلنها محمود عباس وإسرائيل، ومن ناحية ثانية ليس من المستبعد أن يكون هناك حوار غير مباشر بين «حماس» وإسرائيل للوصول إلى توافقات معينة بخاصة في مجال التهدئة وإيقاف الصواريخ مقابل عدم اجتياح القطاع ومواصلة تزويده بالماء والكهرباء.
خامساً: ستعمل الأطراف العربية والدولية على تعزيز ودعم حكومة الطوارئ لمواجهة حكومة غزة، وهذا سيقود إلى تكريس الإنفصال وليس إلى الدفع باتجاه التوحيد. و «حماس» التي يستفزها هذا الدعم ستحاول أن تثبت أنها لن تتراجع ولن تغير الوضع إلا وفق إتفاق يشمل الضفة والقطاع ويمنحها الموقع الذي تطالب به في أي حكومة جديدة. بموازاة ذلك ستعمل «حماس» على تأمين دعم مادي ومساعدات بطرقها الخاصة. وربما ستفسح اسرائيل المجال لمثل هذه المساعدات كي تصل إلى القطاع تحت شعار أنها لن تعيق المساعدات الإنسانية، لكن سيكون جوهر الموقف الإسرائيلي هو الإبقاء على الواقع الإنفصالي ومده بسبل الحياة، وتقوية غزة مقابل الضفة وجعلها تشعر بإمكانية البقاء والحياة من دون الإعتماد على حكومة رام الله. ولن يعمل الوضع الإقليمي المتردي هو الآخر إلا على تعزيز الإنقسام. فالإستقطاب المحوري بين دول معتدلة وأخرى راديكالية في المنطقة العربية يمتد إلى الساحة الفلسطينية بحيث ينضوي كل من الطرفين الفلسطينيين في واحد من هذين المحورين.
خلاصة ذلك كله هو أن فكرة وحلم الدولة الفلسطينية المستقلة الواحدة سيصبحان أبعد منالاً، وأن فكرة الدولتين أو فكرة الدولة الواحدة لحل الصراع على فلسطين سوف تنسحب إلى الخلف لصالح فكرة الدويلات الثلاث. وفي زحمة هذه التصدعات المتوالية سيضعف حضور الحقوق الفلسطينية الكبرى، وتتردى القضية الفلسطينية من موقعها كقضية تحرر وطني وتلتحق بقضايا الصراعات الداخلية والإنشقاقات والعنف الطائفي والسياسي وسوى ذلك. وتفادي ذلك كله يحتاج إلى قدر ضخم، غير متوفر حالياً، من الشعور بالمسؤولية الوطنية وتقديمها على الأنانيات الحزبية.
وهناك شرطان ابتدائيان لمحاولة بث الحياة في تلك المسؤولية الوطنية التي صارت الآن جثة هامدة:
الشرط الأول هو أن تجيب «حماس» على السؤال التالي: ما هو الافضل للقضية الفلسطينية، بقاء قطاع غزة موحدا مع الضفة الغربية ولو تحت قيادة تراها «حماس» فاسدة، أم فصم قطاع غزة وتخليصه من تلك القيادة؟ وأن تجيب «فتح» والرئاسة الفلسطينية على السؤال التالي: ما هو الأفضل للقضية الفلسطينية، بقاء قطاع غزة موحداً مع الضفة الغربية ولو كان تحت سيطرة «حماس» كلياً أو جزئياً، أم إنفصاله عنها إن تمترست كل من «فتح» و «حماس» وراء مواقفهما الراهنة؟
أما الشرط الثاني فهو أن يتم قلب شكل التعامل بين الطرفين بحيث يتعامل السياسيون مع السياسيين، وأن لا يترك الأمر للأجنحة والأجهزة العسكرية كي ترسم السياسة وتقودها. فالغريب في أسلوب ولغة التعامل الفتحاوي - الحمساوي هو أن العسكريين من هذا الطرف أو ذاك يردون على السياسيين في الطرف الآخر، وينخرط الجميع في سلسلة من التصريحات والخطابات بين سياسيين وعسكريين بحيث تضيع عناوين القيادات الحقيقية.
أما في الميدان فإن السياسيين ينسحبون ويتركون للميليشيات حرية التصرف. فمثلاً أين كانت قيادات «حماس» السياسية العاقلة امام التدمير والتخريب والبطش الذي قامت به بعض العناصر العسكرية في الحركة في قطاع غزة بحق عناصر من «فتح» ورآها الجميع على شاشات التلفزيون؟ وأين كانت وما زالت قيادات «فتح» والرئاسة العاقلة من التدمير والتخريب والبطش الذي قامت به بعض عناصرها العسكرية في الضفة الغربية بحق عناصر «حماس»؟

* كاتب وباحث فلسطيني

www.deyaralnagab.com