أنظمة الخيانة وأنظمة الجهالة!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 15.06.2011
أظهرت الثورات أو الحركات العربية ازدواجية مواقف الكثير من الناس بخاصة من المثقفين العرب والأكاديميين، وحتى الذين يسمون أنفسهم بالثوريين. والازدواجية هنا تعني تأييد ثورة شعبية معينة، وعدم تأييد ثورة أخرى على الرغم من أن الأسباب الأساسية للثورتين تكاد تكون متطابقة. من الواضح أن الظلم الذي مارسته أنظمة الحكم العربية ضد المواطن العربي يشكل الأساس القوي للحركة الشعبية العربية، وقد انعكس هذا الظلم في ممارسات كثيرة مثل نهب الثروات، ومنع الحريات وعلى رأسها حرية التعبير عن الرأي، وقهر المواطن اقتصاديا وإعلاميا وأمنيا، الخ. كل الأنظمة العربية متشابهة إلى حد كبير في ممارساتها ضد المواطن العربي، وقد انعكس هذا التشابه في الشعارات التي يرفعها المواطن العربي في مختلف البلدان العربية التي تشهد حراكا شعبيا بهذه الدرجة أو تلك.
وبالرغم من التشابه نجد ازدواجية في المواقف بحيث هناك من يستحسن ثورة ويمقت أخرى دون أن تكون هناك أسباب واضحة لذلك. فمثلا هناك من أيد ثورة مصر لأن النظام المصري بقيادة مبارك كان عميلا لأمريكا وإسرائيل، بينما لا يؤيد الحركة الشعبية في سوريا لأن سوريا ترفض الاعتراف بإسرائيل وتدعم المقاومة. وهناك من أيد حركة الشعب الليبي، ودعم باتجاه تسليح المناهضين للقذافي لأنه حاكم فاسد ومبذر للأموال الليبية، بينما وقف ضد الحركة الشعبية في البحرين على اعتبار أن الشيعة هم الذين يقودونها. وهناك من يدعو للتدخل الغربي في سوريا لأن النظام يقمع بشدة، بينما يؤيد مبادرات دولية لحل الأزمة في اليمن. وهناك من يؤيد الحراك في الجزائر، لكنه لا يؤيد حراكا في المغرب أو الأردن. وهكذا.
هذه ازدواجية لا تليق بمثقفين وأكاديميين وثوريين وأناس محترمين، ولا تليق إلا بالجهلة والسياسيين الفاسدين وأصحاب المصالح الشخصية والفئوية. مصلحة الأمة تتطلب الوقوف مع الحق ومع الصحيح، ولا تسمح بالمزاجية والتقلب وفق رؤى شخصية وفئوية. وقد سبق أن كتبت حول التشابه أو شبه التطابق في ممارسات الأنظمة العربية على الرغم من اختلاف ممارساتها بشأن بعض الأمور الخارجية. وبينت أن الممارسات الداخلية لمختلف الأنظمة العربية واحدة، ولا غرابة أن كل شعب عربي يكره حاكمه على الرغم من تمتع هذا الحاكم بشعبية كبيرة في بلدان عربية لا يحكمها.
معيار الحكم على الحاكم
ربما كان يحكم الشعب على حاكمه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من خلال مواقف إعلامية لها علاقة مباشرة بالقضايا العربية الأساسية حينئذ وهي: تحرير فلسطين وتحقيق الاستقلال عن الاستعمار وقيام الوحدة العربية والسيطرة على الثروات العربية. كان المواطن العربي مندفعا عاطفيا، وراغبا بتحقيق آماله وتطلعاته نحو الكرامة والعزة، والمنافسة على الساحة الدولية، وكان يؤخذ بالخطابات الرنانة من قبل القادة والحكام، وكان يتوهم أن وعود الزعماء جادة وستتحقق، ولم يكن من الغريب أن تخرج مظاهرات تأييدا لهذا الزعيم أو ذاك. لقد أوهم أغلب القادة العرب شعوبهم بأن الحرية آتية، وأن الرخاء والرقي العلمي والعدالة الاجتماعية ستتحقق. لكن هذه الأوهام أخذت بالتساقط التدريجي عندما هُزم العرب هزيمة نكراء عام 1967.
نجح القادة العرب من خلال جهالاتهم أو من خلال تعاونهم مع الاستعمار في إطفاء جذوة العربي، وإسقاط كل الأهداف النبيلة التي كان يطمح إلى رؤيتها تتبلور على أرض الواقع. مع السنوات، لم يعد هناك من يتحدث عن الوحدة العربية، ولم تعد الأجيال الشابة تنادي بها؛ وسقط شعار تحرير فلسطين، ولم يعد الاستعمار عدوا، ولم تعد الثروات العربية عربية بعيدة عن المستغلين الأجانب. لقد اندحر العربي تدريجيا إلى البعد القطري، وأخذ يواجه هموما ومشاكل قطرية أبعدته تدريجيا عن الأبعاد العامة التي تخص الأمة ككل، وغرق في بحور من الآلام استنزفت طاقاته المعنوية والقومية والدينية والانتمائية، ولم يعد قادرا حتى على المحافظة على الوحدة الوطنية لقطره. تصارع الناس بعنف دموي في لبنان وفلسطين والجزائر والسودان ومصر والعراق واليمن، وتمزق النسيجان الاجتماعي والأخلاقي إلى حد بعيد. لقد خان حكام العرب أمة العرب في مختلف مجالات الحياة، ولم يحققوا لشعوبهم إلا الخيبة والإحباط والهزائم على كافة المستويات الأخلاقية والعلمية والاقتصادية والثقافية والفكرية والأمنية، الخ.
انتهت أيام الشعارات والخطابات الرنانة والوعود والتمني بالخير الوفير، ولم يعد العربي يثق بحاكمه، بل تعلم مع الزمن أن الحاكم كاذب ودجال ونصاب، وتسمع منه حسن الأقوال، وترى منه سوء الأفعال. لم يعد العربي أبلها تأخذه العبارات المنمقة أو التصريحات المزخرفة، بل أصبح يعي تماما أن الحاكم هو شر البلاء، ولا مفر أمامه إلا التخلص منه لصالح نمط حكم جديد يعتمد المساءلة والمحاسبة وسيادة القانون وحرية الإنسان ووسائل الإعلام. لقد شبع العربي ذلا وظلما وإحباطا، ولم يعد قادرا على استيعاب المزيد، وواضح أنه مصرّ الآن على الدفاع عن كرامته وعزته وحقوقه.
أنظمة الخيانة وأنظمة الجهالة
هناك تباين ليس كبيرا بين الأنظمة العربية في السياسة الخارجية، لكن هذا التباين مفقود في السياسة الداخلية. لقد وحد القمع العربي المشترك للإنسان العربي وزراء الداخلية العرب، لكن وزراء الخارجية والدفاع استمروا على خلاف على الرغم من عدم تحقيق منجزات كبيرة في حماية الوطن العربي من الانتهاك والهزائم. ولا أرى أن إنجازا قد تحقق غير صمود حزب الله وهزيمته لإسرائيل عام 2006، وصمود حماس وإفشالها للحرب الإسرائيلية عام 2008/2009، وذلك بفضل الله وفضل الدعمين السوري والإيراني.
التباين القائم بين مختلف الأنظمة ليس واسعا ولا يستدعي حقيقة تباين المواقف منها بخاصة أن كل الأنظمة العربية تستهتر بالمواطن العربي وتنفي وجوده. صحيح أن هناك مواقف وطنية لبعض الأنظمة العربية، لكن قمعها للمواطن العربي يشل قدرتها على مواجهة التحديات، ويحول كل مواقفها السياسية والوطنية إلى مجرد مواقف نظرية يصعب ترجمتها على أرض الواقع. النظام أو الدولة قوية بقوة شعبها، وشعبها لن يكون قويا إلا إذا كان حرا، وما دام النظام يقمع الحريات فإنه يناقض كل شعاراته الوطنية. العبيد لا يحررون ولا يبدعون، ولا إبداع يأخذ صفة الاستمرار بدون حرية. فإذا كان لنا أن ننحاز لهذا النظام أو ذاك، فإن المعيار الأول لهذا الانحياز يجب أن يكون حرية المواطن.
كل الأنظمة العربية تقمع المواطن العربي، لكنه يمكن تصنيفها إلى قسمين:
أولا: أنظمة الخيانة وهي الأنظمة التي أقامها الاستعماران البريطاني والفرنساوي قبل منح المستعمرات ما يسمى بالاستقلال، والتي ورثها الاستعمار الجديد الأمريكي عن الاستعمار القديم. هذه أنظمة قبلية أقطعها الاستعمار أجزاء من الوطن العربي لتدير الشؤون المدنية للناس، ولتأتمر بأمره وتنفذ رغباته وسياساته. أي أن هذه الأنظمة خائنة بالأصالة، ولا تستطيع أن تشذ عن تعليمات أهل الغرب بخاصة الولايات المتحدة حتى لو رغبت في ذلك. إنها مقيدة تماما بعقلية قبلية متخلفة تفضل مصالحها القبلية والشخصية على مصالح الناس، ومقيدة بالترتيبات الأمنية والعسكرية التي تقيمها الدول الاستعمارية. لا يستطيع حاكمها أن يتمرد لأن عقليته مبرمجة قبليا واستعماريا، ولأنه من الممكن استبداله بسهولة من قبل الدول الاستعمارية. هذه أنظمة لا سيطرة أمنية لها على البلاد، وحمايتها العسكرية مرتهنة بالولايات المتحدة.
ثانيا: أنظمة الجهالة وهي الأنظمة التي شهدت انقلابات عسكرية بهدف تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية، أو التي ادعت لنفسها التغيير والتطوير من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وعزة العربي وكرامته وتقدمه في مختلف المجالات، ووعدت بوحدة العرب والسير بهم نحو الحرية. ربما كانت نوايا هذه الأنظمة صادقة، لكن القائمين عليها كانوا من الجهل إلى درجة أنهم أساؤوا بأفعالهم لكل ما هو ثوري ونبيل وتقدمي. لقد ادعوا الثورية وظلموا شعوبهم، وأقاموا أجهزة أمنية مرعبة لملاحقة المواطن العربي، وهزموا أمام إسرائيل، وسرقوا أموال الشعب، وعجزوا عن إحراز تقدم ملموس عن سابق وعي وتخطيط في أي مجال من مجالات الحياة.
بين الخيانة والجهالة
الخيانة تؤدي إلى ذات النتائج التي تصلها الجهالة. الخائن هو أخ الجاهل، وكلاهما يلحقان الدمار والخراب. الخائن صاحب رسالة تدميرية أملاها على نفسه طوعا أو تحت وطأة البحث عن المال والسلطان، والجاهل لا يقوى إلا على التدمير حتى لو كانت نواياه طيبة. ولهذا يصعب أن نجد فروقا هامة بين الدمار الذي ألحقته أنظمة الخيانة العربية بالأمة العربية، وذلك الذي ألحقته أنظمة الجهالة العربية، وإذا كان هناك فروق فإنها تنحصر بأمور فنية وليس بقضايا مبدأية فعلية. فمثلا، اعتمدت أنظمة الخيانة في استمرارها على القبيلة والدعم الأمني والعسكري الاستعماري، وأحيانا على الدعم المالي إذا كان النظام يسود في إقطاعية فقيرة؛ في حين استندت أنظمة الجهالة في الغالب على عناصر جهالة نسميها الزعران أو البلطجية الذين ظنوا أنهم وطنيون ويريدون قمع قوى التخلف والعمالة للاستعمار. وقد كان أداء أنظمة الخيانة الداخلي أحيانا أفضل من أداء أنظمة الجهالة لأن الاستعمار يوجهها في كثير من الأحيان وذلك من أجل البقاء، بينما أنظمة الجهالة افتقدت إلى التوجيه، ورفضت الاستفادة من العلماء والخبراء المتواجدين ضمن إقطاعياتها. أنظمة الخيانة تستمع لنصائح الاستعمار، بينما أنظمة الجهالة لا تستمع لنصائح أبناء البلاد.
هناك من يرغب أن يميز بين أنظمة الخيانة وأنظمة الجهالة بناء على الموقف من الكيان الصهيوني والتغلغل الأمريكي في المنطقة العربية الإسلامية. أظن أن محاولة التمييز فاشلة لأن النتيجة في النهاية واحدة. أقامت دول الخيانة علاقات مع إسرائيل على مدى سنوات طويلة، لكن منظمة التحرير مثلا التي يمكن تصنيفها ضمن أنظمة الجهالة انتهت إلى القيام بحراسة أمن إسرائيل. أنظمة الخيانة اعترفت بقرار مجلس الأمن 242، وكذلك فعلت أنظمة الجهالة. أمريكا حاربت العراق، وساعدتها في ذلك أنظمة الجهالة وأنظمة الخيانة. وعلى ذلك قس.
ولهذا يجب أن نصر على حرية الإنسان العربي وتحرره من وطأة هذه الأنظمة. الثورة على الأنظمة العربية على مختلف مسمياتها عبارة عن واجب مقدس، وهو واجب ديني وتاريخي ووطني وقومي وإنساني، ومن يريد تبرئة نظام على أخر، إنما هو يستعمل معايير مزدوجية لأسباب حزبية أو آيديولوجية أو قبلية أو شخصية. مصلحة الأمة وتقدمها تتطلبان القضاء على مختلف الأنظمة العربية القائمة، والتي إن بقيت، بقيت معها إسرائيل والهيمنة الغربية.
www.deyaralnagab.com
|