logo
الملكيات العربية: وهم الاستقرار وحتمية التحديث!!

بقلم : د. خالد الحروب  ... 21.06.2011

"نحن مختلفون" هذا ما أقنعت نفسها به العديد من الملكيات العربية بتنويعاتها المختلفة، الملكية التقليدية والأميرية والسلطانية، في محاولة دحضها احتمالات امتداد حالة الثورات العربية إليها. استثمرت الدعاية الملكية بطش "الجمهوملكيات" العربية لتوصل لشعوبها رسالتين. تقول الأولى إن تاريخ الجمهوريات العربية ملطخ بالدماء والشراسة في مواجهة شعوبها وإن استقرارها كان دوماً في مهب رياح الانقلابات العسكرية وتقلب الولاءات الدولية، وذلك كله على عكس تاريخ الملكيات العربية التي استقرت أوضاعها وشكلها السياسي وأمنها الداخلي. الرسالة الثانية تقول إن الثورات الأخيرة أنتجت فوضى وعدم استقرار وغياب أمن في جمهوريات ما بعد الثورات وهي أوضاع لا يمكن أن تتطلع إليها الشعوب في تلك الملكيات أو أن تعكس أحلامها. ملخص الرسالتين واضح وصارم: ارضوا بالوضع القائم لأنه أفضل ألف مرة من التفكير بتغييره، فهو وضع يضمن الأمن والاستقرار، وهما أهم من كل شعارات الحرية والكرامة والمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية التي يجأر بها "ثوار الجمهوريات". ارضوا بالوضع القائم مهما كانت شرعيته ولا تطالبوا بشرعية تأسيسية جديدة لنظام الحكم؛ لأن ذلك يعني إثارة الطوفان الكامن تحت السطح والذي لا ينفجر في وجه الجميع لأن نظام الحكم الحالي يطوي قبضته على الشروخ الطائفية والقبلية والجهوية وغيرها مما يعيق قيام اجتماع سياسي توافقي بين مكونات الشعب الواحد.
أطروحة الاستقرار والأفضلية النسبية في هذا المجال لأنظمة الحكم الملكية في العالم العربي على الأنظمة الجمهورية لم تخل من بعض وجاهة في العقود والسنوات الماضية، بيد أنها استنفدت كل طاقتها مؤخراً، ولم يعد بالإمكان استمرار التغني بها والتشبث بها من قبل أنصار الملكيات المطلقة الحالية. على المدى القصير يمكن لهذه الملكيات أن تعتاش على تخوفات شعوبها من الانهيار وفقدان الأمن وما تبقى من أطروحة الاستقرار. لكن على المدى المتوسط والطويل لا يمكن لهذه الملكيات أن تستمر إلا إذا عملت على تحديث نفسها على شكل ملكيات دستورية تنفصل فيها السلطات الثلاث بشكل حقيقي عن المؤسسة الملكية التي تتحول إلى مؤسسة رمزية هدفها تعزيز الوحدة الجماعية. عالم القرن الحادي والعشرين وإعلامه المعولم والمفتوح، وارتفاع مناسيب الحرية السياسية في كل رقاع الأرض، وانتفاض أجيال الشباب في كل مكان بهدف امتلاك زمام القرار بشأن مستقبلهم وتأثرهم بتجارب نظرائهم في الثورات الناجحة، والانتشار الكثيف لوسائل التكنولوجيا المعاضدة لطلباتهم، والمزاج العالمي الكاسح ضد كل أشكال الحكم التسلطي والفردي، وانكسار حاجز الخوف أمام الشعوب (العربية) في مواجهة أنظمتها القمعية وسقوط هيبة هذه الأنظمة، كل ذلك وغيره كثير يعني أن أنظمة الملكيات المطلقة لم يعد لها مكان في عالم اليوم. على هذه الملكيات أن تختار واحداً من خيارين: إما الإصلاح والتحديث الجذري والتحول إلى دستوريات تكون السلطة فيها برلمانية وبيد الشعب، وإما مواجهة ما واجهته وتواجهه الجمهوريات العربية من ثورات سلمية أو دموية تنتهي بإسقاط الأنظمة كلياً.
بنظرة أكثر عمقاً وأوسع زمناً يمكن لنا أن نموضع الثورات العربية والحراك الشعبي في الجمهوريات العربية والاحتقان المتصاعد في الملكيات العربية في نقطة قريبة من نهايات منحى تآكل شرعية هذه الأنظمة وانكشاف مقولاتها وادعاءاتها التأسيسية. لم يعد لهذه الأنظمة أي رأسمال سياسي أو أيديولوجي أو إنجازي تستطيع أن تستند إليه وتستمد منه شرعية الحكم والبقاء في سدة القيادة من دون أي توكيل شعبي انتخابي واضح ولا لبس فيه. هذه الأنظمة، جمهورية أكانت أم ملكية، تسلمت الحكم مباشرة بعد انقضاء الاستعمار الغربي للبلدان العربية إما عبر حروب تحرير أو معاهدات انسحاب. في حقبة الدولة المستقلة اعتاشت هذه الأنظمة على شرعية متدرجة تم تخليقها عبر تجميع أجزاء مبعثرة من شرعيات ومصادر غير مكتملة بذاتها. تضمنت تلك الأجزاء شرعية الاستقلال نفسه، إذ إن أي نخبة حاكمة وشكل سياسي خلف الاستعمار تمتع بشرعية ما. تبع ذلك شرعية الوعد بالإنجاز، ذلك أن الدولة الوطنية والنظام الحاكم وعدا الشعوب بإنجاز دولة قوية واقتصاد ناجح وعدالة اجتماعية. ثم كانت هناك، في المشرق تحديداً، شرعية مواجهة إسرائيل حقيقة ام ادعاء وتوظيفاً. وترافق مع ذلك كله شرعية التحالفات الدولية في حقبة الحرب الباردة واستقطاباتها الحادة، وأخيراً وبعد انقضاء تلك الحرب تولدت شرعية الوقوف أمام "غول الإسلاميين" والتي استثمرتها الأنظمة لإطالة عمرها واستدعاء المزيد من الدعم الغربي. بالتوازي مع الجهد المتواصل في تركيب تلك الشرعيات وإعادة إنتاجها تم إجهاض أي حلم للديمقراطية والمشاركة السياسية تحت مزاعم عديدة. فمقابل ما كانت توفره تلك الشرعيات من مسوغات ظرفية ومبررات تحتمي بها الأنظمة، كان على الشعوب أن تتخلى طوعاً أو كرهاً عن أحلامها بالحرية والتحكم بمصيرها ومستقبلها.
الآن دخلنا مرحلة تآكلت فيها كل تلك الشرعيات واحدة إثر الأخرى في البلدان العربية من دون أي استثناء. وإن كان ذلك التآكل قد بلغ درجة السقوط التام والكلي في حالتي الريادة التونسية والمصرية ثم في حالات ليبيا واليمن وسورية، فإن ذلك لا يعني استثناءه الحالات الأخرى وخاصة الملكية منها. فأيلولة تذري وتهشم الشرعيات التي قامت عليها الأنظمة العربية تحدث يومياً، ولو تحلت هذه الأنظمة بأي بعد نظر حقيقي لرأت المشهد كما هو ومن دون تجميل وتزويق بطاناتها من منظري "نحن مختلفون". فالمشهد يمكن اختصاره عملياً على شكل صورة سباق بين التآكل المتسارع في الشرعية والذي يقود إلى السقوط المدوي، ومحاولة الأنظمة (الملكية) الحفاظ على نفسها بواسطة الإصلاح الحقيقي. لكن بسبب عدم رغبة الأنظمة ومستشاريها الاعتراف بهذا المشهد بعيداً عن كل العمليات والأوصاف التلطيفية فإن الخلاصة هي أن التآكل يكون أسرع بكثير من وتيرة الإصلاح بما يقود إلى تراكم المآزق وانفجارها. وعند ذلك، وفي فترة لاحقة، فإن الفشل الذريع هو الذي يواجه التسريع الجراحي والإكلينيكي لإجراءات الإصلاح التي تتم عن طريق تقديم تنازلات كبيرة ومدهشة من قبل النظام لكن متأخرة عن وقتها ومتخلفة عن الحراك والمطالب الشعبية، وذلك كما شهدنا في كل حالات الثورات العربية من مصر وحتى سورية.
منظرو أطروحة "نحن مختلفون" يجرون ملوكهم وأمراءهم إلى الهاوية عندما لا يمتلكون الجرأة والشجاعة في مواجهتهم بالحقيقة المرة: الإصلاح الجذري أو السقوط المدوي. كل ما يمكن القيام به من إجراءات وسبل وقاية لا يتعدى تأثيرها فعل المسكن، ذلك أنه لا يمكن إيقاف عجلة التاريخ المنحازة إلى الشعوب وحرياتها، والتي وصلت بإنسان القرن الحادي والعشرين لأن يرفض أن يُحكم وراثياً وعائلياً ويُتحكم به وبثرواته ومستقبله من قبل فئة أو شريحة غير منتخبة ومفروضة عليه مهما كان المسوغ أو المبرر.

*جامعة كامبردج..بريطانيا

www.deyaralnagab.com