logo
'ما مُت..شفت من مات'!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 27.04.2011

هذا المثل الشامي القح ينّم عن حكمة وبعد نظر، وفيه عظة وتذكير لمن يغترون وينسون ويجهلون.
لا أحد رجع من الموت ليخبرنا عن كنهه، ولكننا رأينا من ماتوا، ولذا وعينا بأن الموت هو نهاية كل حي، وأن أحدا لا يخلد على هذه الأرض، لأن كل نفس ذائقة الموت، ومن وعى هذه الحكمة الخالدة سيتواضع، فردا كان، أو حاكما، أو نظام حكم..والأمور دول!.
أجيال عربيّة رددت عبارة أحمد التونسي التي نطق بها بحسرة وهو يتلمس شعر رأسه الأشيب: نحن هرمنا..هرمنا بانتظار هذه اللحظة المجيدة.
نعم: نحن في بلاد العرب هرمنا ونحن ننتظر فجر هذه الثورات التي تُسقط أنظمة حرمتنا من أبسط حقوق المواطنة.
نحن في بلاد العرب سواء، لأن أنظمة الحكم القاهرة للشعوب من طينة واحدة، ولا سيما أجهزتها الأمنية القمعية، فهي لا تحترم المواطن، تراه قاصرا وتنصب نفسها وصية عليه معنية بتأديبه ليخنع ويرضى بما قسمته ورضيته له!
بدأت نار الثورة من تونس. شعللت من جسد ذلك الفتى التونسي الممتلئ بالكبرياء والأنفة محمد البوعزيزي، بعد أن قدحت شرارتها صفعة كالتها له شرطية مثلت بفعلتها سفالة واستعلاء الأنظمة العربيّة مشرقا ومغربا.
من تونس اجتاحت نيران الثورة نظام كامب ديفيد الفاسد التابع، الذي انهار رغم كل محاولات ترويع شعب مصر..وها هو مبارك وأسرته في أذّل وأخزى حال، تغمرهم الفضائح ويجللهم العار.
سقط نظاما حكم عصيان على السقوط، أو هذا ما ظناه، وهو ما لم نتوقع حدوثه سريعا، حتى أن دولاً عظمى بكل ما لديها من (أجهزة) وأتباع وعملاء ومراكز بحث (مختصة) فشلت في توقع ما حدث.
لكن بعد أن اندلعت النار وأكلت نظامين فاسدين فاسقين، فقد انكسر حاجز الخوف، فنزلت الجماهير العربيّة المتحفزة إلى الشوارع والميادين والساحات التي حرمت منها لعقود طالت.
بعض نظم الحكم تنبهت وبادرت لتلبية بعض طلبات شعوبها قبل فوات الأوان، وإن باتخاذ قرارات تسكينية خجولة كما حدث في المغرب، وعُمان حيث بادر السلطان قابوس لإقالة وزراء مزمنين، ووعد بإصلاح قانون الانتخابات، وهو ما أدّى إلى خفوت أخبار التظاهرات التي تفجّرت..ولسنا ندري ما يحدث في (ظفار) وأخواتها، وإلى متى سيدوم الصمت هناك خاصة والإجراءات تسكينيّة غير جذرية.
مازالت ثورتا الشعبين اليمني والليبي تقدمان التضحيات على طريق الانتصار، وإن اختلفت وسائل الشعبين، وهنا يمكن تفهم الخصوصية، فاليمن بلد عدد سكانه كبير نسبيّا، ومدنه مكتظة، وغير بعيدة عن بعضها، بينما ليبيا بلد سكانه في حدود الخمسة ملايين، والمدن متباعدة..والقذافي استدرج الشعب للصراع بالسلاح، وبهذا أطال معاناة الشعب الليبي، وعقد مسيرته لانتزاع حريته التي سيبلغها بالمزيد من التضحيات وإن كلفته دماءً غالية.
ثبت أن هموم (الشعوب) العربيّة واحدة، وإن اختلفت أنظمة الحكم بين ملكية وجمهوملكية وسلطنية، وأن هذه الشعوب المتآخية المنتمية لأمة واحدة تتعلم من بعضها، وتستقوي ببعضها، وأن نظم الحكم التي بوغتت وبهتت ـ بهت الذي كفر ـ استفاقت على تداعي سُلطتها الخاوية المسوسة، وضعف قبضاتها، وتجلّى (تآخيها) بالتجييش لإنقاذ نظام الحكم في البحرين، بالترافق مع تصعيد الشحن الطائفي (سني شيعي)!
هل كانت النار ستتوقف عند حدود أي بلد من بلاد العرب؟!
نعم، في حالة المبادرة وبسرعة للإصلاح الجدّي، فنار الثورة ما كان لها أن تتوقّف عند حدود هذا البلد أو ذاك، لأن مخافر الحدود، وأجهزة (الأمن)، وأساليب المطاردة والملاحقة المخابراتية فشلت في تونس، ومصر، و..ها هي تفشل في اليمن وليبيا، و..ستفشل في كل البلدان العربيّة لأن سياسة القمع، ووحشية الأجهزة الأمنية ستتهاوى أمام (إعصار) غضب ملايين العرب الذين كفروا بأنظمة الاستبداد والفساد.
كثيرون تمنّوا أن يبادر نظام الحكم في سورية لاتخاذ قرارات إصلاحية موعودة طال انتظارها، أن يلتقط اللحظة، ولكن التردد والانتظار والبطء تسببت بتفجّر التظاهرات في درعا، وبعد درعا في مدن سورية شمالاً وجنوبا ووسطا.
راهن نظام الحكم على (وطنيته) ومواقفه الداعمة للمقاومة اللبنانية ممثلة بحزب الله الذي انتصر مرتين في العام 2000 والعام 2006 بفضل الدعم اللوجستي والتسليحي والسياسي السوري الذي لا يمكن إنكاره والتقليل منه، ورفض تقسيم العراق، واحتضان فصائل فلسطينية ما زالت تعارض.
راهن نظام الحكم في سورية على أنه مختلف، فهو ليس نظام كامب ديفيد الذي مزّق الأمة وأضعفها، وسورية جغرافيا سياسية مؤثرة على حاضر ومستقبل العرب، وهي مانعت في الوقت الذي لم يكن فيه من يمانع سواها، وهي لم تستجب لمحاولات حرفها وابتزازها، ووسعت هوامشها ببراعة في نسج العلاقة مع (تركيا)، ولم تعد (أسيرة) العلاقة مع إيران وحدها.
كل هذا صحيح، ويحتسب للقيادة السورية، ولكنه لا يكفي لتبرير تأجيل الإصلاح الموعود منذ العام 2005، والذي صار ملحا بعد تفجّر الثورات التي أسقطت أعتى نظام عربي مستبّد: نظام مبارك.
منذ بدأت النار تشتعل في درعا لجأ النظام لاستعمال العنف، وسقط الشهداء، رغم أن المتظاهرين حددوا وسيلة احتجاجهم: سلمية سلمية..ولم يرفعوا شعار: الشعب يريد إسقاط النظام.
الجماهير في درعا، ودمشق، واللاذقية، ودوما، وبانياس، وحمص، وإزرع ..وجبلة مسقط رأس الشيخ عز الدين القسّام مفجّر ثورة فلسطين الكبرى، وغيرها..قرنت سلميتها بمطلب: الحريّة..إلاّ أن الرصاص اخترق صدور العشرات فسقطوا شهداء وجرحى.
سورية مستهدفة من أطراف كثيرة ترى في ضربها إنهاء لحزب الله، والفصائل الفلسطينية المتواجدة في دمشق، وتقوية لنظام الحكم العميل في العراق، واستعادة لبنان ليكون وكرا للانعزاليين المتصهينين.
الطبيعي والأمر كذلك أن يستقوي نظام الحكم في سورية بالشعب السوري صاحب التراث الثوري القومي، والذي كانت عاصمته دمشق قلب العروبة النابض دائما.
أعلن النظام منح ألوف الموطنين الأكراد الجنسية السورية، وهذا عمل جيّد في حال نفّذ فعلاً، ثمّ انتظر، وكل يوم في هذه الظروف له ثمن، ثمّ أعلن رفع أحكام الطوارئ، وإلغاء محكمة أمن الدولة..وأثناء ذلك سقط شهداء وجرحى، فتأجج غضب الشعب..حتى وصلنا إلى يوم الجمعة الدامي الذي سقط فيه قرابة المئة مواطن صرعى بالرصاص الحّي!.
بعد رفع حالة الطوارئ، وإلغاء محكمة أمن الدولة فإن الطبيعي أن يُفرج عن كل السجناء السياسيين، وأن تنهى المادة 8 التي تنص على أن حزب البعث هو قائد المجتمع، فالحزب أي حزب لا يأخذ مكانه ومكانته بقرار يفرض بالقوّة، أو بمادة في الدستور.
أما يكفي درس الاتحاد السوفييتي على فشل الحزب الذي ينصب نفسه ديكتاتورا باسم الجماهير الكادحة؟!
حرية الأحزاب، إنهاء التحكم أمنيا في الشعب، حرية الصحافة، التناوب على السلطة ديمقراطيا، سيادة القانون، إنهاء الفساد.. كلها حقوق يستحقها الشعب السوري، وكل الشعوب العربيّة، وتحقيقها سيسد أي فجوة يحاول أعداء سورية المرور منها.
حتى لا تسقط سورية في الفوضى، يجب أن لا يوجه الرصاص إلى صدور المطالبين بالحرية، الذين رغم ما نزف من دمهم النبيل ما زالوا يلحون على سلمية التظاهر، ويطالبون بالحوار مع (النظام).
شعب سورية العربي الأبي في مقدمة أجدر أبناء الأمة في التمتع بالحرية والسيادة، والحوار معه لا يكون بتوجيه الرصاص إلى صدور أبنائه.
سورية ستكون أقوى بمنح الشعب كافة مطالبه، لأنها ستكون قلعة عصيّة على الاختراق من داخلها، والاستهداف من خارجها!!


www.deyaralnagab.com