صَلـَّعَتْ!
بقلم : ميسون أسدي ... 01.04.2011
أخذت تزيح كفيها تدريجيا وببطء عن عينيها، حتى يتسنى لها رؤية مصابها الجديد.. ارتعبت لمرأى عينيها، صرخت لكن صوتها محبوس. نظرت ثانية إلى وجهها في المرآة وانفجرت في البكاء المر بلا انقطاع وصدرت منها صرخة مبحوحة. لم تصدق ما رأته عيناها.. أخذت تلطم وجنتيها وكأن رأسها انفصل عن جسدها وبات جثة لا يشعر بوخز ضرباتها على وجنتيها اللتين أصبحتا قاتمتين من شدة احمرارهما.
هدأت قليلا وبدأت تدرك ما آل إليه حالها، لم تصدق أنها أصبحت صلعاء ورأسها أملس كحجر الصوان.. كيف سينظر إليها كل من سيصادفها.. شعرت بأنها مخدرة، فاقدة القدرة على فعل أي شيء وأنها ليست بكامل حواسها، بل تعيش في وهم وكأنها بين الحلم واليقظة.
لم تجرؤ طوال الليل أن تنظر إلى المرآة، انتظرت طلوع الشمس ودنت من مرآتها مغمضة العينين.. قائلة: ماذا سأفعل، كيف سأواجه الناس بدون شعري الجميل الذي كانت تحسدني عليه بنات جيلي وأمهاتهن؟!
علا نحيبها، حين تذكرت حفل عرس ابنة عمها وأخذت تحدث نفسها قائلة: يا ويلي، فأنا في كل حفلة عرس من أقاربي وصديقاتي أصعد إلى المنصة وأغني أغنيتي المفضلة، يا دروبي يا دروبي والتي يطلبونها مني باستمرار، وأتغنج بشعري يسارا ويمينا حين أغنيها، كيف سأصعد إلى المنصة وأغني وأنا صلعاء.
أجهشت بالبكاء، ثم قالت تهدئ نفسها: لحظة، لقد سمعت أو قرأت مرة عن مغنية صلعاء، ربما كان ذلك في فيلم أو مسرحية.. أهذه المغنية فعلا صلعاء؟.. لا، لا أعتقد ذلك، ربما جاء هذا الاسم مجرد رمز لشيء ما، ومن المستحيل أن تكون هناك مغنية صلعاء!
أخذت نفسا عميقا ونفثت الهواء من رئتيها دفعة واحدة ثم قالت: يجب أن أخرج من هذه الورطة، لكن كيف؟ هل أدعي بأنني أصبت بذاك المرض الخبيث وتساقط شعري نتيجة العلاجات الكيماوية؟
مضت لحظات قليلة وهي تحبك الديباجة لما ستدعيه، لكنها على حين غرة رفضت قائلة: أنا أكره نظرات الشفقة من عيون الناس، وخاصة من عيون الأفاقين الذين يدعون الشفقة وفي داخلهم يتمنون لك الموت، سيمطرونني بالأسئلة التافهة، لن يتفهم أحدا وجعي وألمي، سيبتعدون عني وكأني أصيبت بالجرب، ستشفق عليّ الفتيات اليانعات اللواتي يتمثلن بي... لن أكون هدفا للشفقة وأنا التي كنت أتحدى الجميع بجمال شعري الكثيف الأملس المنسدل على كتفي بطول نصف متر.. أغظت بجدائلي الكثير من الحسناوات، حتى النسوة كبار السن، نظرن إليّ بعين الحسد.. لن أعطي فرصة للمتزوجات الشامتات اللواتي كن يغرن مني.
أصبح عويلها مكبوتا، وحتى لا يسمعها أحد، أخذت تئن بصمت من وجع في كل أنحاء جسمها.. أخذت تكز بأسنانها على قبعة وجدتها بين ملابسها وهي تهم أن تضعها على رأسها. اعتراها شعور بالفراغ والحنين، وبأنها لا تفهم شيئا مما حدث لها.. لا، لن أدعي المرض، فهذه الكذبة لن تكون لصالحي وفي كل الأحوال لن أستطيع الإجابة على جميع الأسئلة حول المرض نفسه.
وضعت القبعة على رأسها، نظرت ثانية إلى المرآة وقالت سأرتدي الحجاب وأتظاهر بالتدين.. لكن ماذا ستقول جميع النساء المحجبات اللواتي كنت أسخر منهن لأنهن يتسترن بالحجاب ويفعلن كل ما هو نقيض.. لا لن أسمح لأحد بأن يتهمني بالكذب، فأنا دائما كنت أتحلى بالكلمة الصريحة والصادقة ولو على قطع عنقي، وقد دفعت ثمن ما فعلت غاليا.. لن يذهب كل ذلك هدرا.. وهذه الكذبة لن تكون لصالحي.
أنزلت القبعة عن رأسها وأخذت تتأمل مليا ملامح شكلها الجديد، ولاحظت للمرة الأولى أن جيدها طويل وجميل، وانتبهت إلى كثافة حاجبيها وطول رموشها، فراق لها المنظر وبدأ الهدوء يتسرب إلى أحشائها وهي تشعر بالارتخاء، ورويدا رويدا اكتشفت بأن هناك أشياء جميلة في وجهها لم تلحظها من قبل كجبينها العالي، وأذنيها الناعمتين حتى أنفها وشفتيها وعينيها أصبحت أجمل. برز جمال وجهها ومفاتنها بعد أن تخلصت من الشعر المبعثر الكثيف الذي كان يسرق النظرات من الآخرين ويلهيهم عن تقاطيع وجهها الجميل.
ابتسمت وتساءلت هل يمكنني أن أخرج إلى الناس بصلعي هذا وأقول لهم بأنني أنا اخترت هذا الشكل لأنه أجمل؟ رفعت رأسها قليلا، ثم سوت جلستها وتنحنحت قائلة: ما المشكلة.. حتى الملكة الفرعونية نفرتيتي كانت صلعاء وأنا أعرف أن المقاييس الجمالية لملكات جمال العالم هي نفس مقاييس نفرتيتي، فأنا لست أول صلعاء ولا آخر صلعاء، ويمكن أن يكون صلعي هو جنون رائع في هذا النهار، وسيبقى ذلك مرتبطا بفكرة رمزية وبموقف إنساني خالد، فالصلع هو نوع من الاحتجاج عما يجري حولي من مظالم، وما هي إلا أزمة وسأتجاوزها.
وأخذت تسترد ابتسامتها ولكن نظرات الحقد كانت تخرج منها وتصطدم بالمرآة لتعود إليها، ثم قالت بصوت مرتفع: ماذا سأفعل بهؤلاء الذين تسببوا بصلعي؟؟
تذكرت تفاصيل ليلة أمس، عندما ضبطها شقيقها مع عشيقها على سطح البيت، تسعى وراء حبها للحياة، تريد أن تقبض على الزمن قبل أن يفلت منها. جرها شقيقها من شعرها إلى داخل البيت ونادى أشقاءه الذين قاموا بتقييدها وإغلاق فمها. حلقوا لها شعرها.. لم تقاومهم وكانت دموعها تسيل بهدوء على وجنتيها. اعتراها شعور بأنها لم تفهم شيئا مما حصل، بل كانت تسمع صوت موس الحلاقة على رأسها، وحمدت الله بأنه لم يصل إلى عنقها، أرادت الوقوف على حقائق أبعد وأعمق.. كيف يمكن لإخوتها أن يرتكبوا هذه الفعلة وينتزعوا عنهم إنسانيتهم، أأصبحوا كالذئاب التي تعوي وتنهش كل ما يصادفها، لماذا اقترفت أيديهم ما فعلوا.. هل هم سجناء الخوف من الحب. جل ما أرعبها، كان موقف والدتها المستهزئة والناقمة والمشجعة لأشقائها.. فتساءلت: كيف يمكن لامرأة أن تهين إنسانًا خرج من رحمها..
عادت إلى الحديث ولكن هذه المرة بهمس وكأنها تخشى أن يسمعها أحد: سأخرج إلى الناس، سأغادر بيتي وأطوف في شوارع البلدة، وكلما سألني أحدهم عن صلعي سأخبره بالحقيقة الكاملة: أشقائي حلقوا شعري لأنهم ضبطوني مع عشيقي، سأجللهم بالعار.. أيعتقدون بأنني شرفهم.. سأنتزع هذا الشرف منهم وليظهروا عراة كما ظهرت جلدة رأسي.
(حيفا)
www.deyaralnagab.com
|