شجرة الغولة في ذمة الله!!
بقلم : موسى الحجوج ... 08.10.2010
كانت إحدى النساء تسير في ساعات الغروب وهي تنظر حولها وتلتفت إلى جميع الاتجاهات حتى مرَّت بجانب شجرة سدرٍ قديمة جداً في منطقة الخَزَّان, وكانت هذه المرأة تبحث عن أغنامٍ لها قد تاهت وضلّت الطريق، وأثناء مرورها بجانب السدرة القديمة قطع مسيرها صوت يناديها من الخلف فالتفتت وراءها لترى امرأةً غريبة تلبس لباساً أبيض وتقول لها: «يا بنت بتدوِّري على دوابكِ ، ارعهن وراء البطين »، وانقطع الصوت واختفت المرأة من مكانها وكأنها لم تكن موجودة.
وعلى الفور أصاب المرأة الخوف والهلع، وعادت لأهلها وقد انعقد لسانها ولم تعد تستطيع النطق، وبعد تلك الحادثة بأيام بَخَّرها أهلها في المكان وعادت إليها عافيتها.
لا زلت أتذكر تلك القصة وغيرها من القصص عن سدرة الغولة المشهورة التي تقع في منطقة الخزَّان , كنتُ أترك لأذني حريتها المطلقة في التقاط القصص عن هذه الشجرة في الديوان أو الشِّقّ رغم أن سني لم يكن يتعدى يومها الست سنوات، فقد كان الشقّ بالنسبة لي مدرسة من مدارس الحياة أسمع فيه قصصاً وحكاياتٍ وغرائبَ أطرب لها وأستمتع بسماعها.
وكان كبار السن يتحدثون ويتحدثون، وكنتُ كلما أسمع كلمة الغول أو الغولة أشعر برعبٍ شديد عند ذكر اسم هذه المخلوقات المخيفة، وقد ذكر شيخٌ تخطّى التسعين عاماً أن جده الذي توفي قبل أكثر من خمسين عاماً كان يذكر قصصاً وحكايات عن هذه الشجرة، مما يدلّ على أنها كانت موجودة قبل مئات السنين، فهي بعمر الحضارة بل أكثر من ذلك، لأن قصصها عالقة في أذهان الناس وذاكرتهم الطيبة على مر العصور.
وهكذا تولَّد لديّ حب التراث وحبّ الأرض والإنسان، وكنتُ قد تولعت بحب هذه الشجرة دون أن أراها، والأذن تعشق قبل العين أحياناً، حتى أُتيحت لي فرصةٌ وأنا حديث السنّ أن أراها لأول مرة في زيارة لي لأقرباء يسكنون بقربها.
لقد كانت الشجرة في روعة جمالها، تقع في وادٍ صغير، وأذكر أن الأولاد كانوا يأكلون من حَبّ النبق المتدلي منها وهم عائدون من المدرسة، أو وهم يرعون أغنامهم حولها.
ويبدو أن الأغنام كانت تخشى الشجرة أسوة بالبشر، فلا تَجرؤ على الاقتراب منها أو حتى ملامستها، وكنت حين أنظر إليها أشعر أنني أرى غولةً كبيرةً سوداء اللون تسكن حولها، ثم تخرج من تحتها وتنطلق نحونا، وكان مجرد الخيال يخيفنا ويجعلنا نبرح المكان بسرعة.
كنت أجلسُ كثيراً أنظر إلى هذه الشجرة الطيبة، أنظر محدقاً إلى سدرة الغولة وإلى الأرض التي حولها، حتى أن العديد من الناس استغرب أمري، كيف يجلس طفل في مثل عمري لساعات طويلة وعيناه مصوبتان نحو الشجرة دون أن يرفّ له رمش أو يمل من جلسته، وكنت انتظر خروج الغولة من تحت الشجرة كي أكلمها أو تكلمني مثلما سمعت عنها من حكايات.
وكبرتُ وسارت بي الأيام وأخذت أزور الشجرة على مدار الأيام لا انقطع عنها بالمرة، وكانت كالعروس في ليلة زفافها تزداد جمالاً ونضرةً وبهاء، وكنت انتظر الغولة لتخرج منها، ولكنها لم تفعل ولم يحدث ذلك الأمر بالمرة.
كبرت الشجرة وكبرتُ معها، فكانت تقي عابري السبيل من حرارة الشمس الحارقة نهاراً، فكانوا يستظلون بظلها الوارف فتعطيهم الدفء والراحة دون أن يعلم أحدٌ عن أسرارها شيئاً.
وكبرت الشجرة وأخذ جمالها يزداد ويزداد، وكأنها تتغلب على الزمان الذي يحاول أن يُجعّد بشرتها ويحولها إلى شجرة بالغة هرمة، تترك جمالها لعثرات الدهر ليحولها إلى شجرة عجوز، ولكن يبدو أنها أجمل من ذلك بكثير، فكلما كبرت ومرّت عليها الأيام كانت تزداد بهاءً وجمالا.
ويذكر بعض كبار السن في روايتهم عن تاريخ هذه الشجرة أن الغولة التي تسكن حولها قد خرجت لأحدهم على شكل كلبٍ أسود قاتم السواد بينما كان يمر ليلاً من هناك.
وفي حكاية أخرى أنها ظهرت على شكل خيوط سوداء متطاولة تسير مع الحرّاث في سيره، وفي قصة أخرى كانت على شكل عنزة حمراء اللون بطول الحمار.
أبدع أهلنا في سرد الحكايات عن شجرتنا الحبيبة، وآمنوا أن الغولة تسكن تحتها، وكنت أرى أنهم يكنون لها الاحترام، وشيئاً من الخوف ولا يسمحون لأحد أن يمسها بسوء أو يتعرض أو يصيبها بمكروه.
كبرت الشجرة وازداد جمالها، وكانت في الشتاء تصبح في روعة الجمال وتتحمل البرد القارس، وفي الصيف تلبس حلةً جديدة من ورقها النضر لتسحر المكان بجمالها الخلاب، لكن يبدو أن هناك من كان يضمر لشجرتنا الطيبة شراً ويكيد لها المكائد.
حتى جاء ذلك اليوم الأسود، ذلك اليوم الذي كنت أدعو الله ألاّ يأتي، كنت أدعو ربي أن يتوقف الزمان لحاجة في نفسي، وهي أن أرى شجرتي الغالية التي تعلقت بها منذ حداثتي شامخة لا يمسها أحد بأذى.
سرت إليها وجلست بقربها لساعات من الوقت أصورها صورةً جميلة، ثم من شدة حبي لها كنت أصورها واكرر فعلتي تلك مرات ومرات، وكان المار من حولي يتعجب من هذا الأمر، نعم كنتُ صغيراً أمكث بجانبها وحولها، واليوم وأنا كبير أمكث حولها ولكن سيّان بين الأمرين.
كنت أذرف دموع الحزن وأنا أرى الجرافات القاتلة التي لا تعرف الرحمة تقترب من شجرة الغولة شيئاً فشيئاً، جرَّافات صنعها الإنسان لتهدم الجمال والمحبة والذكريات، تقترب هذه الجرَّافات وتقترب، وكلما اقتربت كنت ازداد في بقائي حولها وتمسكي بها، كنتُ أخشى حلول الصباح وأحن لحلول الظلام، لأن في الظلام السكينة والهدوء فتصمت الجرَّافات وليتها تصمت للأبد فتبتعد عن شجرتنا الحبيبة، وفي النهار تعود الضوضاء وتعاود الجرَّافات مسيرها وزحفها القاتل نحو البراءة والحب.
وسارت الأيام وجاء ذلك اليوم الأسود، جاء فيه الجزار والسفاح الذي لم يعرف قلبه يوماً معنى الحب أو الرحمة، جاء الذي يريد أن يدمر ويشوه تراثنا وينزعه منا بالقوة.
اقترب من الشجرة الجميلة الطيبة، اقترب منها شيئاً فشيئا كاللص الذي يسرق حلى وجواهر العروس ليلة زفافها، أخذ يتسلل بخفة ويدنو منها شيئاً فشيئا، وكان ذلك يوم الخميس الثالث عشر من شهر آب عام 2009، وفي ساعات الظهيرة هجم اللص على شجرتي الطيبة ودون سابق إنذار اقتلعها من جذورها، ودون أي رحمة أوقعها بعنف شديد، فهوت إلى الأرض، وسكتت مرة واحدة جرَّافة ذلك السفّاح، فنزل من جرَّافته وأخذ يعالج ذلك الخلل الذي أصابها.
جئت إلى شجرتنا المسكينة فوجدتها شامخة وباسمة، فكانت أقوى وأحنّ وأجمل من جلادها وجزارها، لم تستسلم للموت مرة واحدة فهي ليست كجلادها الجبان الذي يخشى الموت بمجرد ذكر اسمه، كانت أطول من الجلاد عمراً وأحنّ قلباً، فواجهت مصيرها بكل حبّ وحنان وأسلمت روحها إلى خالقها دون أن تشكو أو تلعن أو تتوسل، إنها العزة والكرامة التي كانت تعيشها في حياتها.
وجدتها تلفظ أنفاسها الأخيرة، وقد لفظتها وهي باسمة الوجه تبتسم وودعتني دون أن تنبس بكلمة، لقد فارقت الحياة وهي سعيدة بقدرها المحتوم.
وأكمل الجلاد عمله بعد أن توقفت جرَّافته عن العمل فترة من الوقت، أكمل عمله وكأن شيئاً لم يكن، وكانت لحظة موتها كلحظة يسكت فيها الكون وتسكت فيها الحياة على كل من عرف لحظة موت شجرتنا الطيبة.
حقيقة لا أعرف لماذا تقلع شجرة شاهدة على عصور وتحمل في ذاكرتها حياة وتاريخ أمم وشعوب مرت على جلدها وهي شامخة باسقة، وهل هو من أجل ما يسمى زوراً «رهط جنوب»، ثم لماذا لم يأخذوا بالحسبان أماكننا الأثرية من هَرَابٍ وآبار وأشجار وغيرها ليحافظوا عليها.
في إحدى قرى ريف ألمانيا كانت الدولة تريد أن تشق شارعاً لأهل القرية الصغيرة، وكان تخطيط الشارع لا بد أن يقتلع أشجاراً لها ذكراها الطيبة عند أهل القرية حيث اعتقدوا أن أحد القديسين يسكن بجوار الأشجار الثلاثة، لذلك عظمت قدسيتها عند الناس وأثنوا الدولة عن قرارها الذي اتخذته فغيرت اتجاه الشارع والخطة نهائياً، لكن ما الفرق بيننا وبينهم، لا أريد أن أذكره.
www.deyaralnagab.com
|