ممدوح عدوان ورؤيا الدماء!!
بقلم : نمر سعدي ... 14.06.2011
(1)
حيالَ كلِّ ما يجري في سوريا من ظلمٍ وتقليلٍ وانتهاكٍ لحقوقِ الإنسانِ الأساسيَّةِ لم أجد من عزاءٍ لنفسي سوى الرجوعِ إلى دواوين الشاعر والمثقَّف السوري الكبير الراحل ممدوح عدوان الذي أصبحتُ أسمِّيهِ الرائي الأعظم فقلَّما تخلو قصيدةٌ لهُ من أطيافِ الدمِّ التي تنهمرُ اليومَ على أرضِ سوريا الصامدةِ وتدقُّ النوافذَ والترابَ والبشرَ والحجرَ والفضاءَ. الدماءُ اليومَ في سوريا تدقُّ كلَّ شيءٍ ولم تعد تدقُّ النوافذّ وحدَها كما في شِعرِ ممدوح عدوان.في هذهِ المقطوعةِ وهيَ من قصيدةِ "رصاصات بيضاء للأيامِ السوداء " يصوِّرُ لنا في الأمسِ ما سيحدثُ في وطنهِ بعدَ سنين.. أي الآن:
حين أتاني النبأُ الدامي في عَجَلهْ
لم أسألْ نفسي : مَن قَتَله ؟
فالأسئلة عن القاتل ماتتْ
منذ اختنق الأخوة تحت رداء من صمت في أيلولْ
وتعلّق عنقودُ نجومٍ بمشانق سوداء على النيلْ
منذ نضوب الماء من المُدُن العربيهْ
ورجال ، كالأشجار ، اقتُلعوا
وابتُلعوا في الرمل المتحرّكْ
غرقوا شبراً شبراً .. رجلاً رجلاً
ما مُدَّتْ لهمُ يدْ
لم يتحرك حولهمُ غير كلام كحبال يمتدْ
يتحول بعد الخنق رثاءً وأكاليلْ
وحصاراً من جوقات وطبولْ
وعلى مفترقات دروب الثورة
بين حقول الفلاحين
في الحارات المهجورة ، بين صفوف الشعب المعزولْ
يترصدنا القَتَلَهْ
ولذا لم أسأل نفسي يوماً :
من منهم سيكون القاتل ؟
بل كنت أقولْ :
من منا سيكون المقتولْ ؟
وبالرغمِ من أنني لم أقرأ ممدوح عدوان إلاَّ مرَّة واحدةً فقد وجدتُ الكثيرَ من المتعةِ وأنا أعيدُ قراءتهُ ثانيةً ذلكَ أنه شاعرٌ فذٌّ لا تستطيعُ أن تسبرَ غورَ شاعريَّتهِ من قراءةٍ واحدةٍ فحسب. وهو في نظري صاحبُ واحدةٍ من أروع وأجمل الرواياتِ العربيَّةِ التي كُتبتْ في القرنِ العشرين وهيَ روايةُ " أعدائي".
كانَ ممدوحُ يؤسِّسُ في أحلامهِ الشعريَّة العابثةِ المعذَّبةِ لخلاصنا المنشود من خللِ الرمادِ والدخانِ ورؤيا الدماءِ التي برعَ في رسمها.
(2)
وقد لجأتُ إلى موقعِ " أدب " على الشبكةِ العنكبوتيةِ لعدمِ توفُّري على جميعِ مؤلفاتهِ الشعريَّةِ.. وفي الحقيقةِ صُدمتُ ممَّا رأيتُ.. ممدوح يستعملُ كلمة دماء عدةَّ مرَّات في القصيدةِ الواحدة كأنَّ هذهِ الكلمة من موتيفاتهِ الشعريَّة المفضَّلة وبما أنني لا أرى إلاَّ الجماليَّ في قصيدتهِ فقد انزعجتُ قليلا من ترديدهِ لمفردةِ الدمِّ وحدستُ بأنَّه كانَ يتنبَّأُ بما يجري الآن في سوريا من سحقٍ لجماجمِ البشر وسحلٍ لأجسادِ الصغارِ الغضَّةِ لا لشيءٍ سوى مطالبتهم بحقِّ الحريَّةِ أو حقِّ تقريرِ مصيرهم في مزرعةٍ آل الأسد التي تعجزُ الكلمات عن وصفِ ظلمهم وحقدهم واستبدادهم حتى أنني أخذتُ على قناةِ الجزيرةِ نقلها الصورَ المريعة والمروِّعةَ للمشاهدين ومنها صورة الشهيد الطفل " حمزة الخطيب" ولكنني تراجعتُ بعدَ ذلكَ لعلَّ وعسى يتحرَّكُ هذا العالمُ الأنانيُّ الصلفُ غيرُ المبالي أو يستيقظُ من جمودِ وبرودِ سباتهِ أو موتهِ الأخلاقي.
(3)
كانَ ممدوح مسكوناً بألمٍ قوميٍّ عظيم ومغلَّفا بحزنٍ إنسانيِّ رقيقٍ لهذا السبب كنتُ أجدُ في كتابتهِ سواءَ الشعريَّة أو الروائيةِ أو حتى المسرحيَّةِ شوقاً عارماً للحريَّةِ وكنتُ ألمسُ حساسيَّة بالغةً تجاهَ الوضعِ السائد الغارقِ في القهر والتعسُّفِ في بلدٍ يتطلَّعُ إلى الحريَّةِ من وراءِ سدُفِ التنكيلِ والقتلِ والذلِّ والظلمِ وغياهبِ الدكتاتوريَّةِ.
ولهذا كانَ شاعراً ثورياً بكلِ ما تنطوي عليهِ الكلمة من أبعاد.. وكانت مسرحياتهُ وأعمالهُ الدرامية فضلاً عن شعرهِ تحملُ طابعاً إصلاحيا وروحاً كسيرةً تجرُّ الكثير من خيباتِ الأملِ في التغيير... لقد كانَ يعرِّي الواقعَ المدقعَ في الفقرِ والمحسوبيَّةِ والظلمِ بالسخريَّةِ المبطَّنةِ حيناً والمعلنةِ أحياناً.. بلا خوفٍ أو وجلٍ وبشجاعةٍ نادرةٍ.
(4)
ما يجري اليومَ في سوريا يدعو إلى الضحكِ قبلَ البكاء.. فهذهِ الروايات المتناقضة في وسائل الأعلامِ المختلفةِ تجعلكَ لا تفقهُ شيئاً فالفضائياتِ الإخبارية كالجزيرةِ والعربيَّةِ تنقلُ لكَ صوراً يقشعرُ لها البدنُ ويشيبُ لهولها الولدان بينما في التلفزيونِ السوري يصوِّرونَ الجحيمَ الذي نراهُ في جميعِ وسائل الإعلام وموقعِ يوتيوب على الإنترنت وكأنَّهُ مفبركٌ .. وكلُّ هذا الدمِ الذي يعصفُ بالبلادِ مصدرهُ حفنةٌ من المنشقِّين المتآمرين المسلَّحين الذينَ يرعبونَ الآمنين وكأنَّ سوريا فردوسٌ موعود وليست ولايةً استبداديةً يتحكَّمُ فيها طغمةٌ حاقدةٌ من آلِ الأسدِ.. يريدونها حرباً طائفيَّةً لا تبقي ولا تذر.
وأكثرُ ما يدعو إلى البكاءِ المرِّ تصريحات بعض أتباعِ النظامِ مثل بسام أبو عبد الله أو سفيرة النظام في فرنسا لمياء شكَّور. التي تصف النظام بالبطلِ وحامي حمى العروبة والإسلامِ.
أليسَ من البؤسِ الفكري أو ربما من الجنونِ المطلق أنَّه ما زال هناك من يؤمن بالنظامِ الآيلِ إلى رماد بعدَ كلِّ الفظائعِ التي يرتكبها عناكبُ الشبِّيحةِ السوداءُ باسمِ النظامِ البربريِّ الهمجيَّ الذي يطلقُ الرصاصَ على شعبهِ الأعزلِ لخروجهِ في مظاهرةٍ سلميَّةٍ للمطالبةِ بحقوقهِ.
(5)
لا عجب بأنَّ سوريا مهدُ الحضارةِ الإنسانيةِ فهيَ أمُّ الفينيقيينَ الأوائل الذين أناروا ظلمات القرونِ القديمة. وهيَ ملتقى الحضاراتِ وصاحبةُ مركز تاريخي لا نستطيعُ إغفالهُ وموقع استراتيجي لكونها قلبَ العالمِ الإسلامي. لا يستطيع أيُّ عربيٍّ أو مسلمٍ أو إنسانٍ أيٍّ كانت قوميتهُ أو جنسهُ أو دينهُ السكوتَ عمَّا يجري فيها.. وأخشى أن نتداركَها بعدَ فواتِ الأوان.. لا بُدَّ من إنقاذ سوريا أبو العلاءِ المعرِّي ومحمد الماغوط ونزيه أبو عفش وأدونيس ونزار قباني وشوقي بغدادي وعلي الجندي وحنَّا مينة وعبد السلام العجيلي ومحمد عمران وكلِّ الرائين الكبار لا بدَّ من إنقاذِ سوريا من براثنِ الوحشِ وبراثنِ الفتنةِ الأهليَّة .
www.deyaralnagab.com
|