logo
كفى تخويفاً من "البُعبع" الإسلامي!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 10.07.2011

الثورات العربية متعددة الأطياف ولا يدّعي طرف بعينه قيادتها أو تمثيلها
كلما وجد طاغية عربي نفسه على وشك السقوط، لجأ فوراً إلى تخويف شعبه والغرب من وصول الإسلاميين إلى السلطة. لقد تاجر الطغاة العرب وما زالوا يتاجرون حتى الرمق الأخير بالبعبع الإسلامي الذي، حسب كذبهم، سينقضّ على المجتمعات العربية، ويعيدها إلى عصور الانحطاط والظلام، وكأن هؤلاء الطغاة المتعلمنين أنتجوا أصلاً غير الانحطاط والتخلف والتحجر والتصحر السياسي والاقتصادي والثقافي. فعندما وجد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي نفسه محاصراً بثورة شعبية عارمة، راح كالعادة يحذر التوانسة ومعهم الغرب من الخطر الإسلامي. لكن، ولله الحمد، لم يصدقه أحد هذه المرة، لا شعبه الثائر ولا كفلاؤه في باريس وواشنطن وتل أبيب. وحدث ولا حرج عن الرئيس المصري المسقوط حسني مبارك، فقد تذرع لعقود بخطر جماعة الإخوان المسلمين كي ينهب مصر ويبقى حاكماً وسمساراً للغرب. أما القذافي، فأول تحذير مسعور وجهه للعالم عندما بدأت ضده الثورة الليبية المباركة هو أن تنظيم القاعدة سيقيم إمارات إسلامية في عموم ليبيا، مما سيهدد منطقة البحر المتوسط وأوروبا بأكملها. يا سلام! ولا داعي للإسهاب في الحديث عن متاجرة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح بالقاعدة وأخواتها لسنوات وسنوات للبقاء في السلطة وتمكين الأمريكيين في بلاده. باختصار، فإن معظم الحكام العرب يتحججون بخطر السلفيين كي يُمعنوا في قمع شعوبهم وسحق ثوراتها المباركة ليبقوا جاثمين على صدور العباد والبلاد.
آه كم علقوا من الأكاذيب على الشماعة الإسلامية، بحيث غدت تماماً كالشماعة الإسرائيلية والمؤامرات الخارجية من حيث الاستغلال الذرائعي الساقط لقمع الشعوب والتشبث بالحكم. آه كم مارسوا من السحق والمحق بحجة ملاحقة الجماعات السلفية المسلحة التي لا وجود لها إلا في خطابهم الإعلامي المقيت والحقير والكاذب على مدار الساعة.
ولعل أكثر الأكاذيب التي يسوقها الطغاة العرب ضد الإسلاميين أن هؤلاء أناس يحرّمون ويمنعون كل شيء، وفي حال وصولهم إلى السلطة فإنهم سيتدخلون في كل شاردة وواردة من حياة الشعوب، وبالتالي سيسلبونها الكثير من حرياتها، وسيحولون حياتها إلى جحيم. وهذه بالطبع نكتة سمجة للغاية. ولا أدري لماذا لم يجد الطواغيت العرب غيرها، لأنها تهمة لا تنطبق إلا على الطواغيت والديكتاتوريات الحاكمة دون غيرها. صحيح أن بعض الإسلاميين قد يفرض قوانين اجتماعية صارمة فيما يخص الأخلاق واللباس والعادات، لكن الديكتاتوريين المتعلمنين العرب الذين ما لبثوا يرعبوننا بالخطر الإسلامي لم يتركوا حرية لدى الشعوب إلا وسلبوها تحت حجج واهية منذ عشرات السنين، ولم يتركوا أمراً إلا وتدخلت كلاب صيدهم فيه. فبحجة الصراع الوهمي مع إسرائيل مثلاً، يعيش الكثير من الشعوب العربية محرومين من أبسط حقوقهم وحرياتهم الأساسية، إلى حد أن السفير البريطاني في إحدى الدول العربية تعجب قبل فترة من أن " بعض الثورات العربية الحالية لا تطالب بأكثر من الحقوق الأساسية". وهو شيء فعلاً عجيب للغاية، إذا ما قسناه بالكم الهائل من الدماء التي تسيل من أجل استرجاع تلك الحقوق البسيطة.
إن من مارس ويمارس القتل والفظائع والمجازر بحق الشعوب ليس العصابات الإسلامية، بل العصابات الأمنية الفاشية، فلم يشهد تاريخ بلاد الشام مثلاً أي اقتتال طائفي إلا عام 1862، أي قبل أكثر من قرن ونصف، عندما هاجم بعض المسلمين كنيسة أو اثنتين. وبالتالي فإن من يمارس التطويف والتحريم والمنع بأبشع أشكاله وأنواعه، ومن يتدخل في أبسط شؤون الشعوب ليسوا الإسلاميين، بل الحكام العلمانيون المزعومون ببلطجيتهم وأجهزتهم الأمنية المتكاثرة كالفئران، فلم يبق إلا أن ينشئوا جهاز أمن للمزابل كي يراقبوا الفضلات التي يرميها الناس في القمامة. ففي بعض الدول العربية تحتاج إلى موافقات أمنية حتى للزواج أو إقامة حفلة عرس، أو الغناء في زفة، أو فتح محل لبيع السندويشات، أو إقامة منشأة صغيرة لتصنيع النعال أو الأكياس البلاستيكية. بعبارة أخرى، الإنسان العربي في ظل تلك الأنظمة التي تدّعي العلمانية والحداثة محروم من أبسط حرياته، ومكبل بمئات القيود والمحرمات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تهون مقابلها أبشع الممارسات الطالبانية. أليس المنع السياسي أشد وأمض من المنع الاجتماعي؟ فما فائدة أن تسمح تلك الأنظمة التي تحكم باسم العلمانية مثلاً ببعض الحرية للمرأة، وفي الوقت نفسه تخنق الحياة السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية، وتؤمم كل شيء، وتحوّل البلاد إلى أرض يباب، فلا أحد يستطيع أن ينبس ببنت شفة لا في السياسة ولا في الثقافة ولا في الإعلام ولا في الاقتصاد، خشية أن يجد نفسه على حين غرة وراء القضبان لعشرات السنين تحت حجج واهية من قبيل تهديد الأمن القومي والنيل من هيبة الدولة وسواها من الخزعبلات المخابراتية السخيفة والمفضوحة. ويحدثونك عن الظلامية الإسلامية. وهل هناك ظلامية أبشع من هذه الظلامية الشمولية الساقطة؟
لم تعد فزاعة الإسلاميين تنطلي على أحد هذه الأيام، بمن فيهم المفكرون والكتاب العلمانيون أنفسهم الذين طالما هاجموا الخطاب الإسلامي وشيطنوه. وفي هذا السياق يتساءل المفكر العلماني الشهير الدكتور صادق جلال العظم:" لماذا يضع الحكام مجتمعاتنا أمام خيارات قاسية: إما استمرار استبداد دولة الأحكام العرفية وحالة الطوارئ والأجهزة الأمنية، أو حكم القوى الإسلامية الأصولية". ورغم أن العظم على عداء مستحكم مع الحركات الإسلامية بكل أنواعها، إلا أنه هنا يسخر بطريقة غير مباشرة من الخطاب الطاغوتي العربي السائد الذي لا هم له سوى تخويف الشعوب من الإسلاميين. أما المفكر والروائي المغربي الشهير الطاهر بن جلون فليس متخوفاً أبداً من أن تؤدي الثورات الحالية في نهاية المطاف إلى تسلّم المتشددين الحكم. فتوقّف بن جلّون مطولاً عند هذه النقطة مُعتبراً "أنّها مسألة حساسة، ولا بدّ من تفنيدها وفهمها. فاعتبر أنّ "المتشدّدين" كمصطلح وفعل هم ليسوا سوى نتاج الإعلام الأمريكي والأوروبي الذي استغلّ وجود بعضهم في الدول العربية، فعمل على تضخيم الأمر بما يصب في مصلحة دوله". وقد نجح الإعلام الغربي، برأي بن جلون، "في أن يجعل من هؤلاء وحوشاً ضارية في عيوننا، ما دفع بشعوبنا إلى الموافقة على تقديم التنازلات للطغاة عن حقوقها الأساسية في العيش الكريم خوفاً من أشباحهم، أي الإسلاميين". وفي هذا السياق أشار بن جلّون إلى أنّه جال في مصر، ووجد أنّ نسبة الأصوليين ليست كبيرة ولا مُخيفة أبداً، بل هي لا يُمكن أن تُحقق شيئاً. إلا أنّ الخطر الذي يجـــري الكلام حوله كان بمثابة الخدعة التي يستخدمها نظام حسني مبارك بالاتفاق مع الغرب من أجل تهديد المعارضين وتخويفهم".
أما في سوريا فلم يفز الإسلاميون بأكثر من ثلاثة إلى ستة بالمائة من الأصوات في الخمسينات رغم أنهم كانوا وقتها حزباً سياسياً شرعياً. وحسب مجلة "الإيكونومست" الحصيفة فإن الإسلاميين لن يفوزوا بأكثر من خمسة عشر بالمائة من الأصوات لو جرت انتخابات الآن.
وبالتالي بدلاً من المساهمة في شيطنة الإسلاميين والتحذير من خطرهم، لا بد من الاستفادة من تأثيرهم في الشارع العربي في دعم الثورات وإنجاحها. فلا ننسى أن بعض القادة الإسلاميين المرموقين عبّر عن استعداده "للتعامل حتى مع المجوس في إطار الديمقراطية". ولا ننسى أن أمريكا بدأت اتصالاتها بالإسلاميين في مصر كتأكيد على أنه يمكن التعامل معهم سياسياً. وكذلك الأمر لنظرائهم في البلدان الأخرى. ولا ننسى أن الإسلاميين هم من ارتقى بتركيا في الأعوام القليلة الماضية لتصبح عاشر أقوى اقتصاد في أوروبا، ولتصبح أيضاً مربط خيل الجميع في المنطقة.
كفى تخويفاً من البعبع الإسلامي. وكفى تخوفاً من وصول الإسلاميين العرب إلى السلطة، فالثورات العربية ليست ثورات إسلامية، بل متعددة الأطياف، ولا يدّعي طرف بعينه قيادتها أو تمثيلها، ناهيك عن أن الديمقراطية العربية التي ستنتجها الثورات أصلاً سيكون فيصلها صناديق الاقتراع والدساتير الجديدة وليس الكتب المقدسة أو الفتاوى، وبالتالي لن تسمح إلا للمنتخب وللشرعي والدستوري والأصلح بقيادة المجتمعات الجديدة.


www.deyaralnagab.com