logo
ميزان القوى والبحث عن دولة فلسطينية!!

بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 15.10.2011

لا تجري مفاوضات حول أي قضية صغيرة كانت أو كبيرة، على مستوى دولي أو حزبي أو شخصي بمعزل عن ميزان القوى بين الأطراف. وتختلف أهمية مدى ونطاق ميزان القوى على مستوى الدول باختلاف نوع المفاوضات وموضوعها وعلاقة المتفاوضين بعضهم ببعض. فمثلا هناك مفاوضات بين أصدقاء، وهي مفاوضات تفاهمية تهدف إلى ترتيب العلاقات، أو حل إشكالات عرضية تنجم عن نشاطات يومية أو تضارب مصالح غير عدائي؛ وهناك مفاوضات حول قضايا يحكمها قانون دولي تقر به الأطراف، وهي ليست عدائية وإنما تصالحية، ومفاوضات تصادمية ناجمة عن صراع مصالح ويحاول كل طرف أن يحصل على أكبر فائدة على حساب الطرف الآخر؛ وأخرى إركاعية بحيث يحاول طرف أن يحصل على ما يريد رغم أنف الطرف الآخر، الخ.
لا تندرج المفاوضات بين الدول تحت تصنيف واحد، وهي تتنوع تبعا للموضوع قيد البحث، وبناء على تنوعها، تتعدد متطلباتها. فمثلا، لا تتطلب مفاوضات تصالحية وفق قانون دولي حجم قوة كبير للتأثير على الطرف الآخر، لكن حجم القوة المطلوبة لتسوية ادعاءات بملكية أراض كبير وقد يصل إلى حد سباق في مراكمة القوة بين الأطراف. وفي كل الأحوال، تتطلب طاولة المفاوضات أوراق قوة يستعملها كل طرف للتأثير على الطرف الآخر، حتى لو كانت من طرف خفي، أو بالغمز واللمز. وإذا خلت الطاولة من أوراق القوة فإنه من الصعب تسميتها بطاولة مفاوضات، وإنما هي طاولة محادثات من حيث أن المفاوضات عبارة عن أخذ ورد وشد وإرخاء وجذب ونفور، أو مباراة إرادات تستند إلى ما هو أبعد منها، أما المحادثات فعبارة عن استماع ومحاولة فهم متبادل، ولا ترتقي إلى مستوى ممارسة الإرادات.
محادثات إسرائيلية فلسطينية
ما جرى بين الفلسطينيين والصهاينة منذ عام 1991 عبارة عن محادثات لم ترتق أبدا إلى درجة المفاوضات وذلك بسبب غياب ميزان قوى بين طرفين، وعدم وجود أوراق قوة بيد الطرف الفلسطيني. لقد بقيت الطاولة التي يجلس عليها الطرفان مفرغة من مباراة ليّ الأذرع، ولم يكن الطرف الإسرائيلي بحاجة إلى إبراز أوراقه لأن الأوراق كانت حاضرة في الميدان مثل مصادرة الأراضي والاستمرار في البناء الاستيطاني وتهويد القدس، الخ.
ذهب الفلسطينيون إلى مؤتمر مدريد بعدما قبلوا الشروط الأمريكية التي وضعها وزير خارجية أمريكا هنري كيسينجر عام 1975، والتي هي شروط إسرائيلية. قبلت منظمة التحرير الفلسطينية الشروط في مؤتمر الجزائر عام 1988 فاعترفت بإسرائيل وبقراري مجلس الأمن 242، 338، وكانت قد قررت نبذ الإرهاب عام 1985 بتصريح أدلى به عرفات في حينه. كانت منظمة التحرير قد وضعت شرطا لقبول الشروط الأمريكية وهو اعتراف أمريكا بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، لكنها تخلت عنه، وقبلت شروط الغير بدون شروط. فضلا عن الواقع المرير الذي كانت تمر فيه منظمة التحرير داخليا وخارجيا عام 1991، قبولها بالذهاب إلى مؤتمر مدريد كان يعني قبولها بالأمر الواقع وتحويل الشعارات التاريخية والتقليدية إلى مادة إعلامية منفصلة عن الواقع. أي أن المنظمة قبلت حقيقة بمحادثات قد يقرر من خلالها الطرف الآخر إعطاء شيء، ولم تكن أبدا مؤهلة لمفاوضات.
استراتيجية الضعف
لم يتردد الجانب الفلسطيني الرسمي منذ مؤتر مدريد في التأكيد على رفض العنف ونبذه وتمسكه بما يسميه بالمفاوضات لحل الأزمة أو الصراع القائم. وقد بات واضحا أن الجانب الفلسطيني يتبنى استراتيجية الضعف، وهي استراتيجية فريدة من نوعها في تاريخ الصراع بين الشعوب. تقول هذه الاستراتيجية إن الطرف الفلسطيني ليس عدائيا، ولا يرغب في الحروب والاقتتال، وهو لا يستعد بتاتا لأي مبارزة حربية، ولا ينوي تطوير قدراته العسكرية أو قدراته الدفاعية مهما بلغت الأمور على الطاولة التي يسميها مفاوضات. وقد أكد السيد ابو مازن هذا الأمر مرارا وتكرارا عندما قال إن "خيارنا هو المفاوضات." وأكد بأنه إذا فشلت المفاوضات فإنه سيفاوض، وإن فشلت سيفاوض.
رسالة استراتيجية الضعف غير موجهة للذات وإنما للآخر ومفادها أن هناك حقوقا لمن يتبناها، وهو عاجز عن انتزاعها، أو لا يريد انتزاعها، ولا يعمل على انتزاعها، وهو مسالم تماما ولا يجنح نحو سفك الدماء ولديه استعداد لملاحقة من يبحث عن الصدام، ولذلك فهو يستحق أن يُنظر إليه بعين العطف أو المساعدة أو الشفقة لكي يحصل ولو على جزء من الحقوق التي يقول إنها حقوقه. والرسالة تقول إن على الطرف الآخر وهو إسرائيل أن يكون مطمئنا بالنسبة للمستقبل لأن الدولة الفلسطينية التي يمكن أن يتم التكرم بها لن تكون معادية أو عدائية، وستلتزم بالشروط التي توضع عليها.
تعتمد استراتيجية الضعف الفلسطيني على إقناع إسرائيل بأن ثمن السلام مع الفلسطينيين ليس باهظا، وهو يتطلب فقط الحد من الأطماع الصهيونية من حيث الاستيطان ومصادرة الأراضي والاعتراف بدولة فلسطينية على الضفة الغربية وغزة دون تحديد ماهية هذه الدولة. وما دام الجانب الإسرائيلي عصي على الاقتناع فالعمل لدى الدول الكبرى بخاصة الولايات المتحدة قد يكون مجديا. يظن الاستراتيجي الفلسطيني أن إقناع الولايات المتحدة بالرؤية الفلسطينية قد يؤدي إلى ممارسة ضغط أمريكي على إسرائيل فتقبل بالمطلب الفلسطيني.
لم يشهد التاريخ نجاحا لفلسفة الضعف، وواضح أن تبنيها من قبل فلسطينيين لم يُجد نفعا. لا إسرائيل اقتنعت ولا أمريكا ضغطت، ولا سياسات إسرائيل العدوانية تقلصت.
الهروب من أمريكا إلى الولايات المتحدة
لم يستطع الجانب الفلسطيني الرسمي أن يحصل على شيء غير ذلك الذي أرادت إسرائيل رؤيته يتبلور منذ عام 1967. أرادت إسرائيل إقامة سلطة عربية تدير شؤون الفلسطينيين في الضفة وغزة حتى لا تبدو دولة محتلة أمام العالم، وأرادت أن تقوم هذه السلطة بدور أمني يخدم إسرائيل. وفي نفس الوقت لم يكن لديها مانع من التساهل في قضايا إنسانية إن رأت ذلك مناسبا وفق مقاييسها الأمنية ومصالحها الاستراتيجية. فمثلا، لا مانع لديها أن تسمح للفلسطينيين باستيراد لقاحات ضد أمراض متفشية، لكنها لا تسمح بجعل المسجد الأقصى مكانا آمنا للمصلين.
ظن الجانب الفلسطيني أن الولايات المتحدة ستمارس قوتها في دعم الفلسطينيين، وستضغط على إسرائيل من أجل القبول بهذا السلام الذي لا يقدمه الفلسطينيون فقط وإنما الدول العربية مجتمعة. قدم الفلسطينيون الرسميون ومعهم الأنظمة العربية الكثير من التنازلات، ومنهم من اعترف بإسرائيل وطبع العلاقات معها وتعاون معها عسكريا وأمنيا، لكن دون أن يحصلوا على شيء ملموس من الولايات المتحدة، واستمروا يدورون في دائرة أمريكية مفرغة حول استمرار المفاوضات وضرورة كسر الجمود. ولم يكن من العسير الاستنتاج منطقيا وعمليا أن أمريكا شريكة لإسرائيل وليست وسيطا نزيها.
ربما دفع شعور الفلسطيني الرسمي باليأس للتوجه إلى الأمم المتحدة عل وعسى أن يجد لمطالبه صدى. لكنه بذلك يهرب من أمريكا إلى الولايات المتحدة، وهو كالمستجير بالرمضاء من النار. فضلا عن أن الأمم المتحدة هي أحد العناصر الأساسية في صناعة مأساة الشعب الفلسطيني، لم يكن من المتوقع أن تسمح الولايات المتحدة بقرار أممي يعترف بدولة فلسطينية، وهكذا هو الحال.
ميزان القوى القديم
خططت السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير من قبلها، نشاطها نحو إيجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية بناء على ميزان قوى مختل تماما لصالح إسرائيل على مستوى المنطقة، ولصالح الولايات المتحدة على المستوى العالمي. في التبرير الذي ساد إبان مؤتمر مدريد، قالت منظمة التحرير إنها تذهب إلى المفاوضات والاعتراف بإسرائيل لأن ميزان القوى قد أصبح لصالح إسرائيل بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وهزيمة العراق، وإنه لم يبق للفلسطينيين مجال سوى القبول بالشروط لدخول المفاوضات، وإلا فإن الحلول ستأخذ طريقها بدون أصحاب القضية.
لم أكن أبدا من المقتنعين بالتبرير الفلسطيني، وكان تقديري أن القيادة الفلسطينية لم تقم بواجبها عبر السنوات، وسبق أن توقعت النتائج في السبعينات. لقد توقعت اعتراف منظمة التحرير بإسرئيل والسير بطريق محادثات للوصول إلى حل مع إسرائيل بناء على معطيات شرحتها في كتاب بعنوان الطريق إلى الهزيمة. لكن لو سلمنا جدلا بأن تبرير منظمة التحرير كان صحيحا، فإننا نجد أنها لم تعمل عبر عشرين سنة من التفاوض على تجاوز هذا الخلل في ميزان القوى، وإنما فضلت البقاء ضمن القديم.
الآن تعمل السلطة الفلسطينية ضمن ميزان قوى قد كان، وهو ليس موجودا الآن. إنه موجود في ذهن القيادة الفلسطينية، وموجود في الضفة الغربية إذا عزلناها عن العالم الخارجي، لكنه لم يعد موجودا في معادلة القوى القائمة حاليا. إسرائيل لم تعد قادرة على القيام بحروبها التقليدية التي كانت تنتصر فيها قبل أن تقع، ولم تعد الولايات المتحدة قادرة ولا راغبة في خوض مغامرات عسكرية. فشلت إسرائيل فشلا ذريعا في حرب عام 2006، ولم تستطع تحقيق أهدافها في حرب الكوانين على غزة 2008/2009، وباتت تدرك تماما أن المنطقة تشهد جنديا عربيا مختلفا عن الذي كان، وأن الاعتماد على الذات من ناحية التسليح قد أصبح حقيقة واقعة. لقد صدمت الحربان نظريتها الأمنية، واضطرت إلى إحداث تغييرات جوهرية في رؤاها العسكرية والأمنية.
أما أمريكا فلحق بها إعياء شديد نتيجة حربيها على العراق وافغانستان، واضطرت أن توقف مساهمتها المباشرة في الحرب على نظام القذافي. أمريكا واهنة فكريا إلى حد بعيد، وقد أوقعها وهنها الفكري بمطبات عسكرية ومغامرات غبية عادت عليها بأضرار كبيرة. هذا فضلا عن وهنها الاقتصادي الذي تحاول جاهدة الخروج منه.
هواجس إسرائيل في مناوراتها
إسرائيل دولة لا تغفل عن أمنها، وهي دائمة الحركة أمنيا وعسكريا، وساهرة باستمرار على مختلف شؤونها، ولا شك بأنها ضربت مثلا بالحرص والتدريب والتنظيم والتسليح والتنفيذ. لكن ظروفها الآن أصعب بكثير مما كانت عليه قبل سنوات، وهذه مسألة ظاهرة في مناوراتها وأنماط استعداداتها. فمثلا، كانت تتدرب إسرائيل في السابق على دخول الأردن ومصر وسوريا ولبنان، لكنها تتدرب الآن على كيفية طرد جنود حزب الله من مدنها الشمالية. وكانت تتدرب على قصف مواقع محددة في بلدان عربية، لكنها تتدرب الآن على كيفية تقليل أخطار صواريخ حزب الله وحماس. في السابق، تدربت على قصف المفاعل النووي العراقي، لكنها تتدرب الآن على كيفية التصدي لرد الفعل الإيراني فيما إذا قررت قصف مواقع في إيران، الخ.
إسرائيل تعمل الآن بمعلومات أقل بكثير مما كانت تحصل عليه في السابق. لقد خاضت إسرائيل حربا عمياء عام 2006 ضد حزب الله، وفوجئت في التكتيك العسكري الذي استعمله الطرف الآخر، وبنوع الأسلحة المتوفرة. هي تستعد الآن وتطور المزيد من الأسلحة، وتحاول ابتكار طرق عسكرية جديدة للمواجهة، لكنها في ذات الوقت لا تملك ما يكفي من المعلومات لكي تخطط بالشكل السليم. كانت الجيوش العربية كفا مفتوحا أمام مخابراتها واستخباراتها في السابق، وكانت تخوض حروبا وبيدها ما يكفي من المعلومات لتوجيه ضربات قاضية، لكنها الآن لا تستطيع ذلك. على اية حال، هذا أمر يحتاج إلى تحليل واسع، لكن الفكرة الأساسية هي أن إسرائيل لم تعد تلك التي كانت.
ميزان القوى الجديد
تشهد المنطقة العربية الإسلامية الآن ميزان قوى جديد، وهو ليس لصالح إسرائيل، أو على الأقل، لم يعد لصالح إسرائيل كما كان في السابق. وإسرائيل تعرف الآن أن الحرب لم تعد نزهة، واحتمال خسارتها لحرب قادمة وارد جدا. فهل يبقى الفلسطينيون ضمن ميزان القوى القديم، أم عليهم أن يخرجوا من الشرنقة ليروا عالما مختلفا الآن؟
من يعمل ضمن ميزان قوى قديم يفضل البقاء في الماضي، ولا يحاول أن يستفيد من المعطيات الجديدة والمتغيرات. والصحيح أنه إذا ارادت السلطة الفلسطينية الاستمرار في المفاوضات فإن عليها أن تجلس على طاولة مفاوضات حقيقية ضمن ميزان القوى الجديد. هذا يتطلب تغيير التحالفات، أو على الأقل إعادة ترتيب علاقاتها بطريقة يدخل فيها ميزان القوى الجديد ضمن معادلة التفاوض. أما إذا أرادت البقاء ضمن الماضي، فسيبقى الفلسطينيون يدورون في حلقة مفرغة. صحيح أن الانتقال إلى تحالفات جديدة مكلف وسيخسر الفلسطينيون معونات مالية ومساعدات، لكن الوطن أسمى من أن يكون موضوعا للمساومات. الحاضر دائما أقوى من الذي كان، ومن يصر على البقاء في الماضي إنما يصر على البقاء مهزوما خلف الأمم.


www.deyaralnagab.com