logo
تفاقم العنصرية الأميركية ضد الفلسطينيين!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 12.12.2011

"الفلسطينيون إرهابيون، وهم شعب مُخترع لا وجود له": هذا جزء من تصريحات أتحفنا به المرشح اليميني المتطرف نيوت جنجريش الأكثر حظاً لتمثيل الحزب الجمهوري في الانتخابات الأميركية القادمة. جنجريش يرى أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون محايدة بين "دولة ديمقراطية" ومجموعة من الإرهابيين. هذه التصريحات غير المناسبة أخلاقيّاً وسياسيّاً وتاريخيّاً لا تنتمي إلا إلى نزعة عنصرية دفينة ضد فلسطين والشعب الفلسطيني الذي "اعترض" طريق تحقيق ترهات الصهيونية المسيحانية التي ترى في قيام إسرائيل خلاصاً سماويّاً ونبوءات من شأنها تدمير هذا العالم برمته. لم يكد يتنفس العالم الصعداء لتخلصه من جنون ودموية جورج بوش الابن، حتى يأتي جنجريش ليخلفه، بعد عهد باهت لأوباما الذي يبدو أنه لن يكون سوى فاصلة معترضة في نص أميركي بالغ التطرف والوقاحة يسرع في إنهاء الامبراطورية الأميركية. كيف يمكن أن يؤتمن شخص يمتلك هذا الجهل في التاريخ ويستبطن هذا القدر من العنصرية على قيادة دولة عظمى في عالم يواجه مشكلات بالغة التعقيد والصعوبة من الاقتصاد، والبيئة المتدهورة، والحروب التي لا تهدأ، والأمراض الفتاكة، والفقر المتفاقم، وانتشار التطرف؟ كيف ستكون نظرته مثلًا نحو الصينيين والهنود والأميركيين الجنوبيين وهم يتقدمون في العالم ويزيحون الولايات المتحدة تدريجيّاً عن مركز الصدارة، بسبب عنجهية قادتها؟
يتحدث جنجريش عن ضرورة عدم وقوف السياسة الأميركية على الحياد إزاء صراع بين "دولة ديمقراطية" و"جماعة من الإرهابيين". وهو إما ساذج أو يفترض السذاجة وقصر الذاكرة في العالم كله. في طول وعرض العالم وفي قاراته الست وعلى مدار عقود مديدة تحالفت تلك السياسة الأميركية العتيدة مع أعتى الديكتاتوريات، وتواطأت مع أنظمة مُستبدة وحكومات قامعة لشعوبها، ووقفت ضد تيارات الديمقراطية والحرية لأنها تعارضت مع مصالحها في هذا البلد أو ذاك. ولا يحتاج جنجريش إلا إلى قراءة خطاب منافسه بوش الابن الذي اعترف في خطاب شهير عام 2003 بأن الولايات المتحدة ساندت بعض الأنظمة المُستبدة في الشرق الأوسط وتحالفت معها ضد تطلعات شعوبها نحو الحرية والانعتاق والانفتاح السياسي. ولا يحتاج كشف النفاق السياسي الأميركي في هذه المسألة كبير جهد. ولكن الغريب وما يحتاج إلى تأمل هو عمق وتأصل النزعة المعادية لفكرة فلسطين وفكرة الفلسطينيين كشعب، التي يبدو أنها ضاربة الجذور في المخيلة السياسية الأميركية بل والشعبية أيضاً بسبب الضخ الإعلامي المتواصل على مدار أكثر من قرن من الزمن.
في تأمل عمق هذه النظرة المعادية للفلسطينيين وكيف شكلت الإطار العام للسياسة الأميركية إزاء الصراع مع إسرائيل نحتاج للعودة إلى الكتاب القيم للباحثة الأميركية كاثلين كريستيسون عن التصورات الأميركية عن فلسطين، الذي نشرته عام 1999 بعنوان Perceptions of Palestine: their influence on the U.S. Middle East Policy. في هذا الكتاب المرجعي تقوم كريستيسون بالحفر في آركيولوجيا المخيلة الأميركية وصورها الشوهاء عن فلسطين والفلسطينيين. وتعود إلى بدايات تشكل تلك المخيلة على خلفية كتابات الرحالة الأميركيين إلى فلسطين في القرن التاسع عشر التي شكلت إحدى أهم الأرضيات المؤسسة للتصورات الأميركية العامة عن فلسطين. وأهم تلك الكتابات التي انتشرت بشكل واسع النطاق في الولايات المتحدة كانت تلك التي نشرها الرحالة العنصري مارك توين عن فلسطين. ففيها لم يكتف بوصف "السكان المحليين" بأنهم "شحاذون قذرون بالطبيعة، أو بالفطرة، أو بالتعلم"، بل ردد المقولات الصهيونية عن فلسطين الجرداء وقراها الكالحة وسكانها البلهاء، مقابل الازدهار والزراعة والتطور التي حلت بالبلاد مع الهجرات اليهودية، مكرساً الصور التي كررتها ماكينة الإعلام الصهيوني وكذا الأميركي ونسجت حولها مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وبهذا فإن المخيلة الأميركية كانت معبأة من ناحية تاريخية ضد سكان فلسطين حتى قبل قيام المشروع الصهيوني.
وما تناقشه كريستيسون في كتابها أنه بالإضافة إلى التصورات الكريهة التي رسمها هؤلاء الرحالة والمؤرخون عن فلسطين والفلسطينيين، فإن خلفية الاعتقاد المسيحي البروتستانتي حول البعد الديني لقيام دولة إسرائيل خاصة في أوساط المسيحية الصهيونية، كما الأثر الذي خلفه الهولوكوست على صعيد خلق تعاطف عريض مع يهود أوروبا و"أحقيتهم في وجود وطن خاص بهم"، كل ذلك يشكل الأرضية الصلبة التي تنبني عليها السياسة الخارجية الأميركية سواء أكان منفذوها "ديمقراطيين" أم "جمهوريين". وخلاصة ذلك كله كان نشوء علاقة عضوية وطيدة بين الولايات المتحدة ومشروع إقامة إسرائيل تتعدى بأشواط كبيرة ما يعتقده البعض من أن العلاقة هي علاقة تحالف بين دولتين، بل إن ما يعرضه الكتاب هو أن إسرائيل تكاد تكون جزءاً من "الحلم الأميركي" على المستويين الشعبي والنخبوي على حد سواء، كما أن الولايات المتحدة بالنسبة لإسرائيل ليست هي الحليف الأول فحسب بل الحاضنة والمستودع العاطفي والتكاملي مع المشروع.
وتشير كريستيسون إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت وما زالت غارقة في تلك التصورات المتخيلة عن فلسطين وشعبها، وهكذا لم تخرج سياساتها عن النظر إلى الشرق الأوسط من خلال البوصلة الإسرائيلية. وفي كتابها هذا تخصص فصلاً خاصّاً بكل إدارة أميركية منذ إدارة ودرو ويلسون التي أقرت ووافقت على وعد بلفور، ثم إدارة روزفلت، فترومان، فإزنهاور، ثم كيندي وجنسون، ونيكسون وفورد، يليهما كارتر وريجان وصولاً إلى بوش الأب في أوائل التسعينيات من القرن العشرين. وإزاء كل حقبة من هذه الحقب تدرس المؤلفة المؤثرات المحيطة بالرئيس، وشخصيات أعوانه ومستشاريه وتأثرهم بالرأي العام وخلفياتهم السياسية والأيديولوجية، وتلاحظ مسايرتهم للمزاج العام وخضوعهم له، بل ومزايدتهم عليه. واليوم يواصل نيوت جنجريش تلك المسيرة البائسة لا غير.


www.deyaralnagab.com