استراتيجية الصراخ!!
بقلم : نقولا ناصر* ... 24.12.2011
يصعب الاختلاف مع المتحدثة بلسان وزارة الخارجية الأميركية، فكتوريا نولاند، عندما قالت يوم الأربعاء الماضي إن "الصراخ من فوق الأسطح لن يغير شيئا على الأرض"، في معرض توبيخها لأربع دولة أوروبية، هي فرنسا وبريطانيا وألمانيا والبرتغال، لأنها تجرأت في اليوم السابق على اصدار بيان مشترك اعربت فيه فقط عن "استيائها" من استمرار دولة الاحتلال الاسرائيلي في توسيع مستعمراتها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 باعتبارها "تطورات سلبية تماما"!
ولا يمكن طبعا الا الاتفاق مع نولاند، لأن الرد الفلسطيني والعربي والاسلامي على الاحتلال العسكري والاستيطاني الاسرائيلي وعلى الدعم الأميركي له قد اصبح مقتصرا على "الصراخ" من فوق المنابر العربية والاسلامية وفي المحافل الدولية منذ "الاجماع" العربي الاسلامي على "السلام" كخيار "استراتيجي" وحيد يحرص على تجريد الشعب الفلسطيني من اي خيار غير الصراخ ... عبثا.
وكانت الدول الأوروبية الأربعة قد اصدرت بيانها في اعقاب جلسة لمجلس أمن الأمم المتحدة حول "الشرق الأوسط" يوم الثلاثاء الماضي تناوب خلالها على الميكرفون ممثلو المجموعات الدولية لإدانة بناء المستعمرات الاستيطانية اليهودية في الضفة الغربية المحتلة، وبخاصة في القدس، ولم تشذ عن هذا الموقف الذي ايدته اربعة عشر دولة عضو في مجلس الأمن الا الولايات المتحدة، العضو الخامس عشر. وقد وصف السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية لمجلس الأمن هذا "الاجماع" الدولي ب"التاريخي". ومع ذلك، فإن تاريخية هذا الاجماع لا تعدو كونها بدورها "صراخا" من فوق اسطح الأمم المتحدة "لن يغير على الأرض شيئا".
و"شذوذ" الولايات المتحدة في مجلس الأمن يوم الثلاثاء كان تكرارا لشذوذ مماثل في اليوم السابق، عندما اقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع قرار بعنوان "حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير" ايدته (182) دولة عضو باستثناء سبع دول تقودها الولايات المتحدة وكندا ودولة الاحتلال الاسرائيلي إضافة الى "دويلات" بالاو، وميكرونيزيا، وجزر المارشال، وناورو، وامتنعت ثلاث دول عن التصويت هي الكاميرون، وتونغا، و ... "جنوب السودان"!
وبالرغم من "تاريخية" شبه الاجماع الدولي غير المسبوق على دعم هذا القرار فإنه بدوره لا يعدو كونه "صراخا" "لن يغير على الأرض شيئا" وقرارا يضاف الى عشرات القرارات الأممية المماثلة التي صدرت عبر السنين منذ النكبة عام 1948 والتي سوف تظل حبرا على ورق طالما ظل "الصراخ" هو السلاح الوحيد الذي يسمح به "الاجماع" العربي على "مبادرة السلام العربية" للشعب الفلسطيني وهو السلاح الوحيد الذي تجيزه "عملية السلام" الأميركية العقيمة التي تبذل واشنطن اليوم قصارى جهدها من اجل استئنافها والتي، للمفارقة، نص القرار الأممي الجديد على ضرورة استئنافها، على أسس منها "مبادرة السلام العربية"!
وقد دعا القرار "كل البلدان" وحثها على مواصلة دعمها ومساعدتها للشعب الفلسطيني، مما يوجب وقفة عند "الصراخ" الحالي حول "المساعدات" الأميركية للشعب الفلسطيني. ففي اليوم ذاته الذي كانت نولاند توبخ فيه الأوروبيين على "صراخهم" كان يدور سجال علني حول هذه المساعدات.
إذ بينما كان وزير اقتصاد السلطة الفلسطينية برام الله د. حسن أبو لبدة يصرح للقدس العربي يوم الأربعاء بان المساعدات الأميركية "يجب أن لا تكون مشروطة"، متجاهلا حقيقة أنها كانت منذ البداية "مشروطة" بالتزام منظمة التحرير الفلسطينية ب"استراتيجية الصراخ"، كان سفير دولة الاحتلال في واشنطن العاصمة، مايكل أورن، يصدر بيانا في اليوم ذاته يتضمن "ترحيب الحكومة الاسرائيلية بقرار الكونغرس رفع التجميد عن تمويل الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية" لأن هذا الرفع سيكون على وجه التحديد "مشروطا".
فخطة الانفاق الأميركية للسنة المالية 2012 تنص على عدم ذهاب اي معونة اميركية الى الفلسطينيين "إذا حصل الفلسطينيون، بعد تاريخ سن هذا القانون، على الوضع ذاته كالدول الأعضاء أو على العضوية الكاملة كدولة في الأمم المتحدة أو في أي وكالة متخصصة فيها، خارج أي اتفاق متفاوض عليه بين إسرائيل وبين الفلسطينيين"، كما جاء في مشروع القرار الخاص بالمساعدات الخارجية الأميركية للسنة المالية المقبلة، وإلا ستقطع المساعدات الأميركيية للسلطة الفلسطينية ضمن إجراءات اخرى تشمل "إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن" كما جاء في بيان السفير مايكل أورن.
أي ان الإدارة الأميركية لا تكتفي بفرض التزام أي قيادة فلسطينية ب"استراتيجية الصراخ"، بل تصر على ان تفرض عليها كذلك أين "تصرخ" ومتى وماذا تقول في صراخها وكيف تقوله "دون تحريض" ودون "شروط مسبقة"!
ولم يغب عن أبو لبدة في تصريحه للقدس العربي أن الحديث "يجري في الولايات المتحدة الأميركية لوضع اطار عام لتقديم المساعدات الأميركية للفلسطينيين في عام 2012 يركز بالدرجة الأولى وبشكل عام على الجوانب الأمنية وتعزيز القدرات الأمنية الفلسطينية"، مما يذكر بأن المساعدات الأمنية للسلطة الفلسطينية التي تقدم عن طريق "مكتب دايتون" في القنصلية الأميركية في القدس قد استثنيت من تجميد المساعدات التنموية والانسانية التي تقدم عن طريق ال"يو اس ايد" خلال العام الحالي، ويرجح أن يستمر هذا "الاستثناء" في حال رفض منظمة التحرير لشروط الحصول على هذه المساعدات في السنة المقبلة، ومما يذكر كذلك بأن هذا "التركيز" الأميركي "بالدرجة الأولى على الجوانب الأمنية" إنما استهدف ويستهدف وسوف يظل يستهدف محاصرة ومطاردة وتصفية اي سلاح دفاعي فلسطيني في مقاومة الاحتلال لا يقتصر على "الصراخ" يأسا أو ألما أو احتجاجا أو غضبا.
لقد وصف أبو لبدة "التركيز الأمني" للمساعدات الأميركية بانه يحدد "وظيفة أمنية" للسلطة، ويقلص "وظائف السلطة للوظيفة الأمنية وما تحتاجه اسرائيل وما لا تحتاجه"، وهذا "مؤشر خطير" كما قال، و"موقف خاطئ"، يساعد "في تعزيز الأمن الاسرائيلي"، ويدخل المساعدات الأميركية "في اطار الولاء (الفلسطيني) لاسرائيل"، مما "يتناقض مع أبسط قواعد الأخلاق". أليس هذا ما كانت تقوله المقاومة الوطنية تعليقا على "التنسيق الأمني" للسلطة مع قوات الاحتلال؟
وحتى لا تظل أوصاف أبو لبدة للمساعدات الأميركية مجرد "صراخ ... لن يغير شيئا على الأرض"، فإن تحذيراته أو إنذاراته التي وردت في مقابلته بأن "هذا لن يقبله الفلسطيني من الرئيس وحتى أصغر طفل فلسطيني"، وبان الأميركيين "لن يجدوا فلسطينيا يقبل بهذا الأمر"، وأن "الموقف الفلسطيني الرسمي واضح في هذا المجال وهو الاعتذار فلسطينيا عن قبول المساعدات الأميركية"، سوف يظل بدوره مجرد "صراخ" لن ينجح في حجب حقيقة ان "الموقف الرسمي الواضح" للمنظمة والسلطة كان على العكس من ذلك تماما، وسوف يستمر على ما هو عليه على الأرجح، ما لم تترجم هذه التحذيرات او الانذارات الى إجراءات عملية تتجاوز مجرد الصراخ حقا، مثل إعلان موقف رسمي قاطع على أرفع مستوى برفض المساعدات الأمنية إن لم تكن جزءا من حزمة مساعدات تنموية وإنسانية على طريق الاعتراف بالتحرر والحرية وتقرير المصير، إعلان يردفه في الأقل تجميد "التنسيق الأمني" إن لم يكن وقفه نهائيا، فذلك يجب ان يكون تحصيل حاصل لأي وقف للمساعدات الأميركية طالما أنها كانت تستهدف تمويله أولا واخيرا، وبالتالي التوقف أيضا عن استقبال "المنسق الأمني" الأميركي مايكل مولر، خليفة كنيث دايتون، طالمات انتفت مهمته بوقف المساعدات الأميركية أو برفضها، فالنتيجة يجب أن تكون واحدة في الحالتين.
أي أن الوقت قد حان للفصل بين المساعدات الأميركية وبين "التنسيق الأمني" مع دولة الاحتلال الاسرائيلي، ولربط المساعدات الأميركية وغير الأميركية بالتنمية الفلسطينية المفضية الى التحرر الوطني والحق في تقرير المصير، والتوقف عن تقديم هذه المساعدات وقبولها من أجل إقامة دولة فلسطينية ... في ظل الاحتلال.
لكن زيارة الأميرال الأميركي هاري هريس في الأسبوع الماضي، وهي ثالث زيارة له، وتفقده لأوضاع الأجهزة الأمنية للسلطة في الضفة الغربية، هي مؤشر الى ان حال السلطة في رام الله سوف يظل ينسج على ذات المنوال، والى أن أوصاف ابو لبدة للمساعدات الأميركية سوف تظل مجرد "صراخ" لن يغير شيئا على الأرض في "استراتيجية الصراخ" المفروضة أميركيا وعربيا وإسلاميا و"فلسطينيا" على الشعب الأفلسطيني حتى يفرجها الله.
www.deyaralnagab.com
|