logo
عرس في السويد !

بقلم : رشاد أبوشاور ... 29.8.07

العرس الذي سأحدثكم عنه هو عرس فلسطيني، في تلك البلاد البعيدة: السويد.
لم أحضره، ولكنني بمحض الصدفة تفرّجت عليه. فقد أحضرت السيّدة (أم إبراهيم) زوجة صديقي ياسين معتوق CD معها من السويد، فانفعلنا بالعرس كأننا حاضرون.
العريسان شابان، إبنا عمومة، فرّقت بينهما نكبات الفلسطينيين، فهما من فلسطينيي (لبنان)، والاثنان ولدا بعد مذبحة صبرا وشاتيلا.
الشاب ولد عام 80 في مخيّم شاتيلا ـ تذكرون مذبحة صبرا وشاتيلا عام 82 ـ يعني وهو يرضع من ثدي أمّه رضع الرعب ومشاهد الأشلاء والدم، وصيحات الموت، وهو في سنته الثانية من طفولة فلسطينيّة شقيّة.
العروس ولدت عام 85 في قبرص، فأهلها هربوا من جحيم المذابح إلي محطّة وسيطة، انتقلوا منها إلي كندا!.. وكندا فتحنا أسماعنا وعيوننا علي دور مريب لها منذ طفولتنا، وهو تشجيع واستدراج الفلسطينيين للهجرة إليها و..التوطّن هناك بعيدا عن فلسطين.
أسرة الشاب لاذت بالسويد في مدينة هلسنبوري نجاةً بالأبناء والبنات، وحتي بالأمهات والجدّات اللواتي احتفظن بمفاتيح البيوت التي تنتظر هناك في الجليل، وحلمن بالعودة إلي الكروم، والجلوس في العلالي، وتأمّل البحر الذي تلعب أمواجه تحت أنظارهن، وهن يملن برؤوسهن طربا لأغاني البحّارة:
صيد العصاري يا سمك يا بلطي
تلعب في الميّه لعبك جنني
السمك الذي يغنّي له الصيّاد وهو يعود من البحر، ليس سمك البحر الذي اصطاده والذي من حلاوة الروح ما زال يلعبط، ولكنه السمك الذي يرسل نظرات الشوق من تحت لتحت تشجيعا، وأملاً ببيت واحد يضمّ الصيّاد ومحبوبته التي ولدت في ندي الكروم، ومع أغاني قاطفي التين والزيتون والعنب في بلدة (مجد الكروم).
مجد الكروم!
هذا اسم بلدة من تلك البلاد الجليليّة...
كأنه اسم لديوان شعر: مجد الكروم...
كأنه مطلع ترتيلة كنعانيّة، ومفتتح قصّة حب ولدت هناك مع ثغاء الماعز الجبلي، لبنت سمراء وفتي مفتول العضلات: صيّاد، فلاّح، بحّار يجول الشواطئ ثمّ يعود للسمراء التي تنتظر مرسلة نظراتها في البعيد علّها تلمح زورقه وطلّته وهو يلوّح بمنديله تلويحات تنطط قلبها في صدرها، هي التي لا تمّل من الانتظار، التي لا يراودها شك بعودة الحبيب مهما طالت غيبته.
من مخيمات لبنان هاجر الفلسطينيون الشباب بعد مذبحة صبرا وشاتيلا نجاة بأنفسهم من موت يطاردهم بمنجله. اندفعوا إلي بلاد العالم، البلاد التي استقبلتهم، والتي اقتحموها بشتّي الوسائل، واستقرّوا فيها، ثمّ اجتلبوا ذويهم بعد أن ضاقت الحياة عليهم في بلد عربي أحبّوه وذاقوا فيه صنوفا من الموت، والمذابح، والجوع، والفاقة، وحرمانا من العمل حتي في بيّارات الحمضيات التي زرعوها وصانوها مع أهلهم الجنوبيين في صيدا وصور.
والدة أم إبراهيم، جدّة العروسين، قالت لابنتها في الهاتف : تعالي يا يمّا، احضري عرس ابني أخويك، و.. بعدين احضري جنازتي، نفسي أشوفك يا حبيبتي قبل ما أموت.
من كندا، ومن السويد، ومن بلدان اسكندنافيّة، ومن ألمانيا، توافد أفراد عائلة (سريس)، واحتفلوا بالعروسين.
في القاعة التي فتحت أبوابها للعروسين، وبحضور أصدقاء سويديين، غنّي الفلسطينيون، ورقصوا، ضحكوا وبكوا، وانتشوا طربا، بل جنّوا، اشتعلت أرواحهم وأجسادهم، اختلط الموسيقيّون بالراقصين: نافخ القربة، قارع الطبل، ضارب الدّف، عازف العود، بالشباب، والشابات، بالأطفال، بالجدّات...
الأجساد استذكرت واستعادت دبكات، ورقصات من زمن بعيد، ومن مسافات نائيّة، عبّرت عن هويتها وانتمائها.
كل واحد كان يرقص وحده، يرتجل رقصته، أو يستعيد حركات رقصة ما من رقصات الآباء، يدور حول نفسه، يتقافز من ألم وفرح، من سعادة يحّن لها، من وجد، والجدّات رقصن كما لو أنهن ما زلن فتيات في مقتبل الصبا. هناك في (مجد الكروم) في الجليل، عدن طفلات بريئات خاليات البال، وإذ استذكرن أحبّة رحلوا كفكفن الدموع التي ادعين أنها دموع الفرح.
من تلك السيّدة التي تلوّح بمفتاح؟ مفتاح أي بيت في مجد الكروم ! مفتاح البيت الذي سكنته وسكنها مع الغالي الذي دفن هناك في لبنان علي مقربة من فلسطين.. نيّالو.. علي الأقل بيهّب الهوا علي قبره، بتمرق النسمات من فوق ترابات القبر، نسمات الجليل، ومجد الكروم.. نسمات بحر حيفا، بحر عكّا الشريفة...
العروسان هيثم وهبة رقصا في منتصف الحلقة، والجدّات أطلقن الزغاريد كأنما هنّ في جنوب لبنان المتداخل مع جليل فلسطين، والذي منه يمددن النظر فتكتحل عيونهن بعكّا، بالناصرة، بكفر كنّا، بأم الفحم، بمصمص...
انفضّ العرس، والجدّة أدّت مهمتها، زوّجت ابني ابنيها، واطمأنت أنهما سينجبان أولادا وبناتا فلسطينيين، وتركت لهم المفتاح، والوصيّة بأن يعيدا رفاتها معهم عندما يعودون، فهي لن تتحمّل برودة القبر بعيدا عن شمس فلسطين وهواء بحرها وجبالها...
عرس فلسطيني في السويد، لشابين ابني عّم: الشاب سويدي، والشابة كندية!.. والأولاد والبنات.. ماذا؟!
نبض القلب، رعشة الروح، وصيّة الجدّة، شكل المفتاح وثقل حضوره، الرقصات والموسيقي، الحكايات التي تركتها الجدّة.. هي التي تقرر كلّ شيء...
عندما يخرج الفلسطيني من رحم أمّه يكون المفتاح بانتظاره، وهو الذي يدخله إلي حياة لها معني، فالفلسطيني مهما حمل من جنسيّات سيبقي فلسطينيّا، وإلاّ فلن يكون شيئا.المفتاح، وعظام الجدّة، وجسد الجّد المنتظر هناك في مقبرة صيدا، ستبقي تنادي روح الحفيد وابن وابنة الحفيد والحفيدة، اللذين لم يهربا من فلسطين، ولكنهما يرحلان بها من مكان إلي مكان في هذا العالم، إلي أن يعودا إلي مجد الكروم..أو أي مجد من قري ومدن فلسطين...
مبروك للعروسين الشابين اللذين لا أعرفهما، ولكنني أحببتهما، واللذين أثق أنهما سيلقنان أطفالهما حكايات الجدّة، وبطولات عين الحلوة، ودم وأشلاء صبرا وشاتيلا، وموسيقي وأغاني البحارة...
ليرحم الله تلك السيّدة التي رقصت وغنّت، وأكملت رسالتها، ثمّ مع آخر أنفاسها أغمضت عينيها وهي توصي بصون المفتاح لأن البيت ينتظر هناك في.. مجد الكروم.


www.deyaralnagab.com