logo
الإرادة الشعبية ضمان الحقوق العربية!!

بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 22.09.2011

من الناس من يتخوف من المستقبل بسبب الحراك الشعبي العربي في عدد من البلدان العربية وذلك لأسباب عدة: منهم من يقول إن أمريكا والغرب بصورة عامة يصنعون هذه الثورات، وبعضهم يرى أن الفوضى ستدب في البلدان التي تشهد ثورات، وآخرون يظنون أن كل ما يجري عبارة عن إلهاء للناس ولن يتغير شيء في الوطن العربي في النهاية. كل هذه التخوفات مشروعة بخاصة أن العربي خاب أمله دائما من الأحداث، ولم تجد تطلعاته في نهاية الأمر إلا الإحباط والندم على ما فات.
هناك تدخل أجنبي واضح في البلدان العربية التي تشهد حراكا شعبيا، وفي تلك التي لا حراك فيها. التدخل الأجنبي عبارة عن عامل ثابت على مدى السنوات الطويلة، وهو قائم الآن بهدف المحافظة على استقرار الدول التي لا تشهد حراكا لما في الاستقرار من محافظة على مصالح الأجنبي، أو تشهد حراكا ضعيفا، ولضمان مصالح الدول الأجنبية ما أمكن في مواطن التغيير. أمريكا والدول الأوروبية تحشر أنفها في كل دولة عربية، وتتحدث وكأنها هي الآمر الناهي، وهي صاحبة القرار في تشكيل الوضع السياسي.
الإرادة الحرة نقيض المصالح الأجنبية
العلة ليست في الأجنبي الذي يريد أن يرسخ مصالحه، وإنما في الذي يفتح بابه للآخرين للتدخل واستغلال الثروات. كل دولة تبحث عن مصالحها، وهي لن تغلق أبوابا مفتوحة أمامها لتحقيق هذه المصالح. في هذا العالم، الدول الشاذة فقط هي التي تترك الأبواب المفتوحة لتتمسك بأخلاقيات عدم التدخل والاستغلال. الدول كالحيوان المفترس الذي يتربص الفرص لكي ينقض على فريسته، ولن تجد منه هوادة فيما إذا تمكن. قد تبدو بعض الدول أحيانا طيبة القلب تجاه فرائسها، لكن معسول الكلام سرعان ما يتبخر.
قدرة الدول على التدخل بشؤون الآخرين مرتبطة بإرادة ذلك الآخر، وتتناسب عكسيا مع هذه الإرادة. الشعوب ذات الإرادة الصلبة لا تفتح مجالا لدول أجنبية للتدخل في شؤونها، أما الشعوب شبه الميتة وذات الإرادة المتهاوية فلا تملك أصلا القدرة على تحصين نفسها. فكلما ازدادت إرادة الشعوب تماسكا وحيوية انحسر التدخل الأجنبي، وكلما تهاوت الإرادة رتع التدخل الأحنبي بارتياح.
العرب مرتع للتدخل الأجنبي
بقي العرب في العصر الحديث مرتعا للتدخل الأجنبي لأسباب متعددة على رأسها غياب الوعي بالذات، وغياب رؤية قومية أو إسلامية واضحة. ولم يكن للوعي أن ينبثق فجأة، بل كانت سني البحث عن الذات ثقيلة وطويلة. هناك من المثقفين العرب والسياسيين الذين كانوا روادا في بث الوعي والتأسيس لنهضة عربية، وقد قدموا الكثير من التضحيات في سبيل رسالتهم، لكن التراكم بقي بطيئا وغير كاف لتحفيز حركة تغيير جماهيرية.
وجد الأجنبي أبواب العرب مفتوحة للاستغلال والهيمنة وسلب الإرادة، وبقي جاثما على صدورنا كل هذه السنوات الطويلة. برز حكام عرب وعوا الحقيقة وحاولوا التغيير مثل جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم وطلال بن الحسين، لكن عصا الأجنبي كانت غليظة وبالمرصاد، فأتت على الآمال التي ارتقبها الناس من هؤلاء الرواد.
وحقيقة أن رواد التغيير من القادة قد أخفقوا أيضا في المنهج، وظنوا أن مجرد التهييج العاطفي أو الانفعالي سينقل العرب نقلة نوعية، وسيؤدي إلى انتصار الجماهير على الهيمنة الأجنبية. لم يتصرف هؤلاء بعقلية علمية، ولم يضعوا برنامجا واضحا يحمل رؤية بينة لقيادة الناس نحو التغيير، واعتمدوا بالأساس على شخصياتهم المؤثرة وأفكارهم الذاتية وأفكار القلة القليلة من حولهم. كانوا على انتماء واضح لأمتهم، لكن طاقاتهم العلمية والمعرفية كانت دون المستوى المطلوب لتحقيق نهوض جماهيري. وربما يشذ عن هذا الوضع السيد حسن نصر الله الذي يتصرف بمنهجية عملية واضحة وتفكير علمي ومنطقي.
ينطبق هذا على أنظمة عربية تشهد حراكا شعبيا مثل ليبيا وسوريا، كما انطبق على مصر وتونس. ظن القائد أن خطاباته النارية تكفي لحشد الطاقات وبعث إرادة جماهيرية حقيقية واعية، فوقع في سوء أعماله التي ساورته ظنون بشأن صلاحيتها لاستمرار الحكم. صفق الناس في البدايات للأنظمة التي صنفت نفسها ثورية، لكن آمالها أخذت تخيب مع انتشار الفساد والظلم والقهر والاستعباد، ولم تعد تنظر إلى الثورية على أنها تختلف جذريا عن الرجعية. وبهذا فتحت الأنظمة العربية هذه الباب أمام حراك شعبي يطيح بالنظام السياسي، وأمام قبول شعبي ولو محدود بالتدخل الأجنبي لتغيير الأوضاع.
طبعا هنا لا أستثني الدول التي لا تصنف نفسها بالثورية لأنها بالأساس عبارة عن مرتع للأجنبي، بل أن أنظمتها السياسية عبارة عن أدوات أصيلة بيد الأجنبي.
والمحصلة أن النفوذ الأجنبي في البلدان العربية بقي قائما ومستمرا، والعصا الأجنبية وجدت طريقها إلى الأنظمة الرافضة لهذا التدخل، وهي عصا لم تلق مواجهة شعبية لأن الجماهير كانت مغيبة أو مستاءة من النظام الحاكم. وإذا حصلت مواجهة كما في العراق، فإن حصولها تم بعد سقوط النظام، وبقي روادها ممزقين منقسمين.
مرحلة تاريخية جديدة
شهدت مناطق عربية عدة حركات ثورية في مواجهة الاستعمار ومن أجل تحقيق الاستقلال، لكن الحراك الجماهيري ضد الأنظمة المستبدة بقي محليا وعابرا وعلى فترات متباعدة مثلما حصل في مصر حول رغيف الخبز، وفي معان/الأردن. يختلف الوضع الآن في أن الوطن العربي يعبر مرحلة تاريخية جديدة ومختلفة تماما عن المراحل السابقة من العصر الحديث. هناك جماهير غفيرة تخرج إلى الشارع رافضة كل هذه الأثقال والهموم والآلام التي راكمتها الأنظمة العربية على شعوبها. ربما لا تحمل هذه الجماهير بوصلة واضحة نحو المستقبل، لكنها تنفث من داخلها هموما أحالت حياة العربي إلى جحيم صنعه أبناء جلدته. وهذا ما يفسر بعض التخبط الحاصل الآن في بعض الحركات الجماهيرية العربية. وهو ليس بالأمر المستغرب لأن تاريخ الدول يشهد على حالة الضبابية التي تميز العبور نحو المستقبل.
لا تنضج المرحلة التاريخية الجديدة بين ليلة وضحاها، ونضوجها يتطلب فترات طويلة من الزمن وذلك لعوامل متعددة ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية. وهناك دول مستقرة تعاني في أحيان كثيرة من معاناة الانتقال من قانون إلى آخر، أو من برنامج اقتصادي إلى آخر، فكيف الأمر بالنسبة لأمة تتطلع إلى مرحلة تاريخية جديدة في طلاق مع مرحلة مقيتة من الظلم والاستعباد والقهر ومن مصادر داخلية وخارجية؟
الشعوب تنصر ذاتها
لا توجد شعوب خائنة، وإنما هناك أشخاص خونة، أو أنظمة أو قادة. هناك شعوب مضللة أو مقهورة أو جاهلة أو مظلومة، وشعوبة مغيبة الوعي ولا تعرف بالضبط حقوقها وواجباتها، ولا حقوق وواجبات القائمين على شؤونها. لكن هذه الشعوب تنهض في النهاية بسبب العلاقات الجدلية القائمة بين الظلم وتأجيج المشاعر وانبثاق الوعي. الأبله لا يبقى أبلها، ولا المظلوم خانعا، ولا المضلل جاهلا. تاريخ الشعوب يشهد على الانبثاق الشعبي في النهاية، وتحطيم القيود وصناعة تاريخ جديد.
لا تشذ الشعوب العربية عن الشعوب الأخرى التي ثارت وفرضت التغيير، وهي في النهاية لا تخذل نفسها. بوصلة الشعوب العربية ليست واضحة تماما، والآراء ووجهات النظر حول المستقبل كثيرة ومتنوعة ومتضاربة أحيانا مما يسبب بعض الفوضى والخصام بين الثوار، ويولد شعورا بالإحباط، لكن هذا ليس شأن الثورات العربية وحدها. وهناك أيضا تدخل أجنبي بهدف الحفاظ على المصالح الأجنبية، وعلينا ألا نتوقع بقاء الأجانب خارج ساحات الفعل والتأثير.
قد تضل الشعوب العربية بعض الشيء، وقد تتأثر بمعسول الكلام الصادر عن جهات أجنبية، لكن وجودها في الشارع الآن والتعبير عن إرادتها الحرة يضمن التغلب على العقبات التي تواجه تطلعاتها، إنما بالتدريج. وكما أن شعوب الأرض التي ثارت لم تخذل نفسها، ولم تطوع إرادتها للآخرين، فإن الشعوب العربية ستبقى مع ذاتها على الرغم من بعض التيه الذي قد يحصل. لكن انبثاق الإرادة الشعبية في النهاية لا مفر سيؤدي إلى تصحيح الأوضاع مهما شذت عن الطريق القويم الذي يخدم الشعب والأمة. أي أن الإرادة عبارة عن صمام أمان يحول دول الاستمرار في الخطأ، ويواجه التضليل وسوء تقدير الأمور أو عدم الدقة في تقديرها.
دأبت الشعوب العربية في السابق على التصفيق والتبجيل والثقة بمن ليسوا أهلا للثقة، فضاعت الحقوق وانتهكت الأعراض والأوطان، أما الآن فالوضع انقلب تماما وقررت الشعوب الموت من أجل الحياة. فهل من مقارنة بين زمن الخنوع والبله وبين زمن الوعي والتصميم على الحرية والاستقلال؟
أمريكا خاسر كبير
من المفكرين والمثقفين العرب من يظن أن أمريكا تعبث بالشعوب العربية، وهي تعمل على استبدال حكام فاشلين خدموا مصالحها بحكام أكثر ذكاء يخدمون مصالحها. كان هذا يحصل في زمن الانقلابات العسكرية، الآن هناك إرادة شعبية تشكل عاملا حاسما في الانتقال التاريخي من مرحلة إلى أخرى. لم تعد علاقة أمريكا بحكام عرب وراء الكواليس، وإنما أصبحت مع قادة عرب تراقبهم الجماهير وتقول كلمتها في الأمور، أو على الأقل في الكثير منها. وهذا أمر ينطبق على الكيان الصهيوني.
دائما أقامت أمريكا علاقات مشوهة مع العرب من خلال حكام آثروا مصالحهم الخاصة على مصالح الأمة، وقدمت لهم مختلف أنواع الدعم من أجل بقائهم في الحكم، أما الآن فهي تعي تماما أن ما كان لن يكون. هي تحاول أن تبقي الماضي في المستقبل، لكن إرادة الشعوب لم تعد في المخزن، ولا الماضي بقي يتلبس الجماهير.
شعب مصر يؤكد أن تاريخ الأمة يصنعه أبناؤها، وأن الصبر على الذل من شيم الأنظمة وليس من شيم الشعوب. ومن كان يظن أن الشعوب أقل وطنية من حكامها فإن عليه أن يراجع تاريخ الأمم. فمن استبد من حكام الأمم خسر معاركه الداخلية والخارجية، ودفعت الشعوب الثمن، ومن وثق بشعبه وآمن بحريته انتصر وشعبه، وحققوا آمالهم وتطلعاتهم. الحاكم وطني بشعبه الحر، وهو مدحور بشعبه المقهور...


www.deyaralnagab.com