logo
امرأة تسرج صهوة الروح !!

بقلم : طلعت سقيرق ... 15.08.2011

أضرب الحجر بقدمي فيهرب نحو البعيد .. الطريق يطول .. المرآة تأخذني إلى البعيد.. يتأرجح المطر ويهطل داخلي تماما .. عقارب الساعة تضرب المسافات وتغرق في الصمت .. / أتذكر.. كان أبي يحب الهدوء / أحاول انتشال الكلمات من بحر الروح فتغرق كل المفردات ../ أنت أنثى السحر والناي وأغنية الفصول / .. أحدق حتى القاع في بؤرة عيني .. وحدها المرآة تستطيع أن تنقل ملامح وجهكِ السابحة في مسامات جلدي .. كنت أنتظرك وأنا أقف عند الباب الأخير .. /حتى أمي تقول إن الشتاء بارد هذا العام / حين نظرت في المرآة كان الصمت غافياً ..
أحاول دفع الجدار إلى الوراء قليلا.. أسقط عند الخطوة الأولى .. تضحك الصور المعلقة على الجدار .. ربما يأتي مساء ما ، بعيد أو قريب لا يهم ، وتنظرين في المرآة ، فيطل وجهي الحزين بعض الشيء ، الفرح مصلوب على بوابة العمر الذي مضى .. / كان أبي يجلس طويلا قرب مذياع قديم ويستمع بشغف لأم كلثوم ولسيل من الأخبار / ها أنا ذا أحاول قدر استطاعتي أن أضبط عقارب الساعة على وقت ما فأسقط في لحظة العدم .. أبحث عن أي معنى لهذا اللهاث المحموم ..أضع خطوتي على الرصيف الممتد حتى النهاية بشكل محايد، وأغرق بين عقربي ساعة من قلق .. هل كانت المرآة تحمل وجهي أم وجه الرجل الواقف هناك عند مفترق سنة بعيدة ، بعيدة ؟؟
- حاول أن تعبر الجسر بين الريح والريح فثيابي البيضاء متروكة لنشيد المطر..))..
يأتي صوتك ولا يأتي .... أتشبث ربما بحياة ما كانت لتكون لولا لحظة فرح كسرتها الريح البعيدة .. هل كان على شجرة الحياة أن تورق بهذا الشكل الغريب ؟؟ يقول أبي/ حاول الابتعاد عن الأحلام القتيلة / هناك حيث تجلسين باسترخاء أخّاذ أنسى قلبي وآخذ في السير داخل المتاهات حائرا ضائعا .. لا أدري كم كان عليّ أن أقطع من لحم الطريق كي أعود إليك من جديد / هل كانت المسافات حقيقة قائمة؟؟ !! ربما/ أضع رأسي بين يدي وآخذ في تأمل أنثى تلد البحر والسحر والشجر وامتداد الأفق البعيد مرات ومرات .. أتوه تماما .. تكسرني الرغبة في ترك المقعد البعيد القريب .. أضيع في حدود المرآة .. أغرق بين خطوة مزروعة على الرصيف، وأخرى مغروسة هناك في فضاء التصاقي بالمكان مسمرا قربك ..
-أتدري ليس من المباح أن تقطف كرزات العشق من شفتين ذاهبتين حتى الدهشة في نبيذ الفتنة .. صعب أن أضعك بين كأس النبيذ وبيني ، فأنا الأنثى الوحيدة في العالم التي تخرج من مطر النبيذ ملتفة بجسد لا يرى ، جسد يشف حتى يشابه صفاء زجاج رقيق إلى أبعد حد .. ))..
أسكب بصمت آخر قطرة .. أنظر في المرآة / يحدق أبي في البعيد / يمتد الشارع ويتلوى .. يكاد المقعد ينحني بين نوسان صمتي وصمتي .. هل قالت كل هذا ؟؟ حقا لا أدري .. مرات كثيرة أردت أن أسألها .. كان الصمت يسحبني إلى واحدة من زواياه .. كنت حبيس ذهولي / تقول أمي لا تخرج إلى الشارع هكذا زائغ النظرات حدق في الطريق جيدا / فتنة حضورها تلفني وترميني فوق موجة من زبد مشغول بيد الوعد الجميل .. تمنيت أن تمد أصابعها العشرة وتزرعها شجراً في ضلوعي .. كانت تضحك .. فكرتي لم تخرج من رأسي .. رغم ذلك كانت تضحك .. أخربش عمري على قطرات الماء النازفة من خصلات شعرها وهي تلف المنشفة فوق رأسها بشكل هندسي بعد أن استحمت وقطف الماء النازف لذة معانقة كل خلية من خلايا جسدها .. تسمرني في مقعدي أمام شبق الريح وجنون اختناق الورق الأصفر الذابل الحزين .. تبكي العصافير وتنوح أشجار الحلم المأخوذ .. والمرآة تمتد في شوارع لا تنتهي!!
كان الرصيف ينوس بين سقوط الليل وانبلاج أول خيوط الصباح .. قطة صغيرة ضلت الطريق تموء وتلتصق بخطاي .. أرفعها ..أضمها إلى صدري ، تمد لسانها وتلعق ما تبقى من دموع .. "وهل وصلت الدموع إلى صدرك ؟؟ أنت تغرق في وهمك الأبدي !! " أتأمل قامتها الممشوقة مثل قامة إله فينيقي .. " مرعبة أنتِ أتدرين ؟؟ تدقين جدران عمري بألف بريق وترحلين " .. "كأنك للمرة الأولى تحب ، أنت أدرى بعدد النساء في قاموس حياتك " .. " لكنك تعلمين أنك اختصرتِ النساء جميعا " .. تضحك وتطوي قدميها راسمة فوق الأريكة صورة من الفتنة لا تقاوم .. أمسك رأسي .. يا الله كم عليّ أن أطوي من المسافات وأن أهرب حتى من ظل قامتها المديد البديع .. هل كان للمرآة أن تقول شيئا ؟؟ / لماذا لا تعود يا أبي ؟؟ أنا بحاجة إليك/ الرصيف بارد .. يغسل المطر قافية النشيد بمعزوفة الروح ..
- كل النساء يتمددن أمام البحر ويتركن أقدامهن للموج ورؤوسهن لفضاء الشاطئ . وحدي أحب أن أعكس الصورة .. رأسي فضاء الموج .. يأتي الماء فيشعل بأصابعه الساحرة كل خصلات شعري .. أتدري أحلم أن أدفن في البحر .. لا أريد لجسدي أن تلتهمه اليابسة !! هناك في قاع البحر ستجد الأسماك في جسدي شجرة من نبيذ ، سيتوالد جسدي آلاف المرات وسيطرح شجرا من نبيذ ..تصور أن ترى الأسماك في حالة نشوة لا توصف .. عندما تجد سمكة مثقلة بالنبيذ تذكر جسدي .. حاول أن تتصور رقصتي الأخيرة على صفحة الماء.. ماذا ستكتب عندها ؟؟ ))..
غصة في الحلق تقتلعني .. أشعر بالاختناق .. أتصور أن أكون سمكة كبيرة ترفع جسدها نحو الشمس .. أخشى عليها من فتنة الماء ، وأخشى على الماء من فتنتها / لماذا لا تأتي يا أبي ؟؟ / ... تسير بخطوات البرق تحت مظلة الفضاء الواسع حين يهطل المطر بغزارة ، كأنها تغتسل بضوء كل قطرة ، تدور حول الرذاذ وترقص رقصتها الساحرة .. أخلع قميص العمر وأدثرها .. تفيض جوعا للمطر.. تخرج عارية مثل الحقيقة وتلعق شفة الماء المسكوب.. أتمنى أن أطويها في مكان ما من القلب مسقوف بنبض لا يذوب / لماذا لا تأتي يا أبي ؟؟ / تضحك .. ويروح الرصيف البارد غارقا في المرآة حتى الجنون!!
- انظر هاهو رف من طيور الليلك .. مرة قلت لصديقاتي هل تشاهدن رف الطيور ؟؟ نظرن بعيون مفتوحة حتى الدهشة فما وجدن أي شيء !! كنا في بلد بعيد ..أقسم أنني كنت أرى رفا من طيور الليلك في الفضاء الفسيح .. طيور تسرج المسافات بالسحر ..أتدري كثيرا ما أشاهد الأشياء التي تأتي قبل أن تأتي .. يسكنني عالم من الغرابة.. أحيانا أكون متعبة حتى الثمالة ، وفجأة يتفجر نبع الولع بضحكة لا تحد .. أسافر في الحدقات وألامس سقف الدموع التي لا تجف .. ))..
تموء القطة الصغيرة وتلعق ما تبقى من رذاذ .. " أتدرين أنت امرأة تسرج صهوة الروح .. أنت امرأة مخيفة ومرعبة حتى الذهول .. وتذهبين .. دائما تذهبين .. صرت مزروعا في حقل الذهاب المر ..كأنك تعيشين بين فاصلتين من حلم وسحر : أتيت .. سأذهب .. كم تقتلني الغربة " .. تحاول القطة أن تأخذ شيئا من وجع الفصول .. أحدق في المرآة لأرى امتداد الشجر في مكان قريب بعيد ..
- حاول أن تعيش الصورة بكل أبعادها .. انظر جيدا .. يداخل الخريف كل ما في الطبيعة .. تتكسر أوراق الشجر .. كل شجرة تخلع ما تبقى من ثياب .. تبدو في عريها مثل عروس ترتعش في محراب انتظار مجنون..هناك ستجد فتاة تمشي وهي تلبس ثوبها الأزرق المنسوج من عناق البحر والسماء، ستدخل في لحاء الشجر، سيكون وجهي ، وستأتي طيور الليلك وتأخذني .. ))..
كنت وقتها بحاجة لجرعة ماء .. يقتلني الظمأ / لماذا ذهبت يا أبي ؟؟ / عقارب الساعة تركض ثم تعود إلى الوراء .. على المقعد أبقى والمرآة تغرق في بحر مسكون بأسماك ودروب .. أقف تحت شرفة تنطلق منها أغنية لفيروز .. وأنا أحدق في المرآة ووجه أبي أتابع المسير .. القطة تموء وتقفز نحو البعيد .. يلفني اللهاث حين أركض في الشوارع العارية .. تدور عقارب الساعة باحثة عن لحظة كانت أو تكون .. يبقى صوتها في الرأس وخفق القلب .. أمد يدي وأمسك آخر غصن في شجرة جرداء .. تتراقص المسافات .. أحاول أن أبعد صورتها فتنتصب قامتها لتملأ كل الطرقات .. يلفني اللهاث وأسقط أمام المرآة في لحظة انتظار تفجر شلال الصور من جديد ..


www.deyaralnagab.com