logo
بين هذا وذاك!!

بقلم : بشرى الهلالي ... 16.08.2011

ارتفعت الاسعار قبل ان يهل هلاله باسبوعين، واكتظت الاسواق بالنساء غالبا، بل وحتى الرجال والكل في سباق محموم لشراء مايمكن شراؤه استعدادا لقدوم الشهر الفضيل، واستعاضت النساء بأحاديث المطبخ وتبادل وصفات الطعام الجديدة عن غيرها من الأحاديث، فصار رمضان فرصة للعودة الى عالم الطعام والاهتمام به كل عام بعد ان كان شهرا للطاعة والغفران. وهذه الطقوس ليست جديدة بل هي تتكرر كل عام وكأن الطعام سينفذ من الأسواق، والضحية في كل هذا هو المعدة التي عليها ان تستقبل كل مايغري العين خلال ساعات معدودة بين فترة الافطار والسحور، وربما لو ترك الأمر لجهازنا الهضمي لاكتفى بشربة ماء وحبة تمر كما كان يكتفي بها الرسول الكريم والصحابة الأوائل. فكيف تحول رمضان من شهر للخير والعطاء الى شهر لخزن الطعام؟ هل انتهى الجياع والمساكين في العالم؟ وكم جائع يمكن لسفرة بيت واحد أن تطعم في رمضان؟
ليست المشلكة في رمضان، فهو مازال يأتي في نفس موعده، يفتح ذراعيه للخير والنور، لكن الأبواب التي كان يطرقها تلونت ولم تعد نفس الأبواب، والقلوب التي يتسلل اليها لم يعد فيها حيزا كبيرا له بل صارت مرتعا للكثير من المشاعر المتضاربة، ناهيك عن العقول التي عصف بها كل مايثير القلق والتوتر ويبعد الانسان عن الصفاء والرغبة في ولادة جديدة. فالحب شأنه شأن كل شئ في الحياة يحتاج الى صفاء الذهن والقدرة على التركيز، وحتى يحب الانسان لغيره مايحب لنفسه، عليه ان يشعر بغيره ويرى مافي اعماقهم من الم ومايحيط بهم من بؤس، لكن التعب الذي يغلف حياة العراقيين على اختلاف مستوياتهم يمنعهم من رؤية الكثير من البؤس من حولهم، فقد أعمت الحواجز البصيرة، وطغى التفكير في شحة الماء وانقطاع التيار الكهربائي والحصة التموينية وطابور الوقود على مشاعرهم وشل قدرتهم على التفكير بامور قد تستحق الوقوف عندها أكثر من كل ماقيل. فالسنوات العجاف التي مرت على هذا الشعب المتعب نساءا ورجالا كانت اقسى من ان تترك في القلب فسحة فرح، ورغم كل التغييرات التي حصلت خلال السنوات الأخيرة، مازالت الحياة تسير بعجلة مسننة تدوس في طريقها على الكثير من العوائل الذين ترنو أعينهم الى هلال رمضان بحزن وتعود أيديهم خالية بعد نهار بحث طويل، وتكل أقدام نساءهم من الدوران في المطبخ المتهالك بحثا عن لقمة تسد بها رمق الصائمين أبدا.. هؤلاء الذين ظل رمضان ضيفهم طيلة السنة وتحول الصوم الى عادة اجبارية بعد ان شح الطعام وصار الطريق الى السوق معبدا بالاف مؤلفة من الدنانير التي نادرا ماتزور جيوبهم. وبين حزن عيون هؤلاء الذين كان يطلق عليهم سابقا أحباب الله، وبين بريق اواني الطعام الملونة باصنافه على سفرة بيت ما، تهالك رمضان باكيا أيامه التي كانت (الصواني) فيها تنتقل من بيت الى بيت، وكانت اصوات المصلين ودعواتهم تكسر عتمة ليله الذي حولته المسلسلات الى مسرح ضجيج.. مازال رمضان يطرق كل الأبواب املا في ان يسمع الصائمون صوت حنينه الى الرحمة عوضا عن الترحيب به بانواع الحلويات والمشروبات الغازية وكل اصناف الطعام التي صارت بعض من انجازات مابعد 2003، لكنه لن يتوقف ابدا عن الامل في ان يرى بين الصائمين من يصوم عن الغيبة والنميمة والرشوة والمال الحرام، بل وحتى الغضب والتفاخر والبذخ، وان تتحول كف المرأة الى وعاء للخير فتكتفي بالقليل وهي تفكر انه هناك في مكان ما توجد امرأة لا تفكر باصناف الطعام والجديد في الأسواق، بل تنام ليلها على بساط وهي تحلم برغيف تطعمه اولادا اتعب اقدامهم العارية الجري بين اكوام المخلفات وتعبأت صدورهم الرقيقة بهواء الهم المبكر ومعدتهم بماء غير معدني...


www.deyaralnagab.com