هل يبرز فكر قومي جديد؟!
بقلم : د.خالد الحروب ... 17.10.2011
في كتاب "نقد الخطاب القومي" لعبد الإله بلقزيز الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت مراجعة معمقة لخطابات وأدبيات الفكر القومي العربي، ويؤسس لرؤية جديدة تتحرر من جمود المقولات القومية المتكلسة التي سيطرت على هذا الفكر لعقود طويلة. ومن ضمن الموضوعات والمفاهيم العديدة التي يناقشها مسألة "الوحدة العربية" المفترضة أو المطلوبة، وعلى أي أساس تقوم. ينقض بلقزيز أية أوهام تؤدلج "القومية العربية" وتعود بها إلى ماض وقرون سحيقة، بعيداً عن تأسسها الزمني مع القوميات الحديثة الأخرى في القرن التاسع عشر. والقومية العربية، كنظرية وإيديولوجيا هي غير العروبة (الثقافية، الهوياتية) التي يمكن العودة بها إلى مراحل زمنية سابقة. وتأسيساً على ذلك فإن الوحدة العربية، التي يطالب بها القوميون العرب يجب أن يكون جوهرها سياسيّاً بالدرجة الأولى، وأن تقوم على مبدأ المصلحة وليس الاعتقاد الإيديولوجي. يقول بلقزيز: "إننا نناضل من أجل هذه الوحدة العربية ليس لأن هويتنا عربية ولأن اللغة والثقافة والتاريخ تجمعنا، وإنما لأن المصلحة الحاضرة وتحديات المصير المستقبلية تفرض علينا خيار الوحدة... على الفكر القومي العربي أن يقطع -منذ الآن- مع عقيدة إيديولوجية تقليدية تقول إن حاجتنا إلى الوحدة العربية مستمدة من كوننا عرباً تجمعنا إلى بعضنا بعضاً هوية واحدة صنعها التاريخ وصنعتها جوامع اللغة والثقافة والحضارة والدين...".
وإعادة تأسيس الوعي القومي من منظور غير متورط في تأدلج غير تاريخي، بل سياسي راهن يستوعب مصالح الأفراد والجماعات والدول العربية التي صارت قائمة ومتجذرة، هو ما يكرر التأكيد عليه بلقزيز في نقده الخطاب القومي. وضمن هذا المنظور تأتي مقاربته لمسألة الهوية ومعنى العروبة. وأهم ما يؤكد عليه هنا، محقاً، هو الابتعاد عن أي تقعيد للعروبة من منطلق رابطة العرق والدم والإثنية، لأن هذا هو الطريق الأقصر للعنصرية والشوفينية كما يشهد التاريخ المعاصر والدموي للقوميات. والمفاهيم السائلة ودائمة التغير مثل الهوية والانتماء (والعروبة منها) لا معنى لها إن لم تتم إعادة إنتاجها في إطار اختياري وفي سياق مشروع سياسي يمكن تلمس مفرداته وتجسداته على الأرض.
وينتقل بلقزيز إلى معالجة سبع مراجعات جوهرية تقع في قلب مسألة الوحدة العربية هي: فكرة الأمة، ومعضلة الاندماج الاجتماعي والوطني، وأولوية فكرة الوحدة وحاكميتها في الخطاب القومي، وثنائية الدولة القطرية/ الدولة القومية، وأولوية الوحدة السياسية على الاندماج الاقتصادي، ونزعة الحتمية الوحدوية، والاحتكار القومي لفكرة الوحدة. ويمكن اعتبار هذه المراجعات قلب الكتاب الذي يقطع مع كثير من يقينيات الفكر القومي التقليدي. ففي "فكرة الأمة" يرفض بلقزيز التصور القومي السائد بأن تكوين الأمة "بعوامل غير سياسية (ثقافية ولغوية ودينية) تحصيل حاصل تاريخي، أو من بداهات تاريخ الأمم". ويرفض تعالي الفكر القومي على ضرورة الدولة، وهو الفكر الذي يرى أن الأمة تصنع دولتها، بينما الدولة لا تصنع أمة. ويشير بلقزيز إلى أمثلة كبيرة في عالم اليوم فيقول "ليست "الأمة الأميركية" من صنع الدولة القومية والوحدة الأميركية، وإنما الوحدة الأميركية ما صنع الأمة الأميركية. ولقد وجدت الأمة الألمانية في فضائها الجرماني منذ مئات السنين، ولكن الدولة الألمانية البسماركية هي من صنع الأمة الألمانية. إن درس الدولة- الأمة في أوروبا وأميركا وآسيا الشرقية يثبت حقيقة دور السياسي في تكوين القومي. وحتى تجربة الدولة الصهيونية تثبت أن الدولة قد تخلق شعباً أو أمة من أرخبيل من الجماعات المُتنازعة -باسم الرابطة الدينية- من بيئات قومية مختلفة".
وهذا النقض لفرضية أسبقية "الأمة" و"وحدتها" يقود بلقزيز إلى مواجهة جريئة وشبه فريدة مع مقولة أخرى تحمِّل الاستعمار مسؤولية إحداث التجزئة في "الوحدة" العربية المفترضة والسابقة. فالتجزئة، وكما يقول بلقزيز، كانت موجودة قبل الاستعمار وفي ظل نفوذ الدولة العثمانية ومواريثها. والتقسيم الذي أضافه الاستعمار كان في منطقة المشرق العربي فحسب. والتجزئة السابقة على الاستعمار تشير إلى حقيقة مرة يضع بلقزيز خطاً تحتها وهي "هشاشة البنى الاجتماعية الداخلية بسبب ضعف الروابط الناجم بدوره عن غياب كيانية سياسية جامعة في المجتمعات العربية، وضعف حركة الاندماج الاجتماعي والوطني". ويشير بلقزيز إلى أن خطاب الوحدة خطاب مشرقي بامتياز وشامي بامتياز وهو ما يفسر انتقائيته وتنظيراته إزاء أسبقية الوحدة ودور الاستعمار في إحداث التجزئة المفترضة "فالاستعمار وحد بقدر ما فكك، وكثير من الأقطار العربية أخذت وحدتها الكيانية شكلها من دمج أقاليم فيها كانت منفصلة عنها أو لا تنتمي إلى مجالها الترابي" (ص 158). والمفارقة الكبيرة كما يورد بلقزيز تكمن في أن تجارب التوحد العربي القليلة الناجحة حدثت بعيداً عن المشرق "موطن فكرة الوحدة"، أي في الجزيرة العربية وولادة الدولة السعودية وتاليّاً الإمارات العربية المتحدة، وفي ليبيا الحديثة، وفي اليمن.
وفشل مشاريع الوحدة المتسرعة هنا وهناك لم يكن سوى نتيجة متوقعة لمشروعات فوقية تقدم السياسي على أولويات الإدماج الاجتماعي والوطني وكذا الاقتصادي. إن "كيانات التجزئة" على صغرها وعلى صغر التحديات التي تواجهها مقارنة مع التحديات التي ستواجه "دولة الوحدة" قد فشلت في تحقيق الإدماج الوطني والمساواة وخلق كيانات قانونية ودستورية ناجحة. والمهم هنا هو أن الفكرة الخيالية التي تحرق المراحل وتتجاوز تحقيق الشروط الموضوعية للاندماج الوطني والاجتماعي محليّاً، والاقتصادي عربيّاً، سوف تظل تهويماً لا علاقة له بأرض الواقع.
وعلى الضد من ذلك التهويم يؤطر بلقزيز نظرة واقعية ومتماسكة إزاء ثنائية الدولة القطرية والدولة القومية. وهو يرى ومن دون أي تردد أن نقطة البداية في أي مشروع وحدوي يجب أن تكون في الإقرار بالدولة القطرية واعتبارها المنطلق، وهو لا يرى في هذه الدولة "عدوّاً لدوداً" لدولة الوحدة كما هي متصورة في الفكر القومي المشرقي "فالدولة التي ناضل الوحدويون في المشرق العربي من أجل إلغائها لأنها غير شرعية، هي الدولة التي ناضل الوحدويون والوطنيون في المغرب العربي ومصر واليمن من أجل تحريرها من قبضة الاحتلال الأجنبي". وهكذا فإن إعادة الاعتبار للدولة الوطنية في الفكر القومي الكلاسيكي تعتبر تطوراً مهمّاً لا ينبغي التغافل عنه، خاصة عندما يأتي من تصور نظري إجمالي وليس بسبب تغلبها واعترافاً بما هو موجود على أرض الواقع.
www.deyaralnagab.com
|