الثورات العربية والانقسامات الطائفية!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 07.11.2011
في سياق ما أطلقته الثورات العربية من سجالات ونقاش ثمة جدل يدور حول "دور" هذه الثورات في بروز الانقسامات القبلية والطائفية التي تشهدها بعض المجتمعات العربية التي ثارت. وبعض هذا الجدل ينطلق من حرص وقلق حقيقيين على حاضر ومستقبل البلدان، وكيف يمكن أن ينبي بطريقة صحية وفعالة، وبعضه الآخر ينطلق من مساندة مبطنة أو صريحة للاستبداد. يقول كثيرون إن هذه الانقسامات كانت نائمة أو غائبة ولم تستيقظ إلا على ضجيج الانتفاضات ونفضها لكل ما كان ساكناً و"مستقرّاً". وثمة مقارنة تسطيحية، ربما في كل حالة، ترسم دوماً تناظراً بين أوضاع البلدان المنتفضة قبل وبعد الانتفاضات. ومن ناحية ظاهرية مباشرة اندفع كثير من العفن الراكد طويلاً في عمق المجتمعات إلى سطحها فور سقوط الديكتاتوريات وأنظمة الاستبداد، ومن السذاجة عدم توقع هذا بطبيعة الحال. ومن السذاجة أيضاً محاولة نسبة التوترات الاجتماعية وعفن الانقسامات مباشرة إلى الثورات وكأنها سبب وجود تلك الانقسامات، فهي موجودة هناك منذ أزمان طويلة، وما فعلته الثورات هو أنها كشفتها فقط.
والحال أن الثورات والتغيرات الاجتماعية والسياسية الحادة والعارمة تماثل العواصف في قوتها وفي عمق الاهتزازات التي تحدثها في "الوضع القائم". ومن البداهة أن تحتاج المجتمعات بعد تلك العواصف إلى فترات زمنية ليست بالقصيرة كي تعيد بناء استقرارها من جديد لكن في مناخ مختلف هذه المرة: مناخ الحرية. وفي مناخات الحرية تنتعش كل التعبيرات والطموحات والتطلعات التي كانت قد قُمعت خلال حقبة الاستبداد المديدة. كما تنتعش في ذات الوقت الأمراض والاختلالات والتشظيات التي بقيت على حالها طيلة عقود من دون أن تتم معالجتها بالتدريج، ومن ذلك الانقسامات القبلية والطائفية.
ومن ناحية أولية ومعرفية، من المهم تقرير حقيقة بشرية وتاريخية عابرة للمجتمعات والبلدان هي أن الانقسامات الاجتماعية مختلفة العناوين، الإثنية، والدينية، والعشائرية، والولائية، هي سمة عامة تتصف بها كل مجتمعات العالم في كل العصور. وأهمية هذا الإقرار تكمن في نفيه لأية "خصوصية عربية" تريد أن تزعم أن هذه الانقسامات حصرية في العرب وبنياتهم المجتمعية. هذا في حين أن كل بلدان العالم من شرقه إلى غربه قائمة على مجموعات بشرية غير متجانسة كليّاً، وكثير منها متعدد الأعراق والثقافات والديانات والطوائف واللغات. وهذا التعدد والاختلاف لا يعيب أي مجتمع من المجتمعات، بل لقد تطورت النظرة إلى هذا التعدد لترقيه إلى مصاف الغنى والثراء الذي يتفوق به مجتمع على آخر. وبمعنى آخر، لقد تمكنت المجتمعات التي استوعبت تعدد واختلاف الشرائح والمجموعات التي تشكل مكونات شعبها من تحويل هذا الاختلاف (أو الانقسام وعدم التجانس) إلى مصدر قوة لا ضعف. ولم يتحقق ذلك بين عشية وضحاها بطبيعة الحال، بل عبر سيرورة اجتماعية وسياسية واقتصادية طويلة الأمد وعميقة التأثير. ولكن النجاح في إنجازه قام على وعي بالمآل والشكل الذي تم استهداف الوصول إليه، ووعي بآليات تحقيق ذلك.
المآل والشكل الذي أصرت تلك المجتمعات على الوصول إليه هو دولة القانون والمواطنة القائمة على أركان الحرية والديمقراطية والمساواة التامة أمام الدستور بين الأفراد، نصّاً وتطبيقاً، بغض النظر عن أصولهم وطوائفهم وإثنياتهم ودياناتهم. وآليات تجسيد ذلك المآل على الأرض تعددت وتنوعت ولكنها ابتدأت بمواجهة واقعة الاختلاف نفسها، ولم تكنسها تحت السطح وتدعِ عدم وجودها، وتتباهى بسذاجة طفولية بأن الشعب كله منسجم ومتحاب ولا فروق بين مكوناته. ثم اشتغلت آليات الاجتماع والحرية والاقتصاد والفرص المتكافئة وحماية القانون للأفراد من تغول الدولة أو أي تغول آخر على تعزيز فكرة المواطن الذي يرى في القانون نصيراً له، وفي الدولة الإطار الذي يستحق تمحيضه الولاء الأول، على حساب كل الولاءات الفرعية الأخرى. عبر عقود طويلة تفككت الولاءات الغريزية والعصبوية وتحول الانتماء إلى طائفة معينة، أو إثنية مختلفة، أو لغة مغايرة، إلى فلكلور يُحتفى به وبالأبعاد الجمالية التي يضيفها على المشهد المجتمعي. لقد تم تقليم أظافر الطائفيات والإثنيات بآليات طوعية، وليس قسرية، وعن طريق أفرادها هم، ولم تعد لها أسنان تستطيع أن تنشبها في أي طرف من جسم المجتمع.
لم تشتغل هذه السيرورات في بلداننا العربية مع الأسف، ولم تهتم بعض النخب الحاكمة المُستبدة بأي مآلات أو آليات تقود الشكل السياسي في مجتمعاتنا إلى دول قانون ودستور قائمة على المواطنة والمساواة التامة. والآلية الوحيدة التي نجح الاستبداد في تطبيقها كانت القمع الشديد لكل أشكال الاختلاف الإثني والطائفي (غير الموالي للنظام بالطبع، وتعزيز المُوالي)، وطمره تحت السطح. ولأن ذلك حدث بموازاة غياب فادح لأي آليات تبني مجتمعات صحية على قاعدة المساواة والتنافس المتكافئ، فقد تولدت عنه نتيجتان طبيعيتان تنافسان بعضهما بعضاً في مقدار التشوية والتدمير الذي تحدثه كل منهما في المجتمع، من ضمن نتائج كثيرة أخرى. النتيجة الأولى هي أن ثروات الدولة ومنافعها والفرص المُتاحة آلت جميعاً في قبضة النظام والجهات النافذة. وبسبب غياب القانون والقمع الأمني بطبيعة الحال فإن استغلال تلك الثروات لم يكن يواجه بمعارضة حقيقية توقفه عند حده، فتدهورت اقتصادات البلدان وإمكانات إحداث التقدم والتنمية فيها.
والنتيجة الثانية هي أن كل الولاءات القبلية والطائفية والإثنية والجهوية التي كانت سائدة ما قبل قيام دولة الاستقلال الوطني بقيت على حالها، ولم يتم صهرها في بوتقة دولة القانون والمواطنة. وقد أجبرت تلك الولاءات على التنحي والاختباء تحت السطح، ولكنها ظلت حادة ومشتعلة بل وخطيرة. ومكمن خطرها جاء من الواقع القمعي الذي عاشه الأفراد على يد الدولة الباطشة التي دفعتهم بسبب بطشها إلى الالتجاء إلى القبيلة، أو الطائفة، أو غير ذلك من أجل الاحتماء والشعور بالكينونة الفردية أو الجماعية. وكان من المُفترض أن تندرج تلك الولاءات الفرعية في حقبة دولة الاستقلال في منحنى تنازلي يفككها ويقلل من أهميتها، ويضعف من انتماء الفرد (المواطن) لها على حساب انتمائه للدولة وثقته بالقانون كأهم إطار للحماية وتوفير الرعاية. ولكن عوضاً عن ذلك فقد اندرجت في منحنى تصاعدي عزز من مكانتها وقوتها ومتانة الروابط بينها وبين الأفراد التابعين لها. وقد أصبحت الطائفة والقبيلة والمنطقة الجغرافية دولة داخل الدولة معنية برعاية التابعين لها بعيداً عن الدولة الأم اللاهية عن كل شيء سوى المحافظة على سيطرة النخبة الحاكمة.
ما قامت به الثورات العربية هو إنهاء هذا الوضع المريض وغير الصحي، وكشف كل العفن الطائفي والقبلي تحت الشمس، وهي الخطوة الأولى التي لابد منها، من أجل إضعافها وبناء دولة القانون والمواطنة. أما الإبقاء على الأمور كما كانت عليه فهو الاستمرار في خداع أنفسنا إلى أمدية طويلة قادمة.
www.deyaralnagab.com
|