logo
من يصدّق أمريكا بعد؟

بقلم : د. فيصل القاسم ... 1.10.07

لا أدري لماذا ما زال الإعلام العربي أوالعالمي يعير المزاعم والأقوال الأمريكية اهتماماً كبيراً؟ فلوكنت مكان وسائل الإعلام الدولية لتجاهلت أية تصريحات تصدر عن إدارة بوش الأمريكية، خاصة عندما تتعلق بتوجيه التهم لهذه الدولة أوتلك. لماذا تبدو ذاكرة الإعلام العربي والعالمي قصيرة كذاكرة الفيل؟ لماذا نسينا بهذه السرعة الرهيبة سلاسل الكذب الأمريكي السفسطائي المنظم؟
من يصدق أمريكا بعد كل أكاذيبها التي سبقت غزوها للعراق؟ لقد كانت كل التصريحات والأقوال الأمريكية قبيل الغزو مجرد سلسلة مفضوحة من التلفيقات والفبركات والمغالطات بشهادة الأمريكيين أنفسهم، فقد اعترف مثلاً وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول بأن كل الشهادات التي أدلى بها أمام مجلس الأمن الدولي بخصوص امتلاك العراق أسلحة دمار شامل كانت من بنات أفكاره وأفكار الإدارة الأمريكية وماكينات الكذب داخلها.
ثم اعترف نائب وزير الدفاع السابق بول وولفوتز بأن أزعومة حيازة العراق أسلحة نووية كانت لأسباب فنية وإدارية، لا أكثر ولا أقل. ويعترف عشرات الكتاب والخبراء والمسؤولين الأمريكيين في الفيلم التسجيلي الشهير " تسويق الغزو" الذي بثته بعض الفضائيات مؤخراً بأن البيت الأبيض كان يكذب بشكل مفضوح على طول الخط لتمرير الغزو بأي وسيلة.
بعبارة أخرى لقد غدا الأمريكيون رمزاً للتزوير ولي عنق الحقائق وتزييف الأمور، إلى حد أن أحد الكتاب الأمريكيين الساخرين اقترح على "جمعية الكذابين" في البلاد أن تقدم جائزتها السنوية التي تمنحها عادة لصاحب أغرب الأكاذيب للإدارة الأمريكية، على اعتبار أنها بزت كل أعضاء الجمعية في الكذب والفبركة. ويستشهد الكاتب بالكذبة الأمريكية "التاريخية" التي زعمت أجهزة الأمن الأمريكية من خلالها أنها عثرت بعد مرور دقائق فقط على انهيار برجي مبنى التجارة الدولي في نيويورك على جواز سفر أحد الانتحاريين الذين شاركوا في تفجير البرجين بواسطة الطائرات. لاحظوا أن كل شيء بما فيه الإسمنت المسلح والفولاذ الصلب وناطحات السحاب قد انصهرت بفعل اصطدام الطائرتين بالبرجين، بينما ظل جواز سفر أحد الانتحاريين على قيد الحياة سالماً غانماً!!!
لقد كانت فعلاً كذبة من العيار الثقيل جداً. هل يُعقل أن المحققين استطاعوا العثور على بقايا جواز سفر وسط ألوف الأطنان من الحطام والركام بهذه السرعة الرهيبة؟ إنهم كمن يبحث عن ابرة في كومة قش عملاقة، وهو مثل يضربه الناس عادة عندما يريدون أن يبرهنوا على استحالة تحقيق أمر ما. لكن من قال إن المستحيل عصي على آلة الكذب الأمريكية؟ لقد تمكن المحققون من العثور على الإبرة، و"اللي مش عاجبو يشرب من مية البحر الأصفر"!
لكن بالرغم من اعتراف المسؤولين الأمريكيين بأنهم كذابون من الطراز الأول فيما يخص غزو العراق وأفغانستان وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أنهم ما زالوا يكررون الأكاذيب ذاتها مع اختلاف الضحية هذه المرة. لا نريد أن نقول لهم: العبوا غيرها"، لأنهم قوم لا يخجلون أبداً، ولا يتورعون عن تكرار السيناريوهات المفبركة نفسها لتمرير مخططاتهم على مرأى ومسمع الإعلام العالمي. والغريب في الأمر أن الإعلام ما زال يتعامل معها على أنها جديرة بالنشر والمناقشة.
ها هي أمريكا وإسرائيل الآن تتهمان سوريا بإنشاء موقع نووي بالتعاون مع كوريا الشمالية، وهي نفس التهمة التي ألصقتاها بالعراق، ودمرتاه على أساسها، حتى تبين لاحقاً للعالم أجمع أنها كذبة شنيعة يجب أن يُحاكم مروجوها ويعاقبوا عقاباً مريراً.
ألا يخجل الأمريكيون والإسرائيليون من توجيه تلك التهمة المضحكة لدمشق بعد كل أكاذيبهم وفبركاتهم السابقة التي لم تعد تنطلي حتى على تلاميذ المدارس؟ أليس حرياً بكل وسيلة إعلام عربية وعالمية تحترم نفسها أن تعرض الاتهامات الأمريكية لهذا البلد أوذاك من الآن فصاعداً على شكل نكات و"قفشات" ترفيهية على طريقة الكاميرا الخفية أكثر منها كتـُهَم جديرة بالتصديق والنقاش؟
لقد علق أحدهم ساخراً على الكذب الأمريكي: "بإمكانك أن تعرف متى يكذب المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون: عندما يتكلمون"، أي أن كل ما يندلق من أفواههم من كلام في السنوات الأخيرة كان عبارة عن كذب بكذب. ولعلهم بهذه السياسة الغوبلزية يحيون المدرسة السفسطائية اليونانية القديمة البائدة سيئة الصيت القائمة على مركــّب من الوهميات، وفساد المنطق، وتزييف الحقائق، وتضليل الناس، وإنكار البديهيات، وما قبله العقل السليم.
وقد أصاب المفكر التونسي أبويعرب المرزوقي كبد الحقيقة عندما عنون أحد بحوثه حول امبراطورية الكذب والتضليل الأمريكية بـ" السفسطائية المحدثة وكيفية حضورها في الهيمنة الأمريكية: قديم اليونان "الفاسد" يُستعاد من دون أفلاطون وأرسطو".
فما أحوجنا إلى آلاف الإعلاميين والمفكرين من طراز الفلاسفة اليونانيين هذه الأيام لمواجهة السفسطائية الأمريكية المرعبة بقيادة (بروتاغوراس وكراتيلوس) الأمريكيين وغيرهما ونسفها من أساسها، كما فعل أفلاطون وأرسطو مع السفسطائية اليونانية القذرة التي تنــدّر الإغريق بسقوطها الخلقي والأخلاقي، وشدة بؤسها وفسادها الإعلامي.


www.deyaralnagab.com