نتذكّرك أكثر في هذه الأيّام !
بقلم : رشاد أبوشاور ... 3.10.07
لم يخطر ببال روّاد النهضة والاستقلال ووحدة الأمّة العربيّة في دولة واحدة، رافعي العلم ذي الألوان الثلاثة: الأحمر بلون دماء شهداء الاستقلال، الأسود بلون الحقد علي الأعداء، الأبيض بلون طهارة قلوب عرب يطمحون للحريّة ويحلمون بغد مشرق عزيز.. أن ينحط أحفادهم بأحلامهم وتضحياتهم حتى هذا الهوان غير المسبوق في تاريخ أمتنا، وأن يضحوا لعبةً أرضا وبشرا وتاريخا وجغرافيا، فهم لا يمضون إلي الأمام، ولكنهم يهوون في هوّة فاغرة يرونها ولا يتجنبونها، ويغذّون إليها الخطي منوّمين، يسبقهم قادة وحكّام متخمو الأجساد، فقراء العقول والنفوس، ضحلو الطموحات، هم قبل العدو الخارجي السبب الرئيس في كّل هذا الهوان والخراب والتفكك والانحطاط.
قبل تسعة عقود بالتمام والكمال، جلس وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا، ومددا خارطة بلاد العرب علي المائدة تحت أنظارهما، واقتسما المشرق العربي: سوريّة، فلسطين، الأردن، العراق، لبنان.
لعنت الأجيال في كل بلاد العرب سايكس و..بيكو، اللذين مزّقا وطنهم الواحد بأقطاره الخارجة من الانضواء تحت هيمنة بني عثمان، والخلافة الوراثيّة، والتخلّف الشرقي المزمن.
أفرغت بريطانيا الثورة العربيّة الكبرى من الطموح، والآمال، وحلم الدولة العربيّة الواحدة الممتدّة من جبال طوروس إلي الخليج، ومع فرنسا، اقتسمت بلاد العرب، على اعتبار أنها غنيمة حرب انتصرتا فيها، وأدارتا الظهر للحلفاء العرب المخدوعين بالوعود.
ما زال حكّام، وقادة العرب ينخدعون بالوعود، متوارثين الغفلة، والسذاجة، والقبول بما قسّمه لهم سايكس وبيكو، مكرسّين كيانات إقليميّة هشّة التكوين، معادية للوحدة، معوّقة للتقدّم والتطوّر.
بعد تسعة عقود من دول ملفقّة، واستقلال شكلي، وحكّام فتكوا بالإنسان العربي، وشوهوا نفسه وروحه وعقله، وتوارثوه، ووضعوه خارج الزمان والمكان..والعصر، لم تتحقّق الوحدة، بل تكرّست التجزئة، وامتلك الكونغرس الأمريكي جسارة فاقت وقاحة وصلافة واستهتار وزير خارجيّة الإمبراطوريّة البريطانيّة بلفور، وطغيان الإمبراطوريتين البريطانيّة والفرنسيّة ممثلتين بسايكس وبيكو، فعقد جلسة قرّر فيها مصير العراق، مقترحا أن يمزّقه إلي ثلاث دول بدلاً من دولة واحدة!
هذه هي حقيقة أهداف اجتياح العراق، لا إبدال (الدكتاتوريّة) بديمقراطيّة الإمبراطوريّة الأمريكيّة: النفط و..تقسيم العراق بحيث لا تقوم له قائمة، فلا يكون سندا لأمته، عامل قوّة، بل عامل ضعف، ومقدّمة لتقسيم أقطار عربيّة قريبة في المشرق، أو نائية في المغرب العربي، والألغام الدينيّة، والإثنيّة..مفخخة وجاهزة!
ولأن قرار الكونغرس الأمريكي دهمنا في أيلول، فإننا لا بدّ أن نستذكر حدثا وحدويّا أجهض في أيلول عام 61، وكان مقدمّة لنكبات ومآس، وانكسارات، نجمت عنه.
في شباط 1958 أعلنت وحدة مصر وسوريّة في دولة عربيّة واحدة هي الجمهوريّة العربيّة المتحدة، بإقليميها الشمالي: سوريّة، والجنوبي: مصر و..بقيادة جمال عبد الناصر.
أنا كنت أعيش هناك في سوريّة، وكالجماهير الدمشقيّة لم أنم ليلة انتظار قدوم (ناصر)، وظللت مع زملائي نتجوّل في قلب دمشق، حيث مئات الألوف يفترشون الطرقات والأرصفة، يتناولون طعامهم، يتحادثون بمرح على (كتف) بردى كما لو أنهم عائلة واحدة، أسرة واحدة يجمعها شارع واحد يتجوّل في حارات دمشق العتيقة: الميدان، الشاغور، باب مصلّي، العمارة، القنوات، ركن الدين، شيخ محي الدين ـ نسبة للشيخ محي الدين ابن عربي ـ باب توما، القصّاع، سوق ساروجة، ...المرجة قلب دمشق، وموئل احتفالاتها... عراضات تحمل منشدين علي الأكف، ورجال بشراويل سوداء وقمصان بيضاء هفهافة، يلوّحون بالسيوف.. كأن حسن الخرّاظ، والوزير الشجاع يوسف العظمة، والشيخ صالح العلي، وإبراهيم هنانو و..الحي آنذاك قائد الثورة السوريّة الكبرى: سلطان باشا الأطرش ترف أرواحهم، كأن شهداء الاستقلال الذين علّقهم جمال باشا السفّاح، يعودون ليباركوا هذا الحدث الذي نادوا به، وعلّقوا علي المشانق في سبيله.
لم نكن نحن الفتية الأبرياء نخمّن حجم القوى التي تكيد للوحدة، وتبدأ العمل لإفشالها، وكسر الحلم بها حتى لا يعود أحد لذكرها.
من كان يتوقّع أن يتقاطع اليساري الماركسي مع الإخواني، مع الشعوبيين المتفشين في جسد الأمّة، مع النفطيين المتاجرين بالإسلام، مع الصهاينة، مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا، مع رموز الإقطاع في سوريّة، في حلف واحد غير معلن، هدفه إفشال وحدة مصر وسوريّة ؟!...
قبل أيام قليلة مرّت ذكرى الانفصال!
ومن جديد عادت ذكرى حدث فاجع: رحيل القائد جمال عبد الناصر، في 28 أيلول 1970..نفس يوم الانفصال الذي قتل حلم هذا القائد الذي ستبكيه الأمّة جيلاً بعد جيل، وستذكر وقائعه، وتقرأ إخفاقات مشروعه، وتمضي وراء الأهداف التي رحل ولم يفرّط بها، بل رحل بسبب التشبّث بها! في ذكرى الانفصال، ورحيل جمال عبد الناصر، ناقش الكونغرس الأمريكي بأعضائه المتصهينين مصير العراق، وقرّر أن يجزئه ثلاث دول!
هذا ختام الديمقراطيّة الموعودة: موت العراقيين اليومي، وهربهم من بلدهم، وتحويل وطنهم إلى دويلات طائفيّة، ونهب نفطهم، وسرقة تراثهم الحضاري العريق والاتجار به، وجعله فرجةً في متاحف الغرب، لتحرم منه الأجيال العراقيّة بما يمثله ثقافةً وانتماءً وتواصل أجيال.
( العرب) الذين تآمروا على العراق، وجعلوا من أراض يحكمونها قواعد انطلاق للعدوان الأمريكي الصهيوني، هم من يتحملون أولاً وقبل إدارة بوش والمتصهينين في الكونغرس والإدارة، وزر هذه الجريمة التي ستجتاح دولهم بنارها المسعورة، فالتقسيم الأمريكي الطائفي في العراق لن يتوقّف داخل حدود العراق، بل ستمتّد نيرانه لتحرق، وهيهات أن يطفأ الحريق!...
الطغاة العرب المتفرّجون علي كارثة العراق، والعملاء الذين نقلهم المارينز ونصّبوهم حكاما على الخراب والموت والجنون الطائفي..هؤلاء هم من يحاربون وحدة الأمة بالإقليميّة و..الطائفيّة، وهم من مددوا جسد العراق على مائدة الكونغرس، وتحت دبابات المارينز...
في هذه الأيام نستذكر وقفة جمال عبد الناصر على شرفة قصر الضيافة في دمشق، معلنا بكبرياء وعزّة ونخوة عربيّة، متحديا التهديدات الأمريكيّة لثورة العراق في تموّز 58: نحن نقف مع شعب العراق، وثورة شعب العراق بالسلاح..
www.deyaralnagab.com
|